لا شكّ أنّكِ صادفت الكثير من “الريلز” والمنشورات التي يخبرك فيها “المؤثرون الخبراء” أن على طفلك النوم من السابعة مساء، وأصابتكِ الدهشة حين شددوا على أن النوم في العاشرة متأخر جدًا لطفل، تراقبين كل هذا وأنت تحاولين تنييم طفلك الساعة الواحدة ليلًا.
ذات مرة سألتُ طبيب الأطفال عن مشاكل حقيقية يعاني منها طفلي في النوم، فأخبرني أن النوم مسألة نسبية. ولا أخفيكم أنني أشعر بالغضب تجاه كل الأطباء كلما تأخر أطفالي في النوم، فمن وجهة نظري؛ يجب أن يتكاتف العالم كله لحل هذه المعضلة التي تعكر صفو حياة الجميع ليلًا وصباحًا، الأم والأبناء وكل العائلة!
حين تبحثين عن إجابات لاضطرابات النوم المتعلقة بأبنائك ستحصلين على عشرات الإجابات المتشابهة، مثل روتين النوم ونوعية الطعام ودرجة حرارة المكان، وسيخبرك آخرون بإجابات خارج الصندوق مثل مشكلة “الفومو” (رفض الأطفال للنوم خوفًا من أن يفوتهم أي شيء من نشاطات العائلة)، لكن قد تكون نافذتك نحو الفهم والحل موجودة بمكان آخر نستكشفه سويًا في هذا التقرير.
هل سبق أن سمعت باضطراب التكامل الحسي؟ قد يكون المسؤول عن مشاكل أطفالك مع النوم.
تنبيه للأمهات والآباء: تبدو مصطلحات هذا المقال صعبة وأكاديمية وغريبة، رجاءً لا تتوتروا منها، إذ شيئًا فشيئًا ستكتشفون أنها تعبّر عمّا تعيشونه مع أطفالكم، وستصبح أوضح كلما مضيتم في القراءة.
ما هو اضطراب التكامل الحسي؟
بداية، تخبرنا أخصائية العلاج الوظيفي المختصة في تطور الطفل، منتهى منصور، أن الجهاز العصبي عند حديثي الولادة يكون غير ناضج ويعتمد الوليد في هذه المرحلة على الاستجابات الانعكاسية، حيث يستقبل الأحاسيس لكنه لا يستطيع معالجتها أو تنظيمها بشكل متكامل.
وفي السنة الأولى وحتى السنتين يبدأ الطفل باختبار العالم من خلال الحواس (اللمس والحركة والتوازن والسمع والنظر) وتبدأ مهارات التنظيم الحسي بالظهور تدريجيًا، مثل التهدئة الذاتية أو التفاعل مع المحيط وتظهر بوادر المعالجة الحسية.
ثم من عمر 3 سنوات حتى 7 سنوات، يبدأ التكامل الحسي بالنضوج، وتتحسن قدرة الطفل على التنظيم والتركيز والتكيف مع المحيط، ويصبح الطفل أكثر قدرة على التعلم من خلال الحركة والاستكشاف. ثم يقترب النظام الحسي من مرحلة النضج الكامل في سن 10 سنوات وما فوق، وتصبح استجابة الدماغ للمعلومات الحسية أكثر دقة وتنظيمًا، ويمكن للطفل الاعتماد على حواسه في التخطيط الحركي والتركيز والتفاعل الاجتماعي بشكل أفضل.
أي أن التكامل الحسي ليس مهارة تظهر فجأة، بل هو سلسلة تطورات عصبية تبدأ من الولادة وتستمر حتى سن المراهقة، تقول الأخصائية منتهى منصور.

أما اضطراب التكامل الحسي في مرحلة الطفولة المبكرة، فيعرف بأنه خلل عصبي يجعل دماغ الطفل عاجزًا عن تنظيم ومعالجة المدخلات الحسية القادمة من البيئة ومن جسمه بشكل مناسب. وبدلًا من أن تدمج الأصوات والحركة واللمس والضغط الجسدي في تجربة متجانسة تسمح للطفل بالتصرف الطبيعي، تتحول هذه المدخلات إلى “فوضى حسية” تربك الجهاز العصبي وتخرج الطفل عن توازنه.
يلاحظ هذا النوع من الاضطرابات غالبًا لدى الأطفال المصابين باضطرابات نمائية أخرى مثل التوحد وفرط الحركة وتشتت الانتباه والتأخر النمائي العام. وتشير الأبحاث إلى أن 90% من الأطفال المصابين بالتوحد، وحوالي نصف المصابين بفرط الحركة، يظهرون صعوبات في المعالجة الحسية. ولكن من المهم أن نعرف أن اضطراب التكامل الحسي لا يقتصر على هؤلاء فقط — إذ يمكن أن يظهر أيضًا لدى أطفال لا يعانون من أي اضطراب نمائي ظاهر، مما يجعل اكتشافه وتفهمه أكثر صعوبة.
تختلف حدة الاضطراب من طفل لآخر بشكل كبير، إذ يظهر بعض الأطفال استجابات طفيفة فقط (مثل رفض نوع معين من الملابس)، بينما يظهر آخرون سلوكيات قوية تعيق اندماجهم في النشاطات اليومية. وتعتمد درجة الحدة على نوع الاضطراب الحسي والبيئة المحيطة (من حيث كثافة المثيرات كالأصوات والأضواء) ودرجة نضج الجهاز العصبي في تنظيم الاستثارة والاستجابة الحسية.
كما أشارت دراسة حديثة أن الأطفال طبيعي النمو قد يظهرون أعراضًا من هذه الأنماط بدرجات خفيفة إلى متوسطة، وقد تختفي تدريجيًا مع النضج العصبي والدعم المناسب.
لا يعتبر اضطراب التكامل الحسي مرضًا مزمنًا، بل هو نمط عصبي يمكن تعديله وتحسينه. فمثلًا عند الأطفال الذين لا يعانون من اضطرابات نمائية مصاحبة، تتحسن الأعراض بشكل ملحوظ مع الوقت والدعم المناسب، خصوصًا عبر العلاج الوظيفي القائم على التكامل الحسي.
وترى الأخصائية منتهى منصور أنه في كثير من هذه الحالات يمكن أن تتحسن استجابتهم الحسية مع الوقت، وذلك بسبب نمو الجهاز العصبي وتقدم عمر الطفل، ويعود ذلك إلى التغيرات الطبيعية التي تحدث في نضج الدماغ والمسارات العصبية والخبرات الحسية المتكررة التي تساعد على التكيف، بالإضافة إلى البيئة الداعمة والتجارب الغنية بالحركة واللعب فضلًا عن الدعم العلاجي المبكر الذي يعزز من قدرات التنظيم الحسي.
أما في الحالات الشديدة أو المصاحبة لتشخيصات أخرى، فقد يحتاج الطفل إلى دعم طويل الأمد.
كيف يؤثر اضطراب التكامل الحسي على النوم؟
لكن ما هي أبرز مشاكل النوم الملحوظة لدى الأطفال الذين يعانون من اضطراب التكامل الحسي؟
- مقاومة الذهاب إلى الفراش
- القلق عند موعد النوم
- صعوبة بدء النوم
- الاستيقاظ المتكرر ليلًا
- قصر مدة النوم العميق.
ويعزى ذلك إلى تأثير الأنماط الحسية المختلفة على الجهاز العصبي، وكذلك إلى خلل في الأنظمة الحسية العميقة.
ولا تأتي اضطرابات التكامل الحسي على صورة واحدة، بل تنقسم إلى أنماط متعددة، يختبر الطفل في كل منها العالم بطريقة مختلفة تمامًا، بحسب دراسة أعدها عدد من العلماء والباحثين، ونشرتها المجلة الأمريكية للعلاج المهني، يمكننا تلخيصها بالتالي:
- فرط الاستجابة الحسية: ويكون الجهاز العصبي في هذا النوع شديد الحساسية للمثيرات، حتى تلك العادية. قد يزعج الطفل صوت خافت أو يرفض أن يلمسه أحد أو يبكي من ضوء الغرفة. هذه الاستجابات المفرطة تمنعه من الدخول في حالة الاسترخاء، ما يؤدي إلى صعوبة في بدء النوم ونوم مجزأ واستيقاظ متكرر، قد يستيقظ الأطفال ذوو الحساسية العالية لأدنى محفز بيئي أثناء الليل. ويشعر الطفل كأن العالم حوله دائمًا أعلى صوتًا وأسطع ضوءًا وأقوى من اللازم وتبدو اللمسة الخفيفة كأنها لسعة كهرباء.
- نقص الاستجابة الحسية: لا يشعر الأطفال المصابون بهذا النوع بالمثيرات كفاية ولا ينتبهون للتفاصيل التي تحفز بقية الأطفال مثل الألم أو البرد أو الضوضاء، وقد لا يدرك هؤلاء الأطفال إشارات الجسد التي تدل على وقت النوم أو المؤشرات الخارجية مثل الإضاءة المنخفضة أو المؤشرات الداخلية مثل التعب والإرهاق، ما قد يؤدي إلى صعوبة الدخول في حالة النعاس أو إلى نوم غير منتظم، ويشعر الطفل كأنه “مفصول” عن العالم وكل شيء باهت وغير كافٍ لإيقاظ دماغه أو دفعه للاستجابة.
- السعي الحسي: ويبحث الطفل في هذه الحالة بشكل مفرط عن التحفيز: يتشقلب ويقفز ويلمس كل شيء ويبدو كأنه لا يستطيع التوقف. يؤدي هذا النشاط الزائد قبل النوم إلى تأخير الاستغراق في النوم، إذ لا يشعر الطفل بالراحة إلا بعد كمية كبيرة من التحفيز الجسدي، كأن جسم الطفل يريد المزيد والمزيد من الحركة أو الاحتكاك كي يشعر بالوجود، وتأتي الراحة من الاصطدام أو الدفع أو الاهتزاز وليس من السكون.
استيقاظ الأطفال فجرًا دون سبب واضح
من أكثر السلوكيات المحيرة لدى الأهل أن يستيقظ طفلهم في الساعة الثالثة أو الرابعة فجرًا دون وجود كابوس أو سبب واضح، ويبقى مستيقظًا لساعات، تفسير هذا السلوك يعود إلى عوامل عصبية عدة:
- اختلال ضغط النوم: بعض الأطفال لا يبنون ضغط نوم كافيًا (حاجة للنوم) خلال اليوم بسبب خلل في الاستجابة الحسية أو لأن دماغهم لا يوزع النوم بشكل طبيعي. لذلك، ينامون بعمق أول الليل ثم يستيقظون فجأة وكأن نومهم اكتمل.
- اضطراب وظائف الساعة البيولوجية: قد يعاني الطفل من خلل في توقيت إفراز الميلاتونين أو ارتفاع مبكر لهرمون الكورتيزول، ما يؤدي إلى يقظة فجائية قبل الفجر.
- فرط الاستثارة العصبية: الأطفال شديدي الحساسية يبقون في حالة تأهب جزئي حتى أثناء النوم فيستجيب دماغهم لأي محفز بسيط وكأنه وقت الاستيقاظ.
- غياب آليات التهدئة الذاتية: بعض الأطفال لا يعرفون كيف يعودون للنوم لوحدهم، ويزداد انتباههم بدلًا من أن يهدؤوا، مما يؤدي إلى يقظة كاملة.
يمكن تمييز أن الاستيقاظ الليلي أو الفجري لدى الطفل ناتج عن سبب حسي وليس سلوكيًا أو نفسيًا من خلال ملاحظة عدد من السمات المتكررة: فالطفل لا يطلب شيئًا محددًا عند استيقاظه، مثل الماء أو الحضن أو الإضاءة، ولا يبدو عليه الخوف أو الانزعاج، بل يظهر يقظًا وهادئًا في الوقت نفسه، وكأن جهازه العصبي خرج من وضع النوم فجأة دون محفز واضح.
ورغم توافر الظلام والهدوء لا يعود الطفل إلى النوم بسهولة، بل قد يبقى مستيقظًا لساعتين أو أكثر، والملفت أيضًا أن نومه في بداية الليل يكون غالبًا عميقًا وسليمًا، لكن الاستيقاظ يحدث فجأة في الفجر، ويستمر دون تفسير سلوكي ظاهر، ما يرجح وجود خلل في تنظيم الجهاز العصبي الحسي.
خلل الساعة البيولوجية والنوم السطحي
يؤثر اضطراب التكامل الحسي بشكل مباشر على النوم عبر مسارات متعددة تشمل الساعة البيولوجية والهرمونات والجهاز العصبي المركزي. في الوضع الطبيعي، تنظم الساعة البيولوجية لدى الأطفال مواعيد النوم واليقظة من خلال توازن بين هرموني الميلاتونين والكورتيزول، إذ يرتفع الميلاتونين مساءً ليساعد على النعاس، بينما ينخفض الكورتيزول لتهدئة الجهاز العصبي، لكن هذا التوازن يختل لدى الأطفال الذين يعانون من اضطراب التكامل الحسي.
إذ تظهر الدراسات أن أجسام الأطفال ذوي فرط الاستجابة الحسية غالبًا ما تبقي الكورتيزول مرتفعًا مساء بسبب التوتر العصبي الناتج عن فرط التحسس، ما يؤدي إلى تأخير أو تثبيط إفراز الميلاتونين، وهذا الخلل يجعل بدء النوم صعبًا ويؤدي إلى استيقاظات متكررة، في حين أن الأطفال الذين يعانون من انخفاض المعالجة الحسية قد لا يستجيبون كفاية لإشارات الظلام والهدوء، ما يؤدي إلى تأخر ارتفاع الميلاتونين، وتراجع في ضغط النوم المطلوب للغوص في نوم عميق وتثبيط الدورة الطبيعية للميلاتونين.
إن تحسين جودة نوم الطفل لا ينعكس فقط على قدرته على الاستغراق في النوم، بل يمتد أثره إلى قدرته على الانتباه وتنظيم المشاعر والتفاعل الاجتماعي ورفاهية العائلة ككل.
أي أن الجهاز العصبي عند الفئتين لا يهدأ بسهولة ليلًا. فذوو فرط الاستجابة يبقون في حالة تأهب مستمر، كما لو أن دماغهم يتعامل مع النوم كتهديد، لا كفرصة للراحة، أما منخفضو المعالجة، فغالبًا لا يشعر دماغهم بتغيير كافٍ بين حالتي اليقظة والنعاس، فيبقى “عالقًا” في نمط نشاط غير متزامن مع دورة النوم، إذ تُظهر أدمغتهم اتصالًا ضعيفًا بين الأجزاء التي تساعد الدماغ على الهدوء والتركيز، مما يعيق دخولهم في النوم العميق.
وقد وثّقت دراسات اضطرابات النوم عند الأطفال أن كفاءة النوم تنخفض بنسبة 28% لدى الأطفال منخفضي التسجيل الحسي و40% لدى مفرطي الحساسية، وتنعكس نتائج النوم السطحي في النهار على شكل إرهاق مزمن وسرعة انفعال وضعف تركيز.
تدخلات حسية لدعم نوم الطفل
إن تحسين جودة نوم الطفل لا ينعكس فقط على قدرته على الاستغراق في النوم، بل يمتد أثره إلى قدرته على الانتباه وتنظيم المشاعر والتفاعل الاجتماعي ورفاهية العائلة ككل.
ويتفق المختصصون على أن تحسين نوم الأطفال المصابين باضطراب التكامل الحسي يبدأ من فهم النمط الحسي لكل طفل، فالأطفال الذين يستجيبون بشكل مفرط للمحفزات يحتاجون إلى تقليل الضوء والصوت واللمس، بينما الأطفال منخفضو الاستجابة يحتاجون إلى مدخلات حسية قوية قبل النوم – مثل الضغط والحركة – لمساعدة الجهاز العصبي على الدخول في حالة الراحة.
ومن بين الأساليب الفعالة: التدليك المنتظم مساءً بضغط عميق وثابت، والحركة الإيقاعية الخفيفة مثل التأرجح أو المشي البطيء. أما أنشطة “العمل الثقيل” – كالقفز أو دفع الحائط – فيفضل أن تمارس قبل النوم بساعة إلى ساعتين، كي تهدئ ولا تنشط الطفل.
وترى الأخصائية منصور أن المساج الليلي المنتظم يُحدث فرقًا، إذ يساعد المساج العميق الجهاز العصبي على التهدئة ويحفز إنتاج السيروتونين الذي يتحول لاحقًا إلى الميلاتونين – هرمون النوم. ولكنه يحتاج إلى الاستمرارية و من الأفضل أن يكون جزءًا من روتين حسي متكامل يشمل الأنشطة النهارية أيضًا.
كما أن تهيئة البيئة الحسية ليلًا أيضًا أمر أساسي مثل الإضاءة الخافتة الدافئة والغرفة الهادئة وملمس الملابس المريح ودرجة حرارة متوازنة حسب استجابة الطفل،
ومن المهم أن نشير أخيرًا إلى إنه لا توجد بيئة مثالية للجميع، بل يجب تعديلها بناءً على الملف الحسي الفردي، لذا، فإن إشراف معالج وظيفي مختص يساعد في تصميم خطة حسية متكاملة، واختبار ما يصلح فعلًا، وما قد يؤدي إلى نتيجة عكسية، ومن ذلك إرشاد الأهل وتدريبهم على تطبيق الاستراتيجيات في المنزل.