ترجمة وتحرير: نون بوست
لقد كنت سجينًا سياسيًا لأكثر من ست سنوات في مصر. وفي الأسبوع الماضي، هربت من الولايات المتحدة خوفًا من احتمال التعرض لنفس المصير.
فبعد أن اختطف عملاء إدارة الهجرة والجمارك محمود خليل، خريج جامعة كولومبيا، من أمام شقته الجامعية في مدينة نيويورك، حبستُ نفسي داخل منزلي لمدة شهر. وكطالب دولي مصري ظهر اسمه على أحد مواقع التهديد التي تستخدمها الجماعات الصهيونية والتي تستعين بها إدارة ترامب في اختيار أهداف الترحيل، كنت أعلم أنني يجب أن أتوقع الأسوأ.
وعندما ألغت الإدارة الأمريكية أول تأشيرة إف-1 في جامعتي، أخبرني محاميّ بلطف ولكن بشكل لا لبس فيه أن السؤال لم يعد على الأرجح ما إذا كنت سأعتقل، بل متى.
لقد توقعت ذلك، فقد كنتُ قد شاهدت لقطات الاعتقال المرعبة لخليل، والصدمة واضحة على وجهه، والسيارة التي لا تحمل علامات، والنظرة المتعجرفة من الضباط الذين لا يُعرفون بأسمائهم. “حبيبتي، لا بأس”، كما قال لخليل بينما كانوا ينتزعونه من زوجته المذعورة، التي كانت في الشهر الثامن من حملها (وقد أنجبت طفلهما بينما يظل خليل قابعًا في السجن).
وسرعان ما تبع ذلك الاعتقالات الأخرى. ولا تزال تطاردني عيون روميسا أوزتورك المتوترة والمتفاجئة بينما اقترب منها العملاء في الشارع، حيث تحولت الحياة الطبيعة إلى رعب، وهو أمر كنت أعرفه جيدًا.
إن السمة المميزة للاستبداد ليست الطرق على الباب – بل الحياة في ظل الخوف الدائم من وصوله.
وبعد أسبوعين من حبسي الذي فرضته على نفسي، تذكرت جمود السجن: الحياة في وضع الانتظار على “فرشتي”، مكان نوم السجين المصنوع من بطانيتين المُخصصتين للسجون، وأكياس بلاستيكية دائمًا موضوعة بجانب رأسي، حتى أكون جاهزًا للنزوح التالي.
لقد كان نفس الشعور بالتوتر يختلج بداخلي بينما كنت جالسًا في شقتي الفارغة في بيتسبرغ، المفرغة إلى ست حقائب منتفخة كنت قد حزمتها في الأسبوع الأول من عزلتي. صففتها بجانب مكتبي، وكانت رحلتي على بعد نقرة واحدة.
وكنت أطلب البقالة باستخدام بريد إلكتروني وهمي، ولا أفتح باب شقتي إلا بعد منتصف الليل لأخذها. وعندما اضطررت لقضاء مهمتين ضروريتين، جاء أصدقائي بسياراتهم، وتفحصوا الشارع بحثًا عن أشخاص أو سيارات مشبوهة، ثم توقفوا عند الباب الخلفي للمبنى. وكنت أتسلل دخولًا وخروجًا كما لو كنت مهربًا.
ولمدة شهر، كنت أفتح عيني كل صباح وأتناول هاتفي. وأُحدِّث ملفي على موقع التهديد الصهيوني، ثم أبحث عن اسمي في غوغل باستخدام مرشح “آخر 24 ساعة”، وكنت أتنفس الصعداء عندما لا أجد حملة استهداف جديدة.
ومع كل اعتقال جديد، كنت أهرع إلى مكتبي وأعيد فتح صفحة حجز الرحلات، ثم أتردد. لم يكن الأمر مجرد التفكير في الرحيل، بل كان تخليًا عن حياة بنيتها بصعوبة في ظل ظروف المنفى التي كنت أعيشها، حياة بدأت تكاد تشبه الوطن.
كنت قد صنعت مجتمعًا اشتعلت محبته بذلك النوع من القوة الذي لا يولد غالبًا إلا من اضطهاد مشترك. وكانت مذكراتي، التي كتبتها على مدار سنوات داخل السجن وفي المنفى، على وشك الصدور أخيرًا في السنة المقبلة. وكان تخرجي من برنامج الماجستير في الكتابة الإبداعية على بُعد أسابيع قليلة فقط. وكان يؤلمني بشدة، بعد أن تخلّيت عن حياة واحدة بالفعل عندما هربت من بلدي، أن أتنازل عن كل شيء مرة أخرى عند عتبة تحقيق أحلامي. ومع ذلك، لم يكن الأفق الذي يلوح أمامي مجرد الترحيل، بل كان يعني قضاء بقية حياتي في السجن إذا أُعيد ترحيلي إلى مصر.
وفي أحد آخر صباحاتي في الولايات المتحدة، تسللت نسمة باردة عبر النافذة المشروخة بجانب مكتبي. ووقفت وتوجهت نحو الأريكة، حيث كانت ثلاث قطع فقط من ملابس الشتاء غير المعبأة ملقاة بشكل مبعثر. مددت يدي نحو قميص فضفاض أسود داكن كان يمنحني شعورًا بالراحة، لكنني توقفت. كان المطر ينقر بثبات على الزجاج. واستدرت والتقطت سترة بيت الرمادية ذات القلنسوة كانت موضوعة على يمينها بدلاً من ذلك.
لقد أدركت أنني كنت قد حسبت، دون وعي، ما الذي ينبغي أن أرتديه إذا جاء عملاء إدارة الهجرة والجمارك ليطرقوا على الباب اليوم.
ذهبت إلى حاسوبي المحمول وحجزت رحلتي.
على مدار الأسابيع الماضية، اختار كثير من المتعاطفين عدم تصنيف خليل وأوزتورك وغيرهما من الطلاب المستهدفين بأنهم سجناء سياسيون، مفضلين بدلًا من ذلك تأطير القضية ضمن حقوق التعديل الأول للدستور. كانوا يقولون: هناك تجاوز للصلاحيات. فهناك انتهاك للإجراءات القانونية الواجبة، وتجاهل للقنوات السليمة في تطبيق سيادة القانون. لكن أيمكن أن يكون هناك سجناء سياسيون في الولايات المتحدة؟!
وبالنظر إلى حقيقة أنه كان هناك دائمًا سجناء سياسيون في الولايات المتحدة، فإنني في وضع يسمح لي بمعرفة ما نواجهه؛ ودعوني أؤكد لكم إنه نفس الكتاب البالي.
إن المشكلة ليست في أن محمود خليل يحمل بطاقة إقامة دائمة، ولا في أن اعتقاله انتهك “الإجراءات القانونية الواجبة” فقط، رغم أن العديد من الأمريكيين الليبراليين يرغبون بالفعل في أن نقتصر على الاعتراض على ذلك فقط. المسألة هي أن خليل والآخرين الذين تم اختطافهم في الأسابيع الأخيرة يُسجنون لأنهم كانوا متظاهرين معارضين، ومنظمين طلابيين، وكتّاب مقالات رأي، وناشطين ضد الإبادة الجماعية. بعبارة أخرى، لقد تم استهدافهم بسبب آرائهم السياسية؛ إنهم سجناء سياسيون.
ولم تتردد الولايات المتحدة وشعبها أبدًا في استخدام مصطلح السجن السياسي على منطقتنا. بالنسبة للكثيرين، يُخصص هذا المصطلح لدولنا، الأراضي البعيدة التي تحت حكم استبدادي، ما يُسمى بالأنظمة غير الديمقراطية المتخلفة. إن التردد بين العديد من الأمريكيين، بما في ذلك أولئك الذين يعتبرون أنفسهم حلفاء لمن يطاردوننا، في تسمية الأشياء كما هي يُعتبر بحد ذاته هو شكل من أشكال التعالي.
ولا تصنف أي حكومة استبدادية سجونها السياسية على هذا النحو. ففي مصر، يؤكد النظام العسكري الدكتاتوري أيضًا أنه لا يوجد لديه سجناء سياسيون. وبدلاً من ذلك، يعيد إحياء قوانين حظر التجمع القديمة ويصادق على قوانين جديدة لتشريع هذه العملية.
ثم يأتي دليل الإرهاب؛ فبعد الانقلاب العسكري في سنة 2013، تم تصنيف جماعة الإخوان المسلمين بسرعة كتنظيم إرهابي، وتم تحويلهم إلى أعداء للدولة يجب القضاء عليهم بين عشية وضحاها. وتم ذبح الإخوان وسجن عشرات الآلاف منهم، ثم أعقب ذلك لغة مدعومة من الدولة صُممت لتبرير الفظائع: تصفية الإرهابيين، ومحاكم الإرهاب، والحرب على الإرهاب.
وسرعان ما اصبح الكل غير آمن؛ حيث تم تصنيف اليساريين كإخوان، والليبراليين كإخوان، والعلمانيين كإخوان، وجماهير كرة القدم الأولتراس كإخوان. ومع ذلك، لم يُعترف بأي منهم كسجناء سياسيين. ولأنه إذا كانت كل المعارضة إخوانًا، وكل الإخوان إرهابيين، فإن 60,000 سجين سياسي لم يعد لهم وجود.
أما في الولايات المتحدة، فاللغة متطابقة ومنسوخة من نفس الكتاب. إن الأوامر التنفيذية والقوانين المقترحة تخفي وراءها السجن السياسي تحت ستار الشرعية. إنه ليس سجنًا سياسيًا؛ بل هو “حماية الولايات المتحدة من الإرهابيين الأجانب” و”تدابير إضافية لمكافحة معاداة السامية“. وعلى غرار قانون حظر التجمهر الرئيسي في مصر، وهو قانون استعماري بريطاني قديم يعود لسنة 1914، والذي صُمم أصلاً لقمع المعارضة المصرية تحت الاحتلال، يمنح قانون الهجرة والجنسية الأمريكي لسنة 1952 وزير الخارجية صلاحيات واسعة لإلغاء تأشيرات الأجانب الذين يُعتبرون تهديدًا والأمر بترحيلهم.
وفي وقت إنشائه، كان القانون يهدف لاستهداف الناجين اليهود من الهولوكوست المشتبه في كونهم جواسيس سوفييت. إن كلا القانونين هما بقايا من حقبة ماضية، أعيد إحياؤهما لخدمة نفس الغرض: حملات المطاردة التآمرية.
وبالطبع، يحتاج صيد الساحرات إلى ساحرات. وهكذا، من خلال تصميم مدروس وحرب لغوية، عملت إدارة ترامب على تحويل سجنائها السياسيين إلى محرضين أجانب متطرفين مؤيدين للإرهاب، من خلال تنظيم أنشطة مرتبطة بالجماعات الإرهابية المعينة في الولايات المتحدة. وبالتالي، لم يصبح الأمر مقبولًا فحسب، بل أصبح من الضروري اختفاؤهم في ظلام الليل وشحنهم عبر البلاد للتخلص منهم.
وهذه هي الطريقة التي لطالما كان يعمل بها السجن السياسي.
ويقول العديد من الأمريكيين الذين يشاهدون هذا يحدث إن الولايات المتحدة تتجه نحو الفاشية. لكننا، نحن الذين طالما تحملت أجسادنا وطأة عنف هذا البلد، لدينا معرفة أكبر بذلك. فالولايات المتحدة لا “تتجه” نحو الفاشية. إن الولايات المتحدة هي دولة أُسست على الإبادة الجماعية لشعبها الأصلي، وعبودية السود، وأكثر من قرن من الفصل العنصري. إن الإرهاب الحالي الذي تطلقه إدارة الهجرة والجمارك على المجتمعات المهاجرة يستند إلى تاريخ طويل من سياسات الهجرة العنصرية والمعادية للأجانب وتطبيقها.
ومن خلال سياستها الخارجية، كانت الولايات المتحدة لفترة طويلة من كبار المستثمرين في الاستبداد، سواء من خلال تدمير دولنا بشكل مباشر أو من خلال الاستعانة بمصادر خارجية للأعمال الوحشية إلى وكلاء عسكريين محليين. أما هوسها بالحفاظ على واجهة داخلية من عمى الألوان والقيم العليا فهو أمر حديث نسبيًا. ولكن كما تقول كريستينا شارب في كتاب “ملاحظات عادية“: “آلية البيض تستخدم العنف باستمرار – وفي نفس الوقت، تُصنع باستمرار الدهشة والمفاجأة والبراءة فيما يتعلق بهذا العنف.”
لقد قضى أمثالنا حياتهم بأكملها في تلقي آثار الإمبريالية الأمريكية، وسياستها الخارجية الدموية المتجذرة في إخضاعنا. كمصري، عايشتُ عن كثب كيف كانت الولايات المتحدة واحدة من المهندسين الرئيسيين في تثبيت ودعم الدكتاتوريين في مصر، التي تُعد ثالث أكبر متلقٍ للمساعدات العسكرية الأمريكية، لخدمة مصالح الولايات المتحدة في تأمين سلامة الاحتلال الإسرائيلي، والحفاظ على الهيمنة الإقليمية الأمريكية. لطالما استخدمت الولايات المتحدة التحايلات القانونية والمنطقية لاستمرار دعم النظام العسكري في مصر، حتى إن ترامب وصف السيسي في سنة 2019 بأنه “ديكتاتوره المفضل”.
لقد فرّ المضطهدون منا إلى الولايات المتحدة هربًا من السجون والحروب وسفك الدماء، وكان بطن الوحش ملاذًا من مخالبه التي تمزق أوطاننا. ولكن اليوم، نعيش من جديد نفس الواقع الذي هربنا منه: الاختباء في منازل الأصدقاء، والارتعاب من كل دقّة على الباب، وحذف وسائل التواصل الاجتماعي، وتنظيف الهواتف من الآثار السياسية، وحذف أدلة النشاط السياسي، وترك تعليمات للمحامين والأحبة، وكتابة مقالات رأي مجهولة الهوية خوفًا من انتقام الدولة.
لقد أدار الوحش ببساطة مخالبه مرة أخرى إلى الداخل، يتخبط في أحشائه الداخلية، وتصبح رغبته في القضاء على “غير المرغوب فيهم” أخيرًا أقوى من رغبته في الحفاظ على مظهر الحرية.
وكنت أشك في أنني سأضطر للمغادرة عندما انطويت في منزلي، أشاهد الهتاف السائد عبر وسائل التواصل الاجتماعي: أن الدور سيأتي على المواطنين لاحقًا، وليس أنه قد جاء بالفعل لنا. بالنسبة لعدد كبير من الأمريكيين الغاضبين، فإن الذعر بشأن حرية التعبير وحقوق التعديل الأول ليس سوى خوف من أن يجدوا أنفسهم الضحية القادمة. ففي هذا البلد، لا قيمة لأجسادنا، نحن الأجانب غير المقيمين، إلا كإشارة مشؤومة لما قد يحدث للأمريكيين، وتكون قيودنا مجرد نذير بالأصفاد المحتملة حول معصم مواطن أمريكي.
بينما يتم استهداف أبناء شعبنا واحدًا تلو الآخر، أكتب إليكم من منفاي الجديد لأخبركم، إنه نفس الكتاب البالي. لقد بدأ الأمر مع محمود خليل، كحالة اختبار، مقياس لمعرفة قدرتهم على التمادي. ثم، لقاء كردية، وروميساء أوزتورك، وبدر خان سوري. وعندما لم يلقوا سوى العرائض، والغضب على وسائل التواصل الاجتماعي، والاحتجاجات التي يمكن احتوائها، تبعهم آخرون. ما ينفجر بعد ذلك هو موجة من القمع. وستتوالى الأسماء بأسرع مما يمكن إعداد العرائض، وبأسرع مما يمكن تخليد الرموز. وسيتجاوز حجم الاعتقالات الجماعية وعمليات الترحيل حتى الحلفاء الحقيقيين. وإذا تم التسامح معها عندما كان الأمر يتعلق بشخص واحد فقط، فإنه سيتم التسامح معها عندما تتزايد الأعداد. وسيتحول الأمر إلى إيقاع جديد للحياة، يتخلله منشورات مشتركة التي تهدئ الضمير بين الحين والآخر.
أما بالنسبة لي، فإنني أخوض مغامرة إلى مجهول جديد، وحياتي مُعبّأة في الحقائب كما كانت طوال سنوات في السجن، باحثًا عن غربة جديدة ستأخذ جسدي المنفي، على الأقل لبعض الوقت. ورغم كل شيء، لم أندم على شيء.
كيف يمكن لأي شيء أن يقارن بذراع شعبان الدلو ذو الـ19 سنة الملتهبة الموصولة بالوريد وهو يمد يده نحو شيء ما بينما يحترق في سكون؟ أو بجسد الطفلة سدرة حسونة البالغة من العمر 7 سنوات الصغير الممزق والمتدلي من بين أنقاض ملجأ عائلتها بعد غارة جوية إسرائيلية ممولة من الولايات المتحدة؟ أو هند رجب البالغة من العمر 6 سنوات، التي استشهدت بعد نجاتها من سيارة قصفها الاحتلال وأودت بحياة عائلتها بأكملها – وكانت كلماتها الأخيرة: “أنا خائفة جدًا، أرجوك تعال. تعالوا خذوني. أرجوك، هل ستأتي؟”.
لقد قررت منذ وقت طويل أن أصرخ في كل ميكروفون حتى يُنتزع مني، لتحل محله الأصفاد المعلقة. وعندما يحدث ذلك، أعلم أن الوقت قد حان: أحرر فراشتي، أجر حقيبتي، وأدخل المنفى من جديد.
المصدر: ذا نيشن