صبيحة الأحد 4 مايو/أيار الجاري شنت قوات الدعم السريع هجوما بالمسيرات الانتحارية على القاعدة الجوية بمدينة بورتسودان (شرق)، حيث تصاعدت أعمدة الدخان وسط اشتعال كثيف للنيران التي طالت العديد من المنشآت المدنية الحيوية، في تصعيد لافت لمسار حرب الجنرالات المندلعة منذ منتصف أبريل/نيسان 2023.
الناطق الرسمي باسم الجيش السوداني العميد نبيل عبد الله قال في بيان مقتضب إن “العدو استهدف صباح الرابع من مايو 2025 بمسيرات انتحارية قاعدة عثمان دقنة الجوية ومستودعا للبضائع وبعض المنشآت المدنية بمدينة بورتسودان”، مضيفًا أن المضادات الأرضية تمكنت من إسقاط عدد من المسيرات، بينما أحدثت أخرى أضرارًا عدة منها إصابة مخزن للذخائر بالقاعدة، مؤكدًا على عدم وجود إصابات بين الأفراد.
وسُمعت أصوات سلسلة انفجارات عنيفة في محيط مطار بورتسودان والأحياء الجنوبية في المدينة جراء هذا القصف، بحسب شهود عيان ومراسلي بعض الوسائل الإعلامية، لتكون هذه هي المرة الأولى التي تصل فيها عمليات ميليشيا الدعم إلى المدينة الساحلية اللوجستية الواقعة شرقي البلاد منذ نشوب الحرب قبل أكثر من عام ونصف.
وما أن استعاد الجيش السوداني الخرطوم في مارس/أذار الماضي، حتى بدأت حملته العسكرية في التراجع، بعدما توقفت عملياته الهجومية، مكتفيًا بدور المدافع، وهو ما منح ميليشا الدعم الفرصة لالتقاط الأنفاس وإعادة ترتيب المشهد، والأخذ بزمام المبادرة وتكثيف الهجمات في مسارات عدة، بداية من الفاشر والمجازر التي ارتكبها هناك، مرورًا بما حدث في كردفان وأم درمان، وصولا إلى المدينة الساحلية اللوجستية شرقًا.. فأي دلالة يحملها إدخال المسيرات كسلاح يستهدف البنية والمرافق المدنية في السودان وما تأثير ذلك على مستقبل الحرب بين الطرفين؟
تطور لافت
تُعد عملية بورتسودان استثنائية على المستوى الميداني وتطور لافت في مسار الحرب وذلك من خلال 3 اتجاهات:
الأول: مكان الاستهداف.. إذ بقيت المنطقة الشرقية تحديدًا بمعزل عن القصف منذ بداية الحرب، كونها قاعدة شعبية كبيرة للنازحين من المدنيين، واحتضانها للعديد من المرافق والمنشآت الحيوية، ليمثل استهدافها بهذه الطريقة تحولا جذريًا في عقلية الدعم وتعكس توجهًا جديدًا قد يتبنى سياسة الأرض المحروقة وتجاوز كافة الخطوط الحمراء وتوسعة رقعة المواجهة أفقيًا كاستراتيجية لاستعادة المكاسب المسلوبة مؤخرًا.
الثاني: السلاح المستخدم.. ليست هذه هي المرة الأولى التي تستخدم فيها ميليشيا الدعم الطائرات المسيرة في عملياتها العسكرية، إذ لجأت إليها قبل ذلك في محاولة استهداف قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان خلال تخريج الطلبة الحربيين في منطقة جبيت، ثم في استهداف ميناء بشائر بالقرب من مدينة سواكن، غير أن كل تلك المحاولات بدون خسائر.
لكن هذه المرة الوضع مختلف من حيث عدد المسيرات المستخدمة، والذي بلغ 8 مسيرات دفعة واحدة، وفي منطقة تُعد آمنة ومستبعدة كما ذُكر آنفًا، هذا بخلاف كثافة العملية واستهدافها للمناطق والمنشآت الحيوية في المدينة، في إصرار ممنهج على إحداث أكبر قدر ممكن من الأضرار.
الثالث: التأثير الناجم عن العملية.. انتقلت العمليات التي تشنها قوات الدعم عبر المسيرات من حاجز المناكفات والمناوشات الميدانية، الرمزية أكثر منها ميدانية، إلى منحى مختلف تمامًا، حيث شل حركة النقل والطيران في المدنية الهادئة، وإصابة سكانها بالهلع والرعب، وإجبار كثير منهم على النزوح، بعدما كانت بورتسودان ملجأ للنازحين من مناطق الصراع.
ومن ثم جاءت الإدانات الدولية لهذا التطور الخطير الذي يمثل تهديدًا كبيرًا للمواطن السوداني، بعدما تحولت المناطق الهادئة في الدولة المأزومة إلى مناطق نزاع واستهداف، ما يعني أنه لا شيء آمن في هذا البلد، وعليه فهناك الملايين في مرمى الاستهداف، قتلا أو نزوحًا، حيث أدانت كل من قطر والسعودية استهداف المرافق الحيوية والبنية التحتية في مدينتي كسلا وبورتسودان شرقي السودان، وعدتاه استهدافا للاستقرار بالمنطقة وعملا منافيا للقوانين والأعراف الدولية.
واعتبر قطر والسعودية في بيانين منفصلين أن ذلك يمثل تهديدا للاستقرار الإقليمي والأمن الوطني العربي والأفريقي، مطالبين بالوقف الفوري للحرب في السودان وتجنيبه وشعبه المزيد من المعاناة والدمار، مؤكدين على أن الحل السياسي السوداني السوداني هو المخرج الوحيد من تلك الأزمة، مع وجوب احترام سيادة ووحدة السودان.
التعافي السريع.. رسالة الدعم الأبرز
بعد الضربات التي تلقاها الدعم السريع خلال الأشهر الماضية والخسائر التي مُني بها على أيدي الجيش، وسط تصاعد الحديث عن قرب انتهاء المعركة بالإعلان رسميًا وعمليًا بالهزيمة النكراء للميليشيا، يحاول محمد حمدان دقلو(حميدتي) قلب الطاولة مرة أخرى والتأكيد على أن الحرب لم تنته بعد، وأن النزال لا زال قائمًا.
ومن ثم جاء تكثيف العمليات وسرعة وتيرتها خلال الأيام الماضية كرسالة مباشرة للداخل والخارج على قدرة الدعم على استعادة عافيته مرة أخرى، كان أخرها إحكام السيطرة على مدينة النهود بولاية غرب كردفان (جنوب) والاستحواذ على مقر رئاسة اللواء الـ18 مشاة التابع للجيش الوطني.
وكانت النهود تحت سيطرة الجيش الذي حولها في يوليو/تموز الماضي إلى العاصمة الإدارية المؤقتة لولاية غرب كردفان، بعد سقوط العاصمة الأصلية، الفولة، بيد الدعم السريع، كما كانت قاعدة لوجستية للجيش السوداني حيث كان يستخدمها كنقطة عبور لإرسال قوات إلى دارفور في غرب السودان المعقل التاريخي لقوات الدعم السريع.
وفي سياق التعافي السريع، استهدفت ميليشيا الدعم، السبت 4 مايو/أيار الجاري، مطار مدينة كسلا الواقعة في شرق السودان على الحدود مع إريتريا، والبعيدة عن مواقعها، حيث قصفت بمسيرة خزان الوقود الرئيسي للمطار والواقع على مسافة نحو 450 كيلومترا شرق الخرطوم، دون الإشارة إلى وقوع ضحايا أو أضرار.
وتحاول قوات الدعم من خلال عملياتها التي تستهدف بها مواقع للجيش السوداني، استعادة بعض نفوذها المتراجع وتعويض جزء من خسائرها، إذ لم تعد تسيطر سوى على بعض المناطق الصغيرة من ولايتي شمال كردفان وغرب كردفان وجيوب محدودة في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، إلى جانب 4 من ولايات إقليم دارفور الخمس.
الدعم الخارجي والحرب النفسية
يرى خبراء أن هجوم بورتسودان يأتي في سياق الحرب النفسية التي تشنها قوات الدعم لإحباط آمال الشارع السوداني بشأن الانتصار الساحق والسريع للجيش كما رُوج له بعد السيطرة على العاصمة الخرطوم في مارس/أذار الماضي، وفي المقابل تراهن على تلك الحرب لكسب أكبر قدر ممكن من النقاط على حساب الجيش، وذلك عبر تجريده من حاضنته الشعبية.
ويعزز هذا التوجه – بحسب أنصار هذا الرأي- استهداف الدعم للمرافق والبنية التحتية المدنية، مطارات وطرق ومحطات توليد الطاقة ومحطات المياه، وهي الاستهدافات التي تصيب البلاد بحالة من الشلل، هذا بخلاف الرسالة الأخرى التي يبعث بها حميدتي وأنصاره من خلال المسيرات والتي مفادها أنهم باستطاعتهم الوصول إلى أي مكان وضرب أي هدف في أي وقت وقت.
قوات "حميدتي" تقصف بورتسودان للمرة الأولى منذ بداية الحرب والجيش يتهم الإمارات بتزويد "الدعم السريع" بمسيرات انتحارية.. ما تفاصيل التصعيد الميداني والقانوني بين البرهان والإمارات؟ pic.twitter.com/apFl6ocOiw
— DW عربية (@dw_arabic) May 5, 2025
وتعكس عملية بورتسودان وما قبلها من معارك النهود والفاشر وأم درمان استمرار خطوط الإمداد والدعم من ممولي ميليشيا حميدتي في الخارج، وعلى رأسهم الإمارات المتهم الأبرز بتمويل قوات الدعم والمرفوع ضدها دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية واتهامها بأنها “متواطئة في الإبادة الجماعية في البلاد من خلال توجيهها وتقديمها دعما ماليا وسياسيا وعسكريا واسع النطاق لميليشيا قوات الدعم السريع المتمردة”.
ورغم الإدانات الإقليمية والدولية بتحييد الأجندات الأجنبية بعيدًا عن الساحة السودانية، كونها المعرقل الأول والأبرز نحو التسوية السياسية ووقف شلال الدماء المستمر منذ سنوات، إلا أن هناك إصرار إماراتي على تنفيذ أجندتها حتى لو كان المقابل التضحية بالملايين من أبناء السودان، دون أي اعتبار لمقاربات إنسانية أو عربية.
أي تأثير على مسار الحرب؟
يتفق الجميع في السودان أن تصعيد ميليشيا الدعم والنقلة النوعية التي شهدتها في أساليب القتال واستخدامها لهذه الأنواع من المسيرات وتعزيز خطوط الإمداد الخارجية إنما يأت في سياق رد الفعل على الخسائر التي تلقتها مؤخرًا، خاصة في نيالا، وطردها من وسط السودان والخرطوم والتضييق عليها في كردفان وأم درمان.
أما عن تأثير ذلك على مسار الحرب فيرى المحلل العسكري العميد المتقاعد إبراهيم عقيل مادبو، أن القوات المسلحة السودانية إذا لم تتخذ إجراءات سريعة وفعالة لمواجهة هذا التهديد فليس من المستبعد أن يؤثر استخدام المسيرات على مسار الحرب وأن يغير من توازن القوى في مجريات الصراع
وفي المقابل يرى العميد بالجيش السوداني عمر عبد الرحمن باشري، أن الهجوم بالمسيرات على بورتسودان، لا يمكن أن يكون من صنيعة ميليشا الدعم، واصفًا إياه بأنه عمل “مرتزقة” أجانب، بهدف خلق حالة من التذمر وسط المواطنين خاصة باستهداف محطات الكهرباء والطاقة.
وأضاف أنه رغم اعتبار تلك العملية تطورًا محوريًا في مراحل الحرب الدائرة ضد السودان، لكن لن يكون لها تأثير كبير على مجريات المعركة التي سيتم حسمها في النهاية على الأرض، مؤكدًا على قدرة الجيش السوداني على امتصاص مثل هذه الأشياء وتحويلها لطاقة إيجابية وقوة دَفعٍ تسهم في القضاء على ميليشيات الدعم، وتابع “نحن نثق في قيادتنا وفي تخطيطها لإدارة المعركة للوصول للهدف الإستراتيجي وهو القضاء على الدعم السريع المتمردة التي نؤكد أنها إلى زوال”.