بعد انتظار دام لسنوات طوال، أحال مجلس النواب (البرلمان) المصري مشروعي قانونين مقدمين من الحكومة بخصوص تنظيم أوضاع الإيجارات بعد انتهاء العقود، أو كما يعرف إعلاميًا بين المصريين بـ “قانون الإيجار القديم”، في محاولة لعلاج واحدة من أكثر الأزمات الاقتصادية الاجتماعية التي تعاني منها الساحة المصرية منذ عقود طويلة.
القانون الذي يمس حياة الملايين، مستأجرين وملاك، يهدف إلى وضع حلول جذرية لمعضلة الإيجار القديم في محاولة للتوصل إلى صيغة توافقية تٌرضي جميع الأطراف، وسط حالة ترقب لما تٌفضي إليه النقاشات داخل البرلمان، وذلك قبل الانتهاء من القانون المقترح البت فيه نهائيًا ورسميًا قبل نهاية دور الانعقاد الحالي، أي قبل نهاية شهر يوليو/تموز المقبل.
رئيس نقل النواب يكشف أهم ملامح قانون الإيجار القديم pic.twitter.com/AUxHDlQ1un
— Cairo 24 – القاهرة 24 (@cairo24_) April 29, 2025
ويُعد نظام الإيجار القديم واحد من أكثر القضايا السكنية جدلًا في مصر، وهو النظام المعمول به منذ 44 عامًا وفق القانون رقم 136 لسنة 1981 والذي يحدد العلاقة بين المالك والمستأجر، والذي بموجبه يستحوذ المستأجر على الوحدة المستأجرة لمدة 60 عامًا ويقوم بتوريثها للأبناء والأحفاد بقيمة إيجارية متدنية تصل في بعض الأحيان إلى 50 جنيهات، أي أقل من دولار واحد في الشهر، وهو ما أثار حفيظة الملاك الذي يطالبون بأحقيتهم في رفع الإيجار الشهري بما يتناسب مع أسعار اليوم.
وكان الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، قد طالب في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بضرورة وجود “قانون قوي وحاسم وسريع” لمعالجة مشكلة العقارات المطبق عليها قانون “الإيجار القديم”، وذلك بعد مطالب الملاك التي لا تتوقف واستغاثات المستأجرين من مصير قد يودي بهم في الشارع في حال عدم تمكنهم من الالتزام بالإيجارات الجديدة المقترحة.
عشرات الملايين بين ضحية ومتضرر
يعد نظام الإيجار القديم من الأنظمة ذات التقاطع المباشر مع مصالح وحياة الملايين من المصريين، إذ تشير التقديرات إلى وجود مليوني و800 ألف وحدة سكنية تخضع لقانون الإيجار القديم منها 450 ألف وحدة مغلقة، بحسب رئيس ائتلاف ملاك عقارات الإيجار القديم، مصطفى عبدالرحمن، فيما تتأرجح الأرقام الخاصة بالمستفيدين من تلك الوحدات، فهناك 1.6 مليون أسرة تسكن بهذا النظام، معظمهم في القاهرة (470 ألف أسرة) يشكلون نحو 25% من إجمالي أسر المحافظة البالغ سكانها 10.2 مليون نسمة وفق إحصاء 2023.
تليها محافظة الجيزة بـ19% من الأسر (308 ألف)، والبالغ إجمالي عدد سكانها 9.4 مليون نسمة، ثم الإسكندرية بـ13% من الأسر (213 ألف)، ويبلغ إجمالي سكانها 5.5 مليون نسمة، وفي المقابل هناك أكثر من 25 مليون مالك متضررون من استمرار العمل بهذا النظام الذي يشكل صداعا مزمنا للملايين من المصريين، ملاك ومستأجرين، ويمس حياتهم اليومية ومستقبلهم ويحدد بشكل كبير مصير استقرارهم الاجتماعي، ومن هنا استحوذ هذا القانون على اهتمام وترقب كافة أطياف المجتمع المصري، نخبة وعامة، سلطة وشعبًا، حكومة ومواطنين.
تسدد ثلث الأسر المستأجرة بعقود الإيجار القديم، أي تقريبًا 600 ألف أسرة، إيجارات تقل عن 50 جنيهًا (دولار واحد) في الشهر، بينما تسدد 20% من الأسر، أي حوالي 327 ألف أسرة إيجارات تتراوح بين 50 و100 جنيه (1 – 2 دولارًا) شهريًّا، أما الأسر التي ترتفع إيجاراتها الشهرية إلى ما بين 100 و200 جنيه (2 – 4 دولارات)، فتمثل 19% من الأسر أو 307 ألف أسرة.، فيما يسدد الثلث المتبقي من الأسر إيجارات تتراوح بين 200 (4 دولارات) إلى أعلى من 900 جنيه (18 دولار) شهريًّا، بحسب بحث لمرصد العمران نشره في نوفمبر/تشرين الثاني 2024
أزمة القانون الحالي
تعد مصر من أقدم الدول التي وضعت قوانين ولوائح لتنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر، والتي تأتي في جلها متحيزة للحلقة الأضعف وهو المستأجر، وتوفير سياج من الوقاية والحماية من تغول أصحاب الأملاك، البداية كان عام 1920 وهو القانون الذي قضى بعدم جواز إخراج المالك للمستأجر إلا بحكم محكمة.
وفي أثناء الحرب العالمية الثانية وتداعياتها على مصر بشكل مباشر وغير مباشر، أصدرت الحكومة المصرية وقتها قانونا عام 1941 يمنع بشكل بات وحازم المالك من رفع قيمة الإيجار أو طرد المستأجر، وذلك مراعاة للأوضاع الاقتصادية والمعيشية التي كانت تعاني منها الدولة في ذلك الوقت.
وبعد الإطاحة بالملكية وإعلان الجمهورية خمسينات القرن الماضي صدر عدد من القوانين التي تنتصر للمستأجر، وتُلزم المالك بخفض قيمة الإيجارات، كان أبرزها القانون رقم 136 لعام 1981 في شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، إذ حدد قيمة الإيجار بـ 7% من قيمة الأرض، وزيادة الإيجار للعقارات غير السكنية بقيمة تراوح ما بين 5- 30%.
ربما كانت القيمة الإيجارية بداية إصدار هذا القانون عادلة وفق مستوى الإيجارات والدخول والأسعار في ذلك الوقت، غير أن المعضلة الأبرز التي لم يفطن إليها هذا القانون أنه نص على ثبات الأجرة السنوية للأماكن المرخص في إقامتها لأغراض السكن اعتباراً من تاريخ العمل بأحكام هذا القانون وعدم زيادتها.
ملاك العقارات يحتجون ضد قانون #الإيجار_القديم مطالبين بـ"قيمة عادلة" لعقاراتهم pic.twitter.com/LqWmE9Z12u
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) February 20, 2023
لا شك أن المشرع استهدف من هذا النص تحديدًا حماية المستأجر من أي زيادة قد يٌقدم عليها ملاك العقارات، خاصة وأنهم قد حصلوا على حقوقهم العادلة بداية التعاقد، سواء كان في صورة مقدم عقد (خلو) وهو مبلغ يدفعه المستأجر للمالك قبل السكن ويكون مرتفع نسبيًا، أو من خلال الإيجار الشهر الذي كان مناسبًا حينها.
غير أن المشرع غفل أو لم يضع في الاعتبار الزيادات المستمرة في الأسعار، إذ لم يدر بخلده أن تنهار العملة الوطنية (الجنيه) بهذا الشكل أو أن تصل معدلات التضخم والأسعار لما وصلت إليه حاليًا، وهو ما أدى في النهاية إلى إحداث خلل كبير في التوازن في العلاقة الإيجارية بين المالك والمستأجر، إذ أنه ليس من المنطقي أن يظل المستأجر يسدد ما لا يقل عن دولار واحد إيجارًا شهريًا لوحدة سكنية تؤجر في نفس المبنى على النظام الجديد بأكثر من 500 دولار.
ومن هنا جاءت الأزمة، المستأجر الذي يرى أنه دفع قيمة الوحدة مقدمًا وبسعرها العادل وقتها، وأنفق علي تشطيبها مبالغ طائلة في ذلك الوقت، وبالتالي باتت من حقه وحق ورثته من بعده، وفق القانون المعمول به منذ 44 عامًا، والمالك الذي يستشعر الاحتقان جراء هذا البون الرهيب بين الأجرة التي يتحصل عليها من تأجير وحدته بنظام الإيجار القديم وبين ما يراه بأم عينه اليوم من أرقام فلكية، مطالبًا بحقه، إما في استرداد وحدته أو تقييمها بسعر اليوم.
تفاصيل القانون الجديد
من المقرر انعقاد أولى جلسات الحوار المجتمعي داخل البرلمان لمناقشة قانون الإيجار القديم، الاثنين 5 مايو/ أيار المقبل، على أن تظل اللجنة في حالة انعقاد مستمر حتى 19 من نفس الشهر، على أن يكون هناك استماع لآراء المستأجرين والملاك وأعضاء لجنة الإسكان والتخطيط، فيما يتم إصدار القانون بشكله النهائي قبل نهاية دور الانعقاد الحالي المقرر له يوليو/تموز المقبل، أي في غضون مدة لا تتجاوز 60 يومًا فقط.
وينقسم المشروع المقدم إلى قسمين:
الأول: يتعلق إلزام المستأجرين بإخلاء الوحدات المؤجرة لهم خلال فترة خمس سنوات من تاريخ سريان القانون، وفي حال الرفض، من حق الملاك اللجوء إلى القضاء لطلب طرد المستأجر الممتنع عن الإخلاء.
وفي حالة حدوث أي طرد جماعي فقد نص المشروع على منح المستأجرين وحدات سكنية بديلة، سواء كانت على سبيل الإيجار أو التمليك، وذلك وفقًا لقواعد يحددها رئيس مجلس الوزراء.
الثاني: يتعلق بزيادة الإيجارات وتنقسم إلى جزئين، الوحدات المؤجرة لغير أغراض السكن ( تجارية أو إدارية) فسيتم رفع القيمة الإيجارية 5 أضعاف، مع زيادات سنوية بنسبة 15% لمدة خمس سنوات، أما الوحدات المؤجرة لأغراض السكن، فقد تم تحديد زيادتها إلى 20 ضعف القيمة الحالية، مع تحديد حد أدنى للإيجار الشهري قدره 1000 جنيه (20 دولار) في المدن والأحياء و500 جنيه (10 دولار) في القرى.
تحفظ من الطرفين
الملامح الأولى لمشروع القانون المقدم أحدثت جدلا كبيرًا داخل الشارع المصري، حيث قوبلت بتحفظ من طرفي الأزمة، المالك والمستأجر، فيما تدخلت الحكومة لطمأنة الطرفين، لكنه الاطمئنان الذي لم يتعدى مجرد الوعود البراقة، كما حدث في سياقات أخرى، دون ترجمة تلك الوعود لإجراءات حقيقية وهو ما أثار رعب الملايين من المستأجرين تحديدًا.
الملاك يرون أن مدة 5 سنوات لإنهاء العلاقة الإيجارية مع المستأجر فترة طويلة جدًا عليهم، كما جاء على لسان رئيس ائتلاف ملاك العقارات القديمة، مصطفى عبدالرحمن، الذي برر موقفه بأن العقارات تحتاج لصيانات هائلة بعد استهلاكها خلال السنوات الماضية وبينها عقارات معرضة للانهيار، وهو ما يستدعي سرعة إخراج المستأجرين منها.
وأضاف عبدالرحمن أن ملاك العقارات المتضررين من نظام الإيجار القديم كانوا قد اتفقوا ضمن وثيقة مشتركة قبل فترة على أن تكون المهلة 3 سنوات مع إيجار 2000 جنيه حد أدنى للمناطق الشعبية و4000 جنيه للمناطق المتوسطة و8000 آلاف للمناطق الراقية، ولكن مدة الـ 5 سنوات لحين انتهاء العلاقة الإيجارية مدة طويلة جدا، على حد قوله.
وعلى الجانب الأخر يعتبر المحامي بالنقض محمود عطية، ممثلا عن المستأجرين، أن فترة 5 سنوات ظالمة للمستأجر، مُرجعا ذلك إلى الأثر النفسي والمادي الواقع عليه بسبب هذا الإجراء، إذ أنه من الصعب إخراجه من البيت الذي عاش فيه طيلة عمره، لافتا أن الحل الأفضل للجميع زيادة الإيجار بشكل يناسب الطرفين، أسُوة بتعديل قانون إيجار المحلات التجارية حيث حدثت الزيادة بنسبة تم وضعها بالاتفاق بين المالك والمستأجر مما يساعد على استمرار العلاقة وحل الإشكالية للمؤجر والمستأجر.
وكان مجلس النواب (البرلمان) قد أصدر قرارًا في 2022، صدّق عليه رئيس الجمهورية، بزيادة القيمة الإيجارية، للأماكن المؤجرة للأشخاص الاعتبارية لغير غرض السكنى، على أن تكون الزيادة بنسبة 15% سنويًا، وبالفعل دخل هذا القرار حيز التنفيذ في مارس/أذار 2023.
الطرد.. كابوس يؤرق مضاجع الملايين
حالة من القلق تخيم على أكثر من ربع سكان القاهرة وخمس سكان الجيزة، هذه النسب التي يتجاوز عددها الملايين، جراء مناقشة القانون ببنوده المعلنة، إذ أنه في غضون 60 يومًا كحد أقصى – وهي المدة المقرر أن يُعلن القانون رسميًا خلالها- قد يصبح مئات الالاف من الأسر على مشارف الطرد واللجوء إلى الشارع، حيث لا مأوى لهم، التزامًا بالقانون الجديد الذي يقرر الإخلاء خلال مدة لا تتجاوز 5 سنوات كحد أقصى.
كثير من المستأجرين الخاضعين لهذا النظام الإيجاري، من الأرامل والمطلقات، ممن لا دخل لهن، وبالتالي لا يمكنهن دفع القيمة الإيجارية بعد الزيادات المتوقعة والتي تصل إلى 20 ضعفًا، وهو ما يعني عمليًا طردهم والبحث عن مكان أخر للسكن، وهي العملية المستحيلة بعدما وصلت الإيجارات الشهرية في مصر لمستويات غير طبيعية، فكيف بالتي لا تستطيع دفع 500 جنيهًا (20 دولارًا)على سبيل المثال أن تدفع 4 أو 5 ألاف جنيهًا (80 – 100 دولارًا) وهو متوسط الإيجارات اليوم في المناطق الشعبية المصرية.
الحكومة تحاول طمأنة هذه الفئة بالتأكيد على أن القانون يتضمن ضوابط تضمن عدم طرد المستأجرين فورًا أو إخلائهم، مع ضمان حق السكن للأسر غير القادرة، من خلال إدماجهم في مشروعات الإسكان الاجتماعي، كما جاء على لسان رئيس لجنة الإدارة المحلية بالبرلمان، أحمد السجيني، الذي قال إن القانون الجديد لن يهدف بأي شكل إلى طرد أو إخلاء المستأجرين في الوقت الحالي، بل يسعى لتنظيم العلاقة القانونية بين الطرفين، وتحقيق العدالة في القيمة الإيجارية.
أما عضو لجنة الإسكان في البرلمان، أشرف الشبراوي، فتحدث عن عدة اقتراحات تناقش اليوم داخل المجلس، منها إنشاء صندوق مدعوم من وزارة الإسكان، لتحديد إيجار الشقق في المناطق المختلفة، وأنه يمكن للمستأجر غير القادر أن يقدم ما يثبت عدم قدرته على سداد الإيجارات بزيادتها المقترحة، وعليه تدفع الوزارة هذا الفارق بين القيمة الإيجارية القديمة والجديدة.
60 يومًا من الرعب من المتوقع أن يعيشها الملايين من المستأجرين بنظام الإيجار القديم، في انتظار ما ستسفر عنه مناقشات القانون الجديد، الذي يجب أن يضع في حساباته- كما مصالح الملاك- مصير عشرات الالاف من العائلات والأسر التي عاشت وترعرعت وتربت في كنف جدران وبيوت من الصعب الطرد منها، وإلا فليس هناك بديل سوى الشارع، أو على أقصى تقدير النفي إلى مناطق نائية، بعد تجريدهم من ذكرياتهم وحياتهم التي عاشوها لعقود طويلة، وهو التهجير الذي سيتجاوز أثره النفسي والمعنوي مئات أضعاف الزيادات الإيجارية المتوقعة.