منذ سقوط نظام الأسد وتحرير سوريا في 8 كانون الأول/ ديسمبر عام 2024، كان واضحًا أن الرئيس أحمد الشرع وكتلته الصلبة، بصدد تقديم خطاب تشاركي يحتوي جميع الأطراف تحت قيادته، مع التأكيد على الأخيرة، رغم طريقها الشاق والتحديات الجمّة التي ترافقها.
وكان من المعروف أن الشرع قد لا يكون الأفضل أو الأمثل، لكنه خيار واقعي في ظل الوضع السوري الداخلي من فصائلية ونزاعات وصراعات وفلول نظام، وملف عدالة انتقالية، وملف الجزيرة السورية (قسد)، وملف الضباط العلويين (ليس الطائفة بقدر من كان في صلب النظام منها)، وملف جنوب سوريا المقسّم إلى أقسام: (القنيطرة وتوغّل الاحتلال)، و(درعا ونفوذ أحمد العودة)، و(السويداء وما يتصل بها من مناطق جبل الشيخ وصحنايا وجرمانا)، والصلة مع النفوذ الإسرائيلي الذي يريد فرض نفسه، وملف (رجال أعمال النظام).
هذه الملفات الداخلية هي الأكثر إشكالية، وتم التعامل معها كلٌّ لوحده، وبحساسية عالية، بدءًا من يوم التحرير وحتى النجاح بإسقاط النظام.
حصل الشرع منصب الرئاسة اعتمادًا على مفهوم الشرعية الثورية من الفصائل العسكرية التي تمثّل كل الفصائل التي قاتلت النظام على مدى 13 عامًا، ومن ثم جلسة الحوار الوطني السريعة التي ضمّت لفيفًا واسعًا من النخب السورية، فبذلك كانت شرعية منصبه ومن ثم حكومته معتمدة على شرعية عسكرية وأخرى مدنية، تعتمد إلى ثورية الحدث الذي قاد إلى إسقاط النظام.
امتحان الساحل الصعب
بالطبع تختلف الشرعية الثورية عن الشرعية الدستورية، فالأولى على صلة بالتغيير الثوري المباشر وردّة فعله الكبيرة لدى الشارع، أما الثانية فتعتمد على تفعيل المؤسسات القانونية والدستور، وإجراء انتخابات حرّة ونزيهة.
وفي ظل الوضع السوري السابق ذكره، والذي تبدو فيه سوريا بوضع استثنائي، من الناحية الأمنية والسياسية والاقتصادية والمعيشية، ووجود ما يهدد وحدة أراضيها، يدفع للقبول بخيار الشرعية الثورية إلى حين حصول الاستقرار والانتقال إلى الشرعية الدستورية.
لا شكّ أن أحداث الساحل كانت واحدة من أبرز الملفات المعقّدة التي واجهت الحكومة الانتقالية بعد تعيين الرئيس، فعملية ردع العدوان التي منعت حدوث أي انتهاكات لحقوق الإنسان (من تاريخ إطلاقها في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر حتى 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024)، بواحدة من أهم المعارك في تاريخ سوريا الحديث والمعاصر، تمكّنت من ملء فراغ غياب الدولة (وليس النظام) من اليوم الأول، وخلال أسبوع واحد شعر السوريون بعودة حياتهم إلى الاستقرار رغم انهيار نظام الحكم واختفاء كل مظاهر الشرطة وقوى الأمن، حيث عمد الأهالي إلى تشكيل لجان حماية محلية إلى حين انتشار قوى الأمن العام في عموم المحافظات.
ورغم أن ما جرى في الساحل كان امتحانًا صعبًا على الدولة أولًا، عبر استهداف قوى الأمن العام، ومن ثمّ ردّة الفعل الشعبية التي استندت إلى مظلوميّات سابقة لم تستطع الحكومة الجديدة أن تحقّق العدالة فيها للعديد من الأسباب والظروف، فقد حصلت في الساحل السوري انتهاكات، وليس مجازر أو حرب إبادة تجاه العلويين كما أُشيع، بل انتهاكات مدانة دفعت الحكومة نفسها إلى التحرّك وتشكيل لجنة تحقيق استقصائية بهدف الوقوف على تفاصيل ما جرى، ومحاسبة المتورّطين، كما وعد بذلك الرئيس أحمد الشرع.
خطاب متوازن مستمر تجاه السويداء
في النظر إلى ملف السويداء، تعاملت الحكومة منذ اليوم الأول للتحرير مع السويداء على أنها جزءٌ لا يتجزّأ من سوريا، وكلّ سكانها مواطنون سوريون، وليسوا رعايا من طائفة معيّنة، خصوصًا مع الحراك الشعبي الذي انطلق في السويداء منذ آب/ أغسطس 2023.
رغم ذلك، لم يتوانَ الشيخ حكمت الهجري، أحد مشايخ العقل لطائفة الموحّدون الدروز، عن إصدار البيانات التي يضع فيها نفسه مقرِّرًا عن كلّ من في جبل العرب وغيرها من المناطق التي ينتشر بها أبناء الطائفة، بل قاد خطابًا استفزازيًا عبر فيه عن رفضه للإعلان الدستوري والحكومة الجديدة، التي بدت حكومة تكنوقراط حصلت على اعتراف دولي واسع، خصوصًا عربيًا وأوروبيًا، وظلّ يغرّد خارج السرب في وقتٍ شديد الحساسية، ويمكن فيه التنازل قليلًا لصالح الشأن العام، رغم أن الشرع اختار وزراءً من الطائفة على أساس تقني وتمثيلي في الوقت نفسه، باحترامٍ لأهمية السويداء وما تمثّله من ثقل في سوريا ومستقبلها.
ولم تكن الأصوات الدرزية البارزة تنتقد خطاب الهجري، مع كل أسف، رغم معرفتها بمشروعه المتّصل بمشروع موفق طريف، شيخ عقل الدروز في “إسرائيل”، والذي يتماهى مع خطاب الاحتلال، وزجّ بالطائفة الدرزية في فلسطين بمواجهة الشعب الفلسطيني المنكوب، من خلال الانتساب إلى قوات جيش الاحتلال التي تمارس أعتى أنواع القتل والتشريد بحقّ أهلنا في غزة والضفة وغيرها من المناطق المحتلّة.
وفي كواليس لقاء الزعيم الدرزي اللبناني البارز وليد جنبلاط مع الرئيس أحمد الشرع، جرى التطرّق إلى ملف السويداء ومشكلة الهجري بشكل خاص، ويبدو أن جنبلاط على خلاف كبير معه، ثم انتقل جنبلاط إلى نقده علنًا في أكثر من مقابلة، كان آخرها في بودكاست “هامش جاد” على التلفزيون العربي، حيث قال إن “تحويل الدروز في سوريا إلى قومية مستقلة أو فئة، يجعلهم أداةً لإسرائيل، كما هو حال الدروز في فلسطين المحتلّة، هذا يهدد الدروز”، مضيفًا أن “إسرائيل” تريد جعل موفق طريف (الزعيم الديني لدروز “إسرائيل”) ممثّلًا لدروز المنطقة كلّها، وحكمت الهجري متأثّر جدًا بدور موفق طريف وبمحيطه.
وأكّد على أن “حكمت الهجري يذهب إلى مغامرة انتحارية. لا يمكن للدروز أن يحملوا راية تقسيم سوريا. سنصل إلى مرحلة انقسام بين الدروز في سوريا”، مشدّدًا على أن “المشروع الصهيوني لن يرحم دروز فلسطين، سيهجّرهم. ودروز سوريا ليسوا بحاجة لحماية إسرائيل”.
وجاءت أحداث جرمانا، ومن بعدها صحنايا، من قِبل أطراف تريد خلق فوضى داخلية، فالحكومة الجديدة ليست بصدد خلق مشكلة أو أزمة تتضمّن انتهاكات لحقوق الإنسان في ظل التحديات الهائلة التي تعاني منها، ومحاولة رفع العقوبات الأميركية، فأكثر المستفيدين من حصول هكذا هجمات على حواضن الدروز في جرمانا أو صحنايا أو السويداء هي إسرائيل، ومن يحاول الاستقواء بها من داخل سوريا.
أخطاء داخلية
ورغم الأخطاء التي قد تكون حصلت بحقّ بعض المدنيين أو المقاتلين الذين رفضوا الانصياع لشرعية الحكومة الجديدة عبر الانضمام إلى صفوفها أو تسليم السلاح لها، وبعض العبارات المسيئة من مختلف الأطراف لبعضهم، فإن الحقيقة هي أن الدروز ليسوا في حالة حرب مع الدولة، وليسوا مضطرين لأيّ مواجهة عسكرية أو حتى كلامية، فهم جزءٌ لا يتجزّأ من سوريا التي نريدها لجميع أبنائها، فالتهديد بـ”إسرائيل” أو بالحماية الدولية لن يتمكن من تحقيق أيّ غاية أو هدوء، والمحرّضون من مختلف الأطراف على مواقع التواصل الاجتماعي، بالغالب هم خارج سوريا وبعيدون عن الخسائر المباشرة التي يتعرض لها الدروز أو قوى الأمن العام.
وبدت بعض التصريحات وكأن هناك معركة مباشرة ضد الدروز بعينهم، وليس ضد مسلّحين موجودين في جرمانا أو صحنايا أو السويداء يحملون السلاح ضد الدولة، عبر بروبغندا تقلب الحقائق، مع إمكانية حدوث انتهاكات بسيطة لا ترقى أبدًا لما يتم التحدث عنه من قبل المحرّضين على وسائل التواصل الاجتماعي عن إبادات جماعية ومطالب حماية دولية.
وبيان الهجري الأخير، استفزازي، وهو من يحاول أن يجرّ السويداء إلى كارثة كبيرة، عبر استخدامه لغة تهديدية غير عاقلة، تنسف أيّ مبادرة للحوار أو التهدئة عبر وصف الحكومة بالتكفيرية واتهامها بارتكاب المجازر، مطالبًا الحماية الدولية في إشارة إلى “إسرائيل”.
وفي النص الذي ورد عنه قال: “نطالب بتدخّل دولي عاجل، عبر قوات لحفظ السلام، لوقف عمليات القتل والتهجير القسري الممنهج. ما يجري في الجنوب هو نسخة جديدة من تجربة الساحل، ونطالب بدعم دولي مباشر وسريع لإنقاذ ما تبقّى من الشعب السوري”.
وفي هذا مبالغة مستنكرة، أوّلًا لخلط الأحداث ببعضها، وجعل الأمور كلّها في بوتقة واحدة، وكأن الحكومة السورية وقوى الأمن العام تعمد إلى قتل السوريين بناءً على طوائفهم وانتماءاتهم، والواقع هو أن الحكومة تحرّكت بشكل سريع لوقف كلّ ذلك والعمل عبر وساطات للتهدئة من خلال البيان الأخير الذي وقّعه كلّ شيوخ العقل في السويداء ما عدا الهجري والميليشيات التابعة له.
السويداء جزء من سوريا.. هذا الرجل أزمتها
والقول الفصل: إن السويداء ودروز سوريا، هم سوريون، لهم في سوريا ما لكلّ سوري مسلم أو مسيحي أو غير ذلك، مشروعهم بلد مواطنة، يكون فيه كلّ شخص خاضعًا للقانون، مع دولة تحتكر السلاح، ولا تلجأ له إلا لحماية مواطنيها على أساس قانوني دستوري.
إن مطالبة الهجري بدولة مدنية علمانية، يتنافى مع تدخّله في السياسة بشكل مباشر، وكأنه حزب سياسي وليس مرجعية دينية،. وقد أصدر المفتي العام للجمهورية، الشيخ أسامة الرفاعي، والعديد من أعضاء مجلس الإفتاء الأعلى، بيانات حرّموا فيها دم السوري على السوري، معتبرين أن أيّ تحرّك على أساس طائفي هو فتنة تخدم الاحتلال، ومن يريد العبث بقرارات السوريين وجهودهم لبناء بلد آمن كريم.
ولذلك، مشكلة السويداء مع شخص واحد، يريد جرّ البلد إلى مساحته ومشروعه، ولكن لسان حال السوريين في السويداء وخارجها، عبر البيان الأخير (لم يُوقّع عليه)، يقول له ولأمثاله: سوريا حرّة، ولكلّ أبنائها، والقصف الإسرائيلي ليس دفاعًا عن أيّ طائفة، بقدر ما هو دفاع عن مشروع صهيوني في المنطقة، سيتجاوزه الشعب السوري وحكومته، كما تجاوزنا خلال الأشهر الأخيرة الكثير من التحديات والعوائق.