رغم الملفات العديدة التي تجمع العراق وسوريا وإمكانية الاستفادة منها للبدء بتطبيع العلاقات بين البلدين بعد سقوط الأسد في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، كملف النفط والتجارة بين البلدين ومياه نهر الفرات وممر الطاقة الدولي، لا تزال هناك العديد من الملفات الشائكة بين بغداد ودمشق والتي لا تزال بحاجة لتفاهمات معمقة.
يعد ملف حزب العمال الكردستاني الذي تصنفه تركيا “إرهابيًا” والذي ينتشر مقاتلوه في أجزاء من سوريا والعراق وجنوب تركيا واحدًا من الملفات الشائكة بين البلدين، إضافة إلى ملف مكافحة الارهاب وتبعات عمل الميليشيات العراقية التي كانت داعمة لنظام الأسد وملف السياحة الدينية.
كل هذه الملفات تعد قضايا بالغة الحساسية لكل من دمشق وبغداد بانتظار حلها أو وضع خطوط عريضة لكيفية التعامل معها، وهو ما يعده مراقبون مرحلة متقدمة في محادثات البلدين التي يمكن أن ترى النور في حال تنفيذ ما اتفق عليه خلال لقاء رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني والرئيس السوري أحمد الشرع في العاصمة القطرية الدوحة منتصف شهر أبريل/ نيسان الماضي.
التفاهمات حول بعض هذه الملفات شهدت نقاشات معمقة أيضًا خلال الزيارة الأخيرة لرئيس المخابرات العراقي حميد الشطري إلى العاصمة السورية دمشق في 25 أبريل/ نيسان الماضي ولقاءه الرئيس الشرع، بانتظار ما قد تؤول إليه هذه الملفات التي قد تكون حاضرة بقوة خلال القمة العربية القادمة التي ستنعقد ببغداد في النصف الأول من شهر مايو/ أيار الجاري.
ملف حزب العمال الكردستاني
لا يعد ملف انتشار مقاتلي حزب العمال الكردستاني في سوريا قديم عهد كما في العراق الذي بدأ تغول هذا الحزب في أراضيه منذ عام 2003، فوجود حزب العمال الكردستاني في سوريا في العقود الحديثة بدأ مع بداية الثورة السورية، لا سيما في المثلث العراقي السوري التركي، وذلك بعد أن فقدت قوات النظام السوري السابق السيطرة على أجزاء كبيرة من شمال شرق سوريا، وخاصة في محافظة الحسكة، واستغلال مقاتلي العمال الكردستاني الوضع ووجودهم على الحدود العراقية السورية، لا سيما في مدينة سنجار أقصى شمال غرب العراق للدخول إلى الأراضي السورية والتحامهم مع أكراد سوريا وتشكيل ما يعرف بقوات سوريا الديمقراطية.
ويؤكد هذه التفاصيل الخبير الأمني العراقي حسن العبيدي الذي يرى أن حل مشكلة حزب العمال الكردستاني في العراق وسوريا كملف مشترك يعد ملفًا ممكن الحل في المدى المنظور اعتمادًا على ما ستؤول إليه محاولات تركيا لحل حزب العمال الكردستاني.
ويشير العبيدي في حديثه لـ”نون بوست” إلى أن وجود الحزب في كلا البلدين مختلف من ناحية الانتشار والدعم السياسي، لافتًا إلى أن إقليم كردستان العراق والقيادة السياسية فيه تنأى بنفسها عن حزب العمال الكردستاني وغالبًا ما تتهمه بالتسبب بمشاكل للإقليم.
على الجانب الآخر من الحدود، وتحديدًا في سوريا، يقول العبيدي إن ملف حزب العمال لا يزال بحاجة لوقت لأجل حلحلة معضلته، مضيفًا: “حتى في ظل الاتفاق الذي وقّع بين زعيم قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي والرئيس السوري أحمد الشرع حول التفاهم على انضمام الأكراد السوريين سياسيًا وعسكريًا للحكومة السورية الجديدة، فإن وجود مقاتلي حزب العمال في سوريا – تحت مسمى وحدات حماية الشعب -لا يزال شائكًا وبحاجة لمزيد من بناء الثقة بين الطرفين والمضي بتفاهمات لإخراج المقاتلين الأجانب من سوريا”.
وكان عبد الله أوجلان -الزعيم التاريخي لحزب العمال الكردستاني- قد وجه، نهاية فبراير/ شباط 2025، دعوة لحل الحزب وإلقاء السلاح والوقف الفوري لإطاق النار، مؤكدًا أنه يتحمل المسؤولية التاريخية عن هذه الدعوة، وقال: “لا سبيل سوى الديمقراطية والحوار الديمقراطي ولا بقاء للجمهورية إلا بالديمقراطية الأخوية”، مضيفًا أن “لغة العصر هي السلام والمجتمع الديمقراطي بحاجة إلى التطوير”.
من جانبه، أعلن حزب العمال الكردستاني، يوم 2 مارس/آذار 2025، أنه قرر الامتثال لدعوة زعيمه بالتخلي عن السلاح وإعلان وقف فوري لإطلاق النار، في خطوة قد تؤدي إلى إنهاء صراع مستمر منذ أكثر من 40 عامًا مع تركيا.
ملف مكافحة الإرهاب
يركز العراق في جل محادثاته -عقب سقوط نظام الأسد- مع الحكومة السورية الجديدة على ملف مكافحة الإرهاب وضبط الحدود بين البلدين، ويأتي التركيز العراقي على هذا -الملف الحساس بالنسبة لبغداد- انطلاقًا مما حدث صيف عام 2014 والاختراق الحدودي الضخم بين البلدين على يد تنظيم داعش الذي كسر مساحات شاسعة منها بعدما سيطر مقاتلوه على مساحات شاسعة من العراق وسوريا، قبل أن تتمكن القوات العراقية من استعادة أراضي البلاد بعد قتال ضار استمر 3 سنوات وكلف عشرات آلاف الضحايا ودمارًا هائلًا في 4 محافظات عراقية.
وجاءت زيارة رئيس المخابرات العراقي حميد الشطري إلى دمشق في 25 أبريل/ نيسان الماضي لتؤكد على ضرورة ضبط الحدود بين البلدين ومكافحة تنظيم داعش، حيث نقل بيان لوكالة الأنباء العراقية (واع) عن مصدر رفيع ضمن الوفد العراقي أن الوفد العراقي بحث مع الجانب السوري التعاون في مجال مكافحة الإرهاب، وتعزيز الترتيبات المتعلقة بتأمين الشريط الحدودي المشترك وتقويتها بالضدّ من أي خروقات أو تهديدات محتملة.
ولا يمثل ملف مكافحة الإرهاب بين العراق وسوريا أمرًا صعبًا، لا سيما في ظل قناعة كل من الحكومتين العراقية والسورية على أهمية ضبط الحدود وتأمين المعابر الحدودية ومحاربة تنظيم داعش بما يمهد لعودة العلاقات الفاعلة بين الطرفين والانطلاق نحو ملفات اقتصادية أكثر أهمية تعتمد على بسط الأمن على حدود البلدين.
ملف الميليشيات العراقية
يعد ملف عمل الفصائل المسلحة العراقية في سوريا أمرا بالغ الحساسية بالنسبة للسوريين بعد سقوط نظام الأسد، حيث تشير مراكز حقوقية سورية إلى أن آلاف السوريين فقدوا في مناطق تمركز الميليشيات العراقية في سوريا، لا سيما بعد عام 2012 وتغلغل هذه الفصائل في سوريا حتى سقوط نظام بشار الأسد.
وتشير تقارير صحفية إلى أن أكثر من 12 فصيلًا مسلحًا عراقيًّا كان متواجدًا في سوريا حتى يونيو/ حزيران 2024 وبما لا يقل عن 6 آلاف مقاتل منتشر في مختلف المناطق السورية، حيت تركزَ وجودها في المناطق المتاخمة للحدود العراقية إضافة إلى تخوم محافظة إدلب في شمال غرب سوريا، فضلًا عن وجود معتبر في كل من حلب ودمشق.
وتشير المصادر إلى أن أعداد مقاتلي الفصائل العراقية تراجع كثيرًا خلال العامين السابقين لسقوط نظام الأسد بسبب الضربات الأميركية التي كانت تستهدف مقرات هذه الفصائل في البادية السورية وعلى مقربة من الحدود المشتركة مع العراق.
ويبدو أن هناك تفاوت كبير في تقدير عدد المقاتلين التابعين لفصائل عراقية في سوريا قبل سقوط الأسد، حيث تفاوتت أعدادهم على طول عمر الثورة السورية ما بين عشرات الآلاف وصولًا إلى تقليص أعدادهم في العامين الأخيرين من عمر النظام السوري.
ولا توجد إحصائيات موثوقة عن عدد السوريين الذي قتلوا أو فقدوا على يد الميليشيات العراقية في سوريا، بيد أن الشبكة السورية لحقوق الإنسان وفي تقريرها السنوي الذي نشرته على موقعها الرسمي في أغسطس/ آب 2024 أكدت إحصاء ما لا يقل عن 113218 شخصاً، بينهم 3129 طفلاً و6712 سيدة، لا يزالون قيد الاختفاء القسري على يد أطراف النزاع في سوريا منذ مارس/ آذار 2011.
وفيما يتعلق بالتبعات القانونية المترتبة على مشاركات مقاتلين أجانب في المجازر التي شهدتها سوريا، يفيد مراقبون أنه لا يزال الوقت مبكرًا للحديث عن هذه التبعات وملاحقة مرتكبي هذه المجازر على المستوى الإقليمي والدولي، حيث أن الحكومة السورية الجديدة لا تزال في بداية مشوارها في بسط الأمن داخل البلاد وملاحقة فلول النظام السابق وإعادة الإعمار واستتباب الأمن.
ملف المراقد الدينية
جاء ملف المراقد الدينية الشيعية في سوريا وحمايتها كأحد الملفات التي بحثها الجانبان العراقي والسوري بعد سقوط نظام الأسد، حيث يعد الشيعة مقام السيدة زينب جنوب العاصمة السورية دمشق أحد أهم المراقد الدينية الشيعية في سوريا نظرًا لاعتقاد الشيعة أن المرقد يضم قبر السيدة زينب بنت الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ويعد مرقد السيدة زينب ومن ثم مرقد السيدة رقية الذي يقع في قلب العاصمة السورية أهم المراقد الشيعية في سوريا، فضلًا عن مراقد أخرى في محافظة دير الزور شرقي البلاد، حيث توجد عدد من الحسينيات السورية، فضلًا عن حسينيات أخرى في مدينة الميادين وأخرى في مدينة البوكمال السورية على الحدود المشتركة مع العراق.
وكان مرقدا السيدة زينب والسيدة رقية مزارين للشيعة طيلة العقود الماضية، ولا سيما في العقدين الآخيرين، حيث يقول الخبير الأمني حسن العبيدي أن الثورة السورية وتدخل إيران في الملف السوري جعل من المراقد الشيعية في سوريا دافعًا سياسيًا مهمًا للإيرانيين وحلفاءهم من الميليشيات للانخراط في الأزمة السورية بعنف.
ورغم أن المراقد الشيعية بدمشق كانت تشهد زيارات مكثفة قبل الثورة السورية، إلا أن السوريين لم يكونوا يشكون من أي مضايقات أو تشنجات من هذه الزيارات التي كانت تشكل رافدًا ماليًا سياحيًا للاقتصاد السوري.
وبعد سقوط الأسد تراجع عدد الزوار الشيعة العراقيين والإيرانيين إلى سوريا، حيث اقتصر في الأسابيع الماضية على مجموعات عراقية زات مرقد السيدة زينب برعاية الحكومة السورية الجديدة التي تعهدت بالحفاظ على هذه المراقد وعدم المساس بها، وهو ما يراه الباحث الأمني حسن العبيدي مهمًا للغاية للحكومة السورية التي نجحت قبل 3 أشهر في إحباط مخطط إرهابي من تنظيم داعش لتفجير مرقد السيدة زينب.
ملفات عديدة تجمع العراق وسوريا، بعضها بدأ يجد طريقه للحل وبدأت المفاوضات لوضع الخطوط العريضة له مثل ملف الحدود ومكافحة الإرهاب، فيما لا تزال ملفات أخرى بانتظار تطبيع شامل للعلاقة بين البلدين وبانتظار التطورات السياسية والأمنية والجيوسياسية التي تحكم منطقة الشرق الأوسط.