ما إن بدأ العام الدراسي الجديد في سبتمبر/أيلول الماضي، حتى لاحظ المتابعون انخفاضًا ملحوظًا في وتيرة الاحتجاجات الطلابية المناهضة لحرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة، مقارنة بذروتها في ربيع العام الماضي داخل حرم الجامعات الأمريكية، فقد تراجع عدد الاحتجاجات والتجمعات من أكثر من 3000 إلى نحو 950 فقط، وانخفض عدد الطلاب المعتقلين من 3100 إلى أقل من 100 طالب مع نهاية نوفمبر/تشرين الثاني من العام الدراسي الحالي.
يعكس هذا التراجع نجاح الحملة القمعية التي مارستها إدارات الجامعات الأمريكية على الحراك الطلابي الداعم للقضية الفلسطينية، وذلك قبل أشهر من تولي دونالد ترامب منصبه الرئاسي، إيذانًا ببدء فصل جديد من التضييق والتنكيل تحت غطاء شعارات مناهضة “معاداة السامية”.
فما ملامح الحرب الصامتة التي شنتها الجامعات الأمريكية على حركة المناصرة الفلسطينية؟ وكيف أثّرت تهديدات الممولين الخاصّين على استقلال القرار الأكاديمي؟ وما الدور الذي لعبته “إسرائيل” وأذرعها في إعادة تشكيل سياسات الجامعات؟ وأي منعطف اتخذته هذه الحرب مع صعود ترامب إلى البيت الأبيض؟، وأخيرًا، ما الأثر الذي خلفته هذه السياسات على حريات الطلاب وحقوقهم، وعلى مستقبل الحياة الأكاديمية برمتها؟.
صيف من المراقبة والانتقام: كيف أعدّت الجامعات حملتها؟
بلغت الاحتجاجات الطلابية على حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة، وعلى التواطؤ الحكومي والمؤسساتي للجامعات الأمريكية، ذروتها في أبريل/نيسان ومايو/أيار من عام 2024، حيث انتشرت المعسكرات الطلابية وغطت الخيام ساحات أكثر من 80 جامعة في مختلف أنحاء البلاد.
وقد تباينت ردود فعل إدارات الجامعات على هذه الاحتجاجات؛ فبينما لجأت بعض الجامعات مثل براون ونورث ويسترن ورتجرز إلى توقيع اتفاقيات مع الطلاب تستجيب جزئيًا لمطالبهم، اختارت جامعات أخرى نهجًا أكثر عنفًا وتصادمية، كما في حالة جامعة نيويورك وجامعة كولومبيا، اللتين استدعتا شرطة المدينة لفض الاعتصامات بالقوة، في مشهد غير مسبوق لم يكن يتصوره أحد قبل السابع من أكتوبر.

تجاوزت بعض الجامعات حدود الردع التقليدي؛ فقد أعلنت جامعة بومونا، على سبيل المثال، حالة طوارئ استثنائية منحتها صلاحيات واسعة لاتخاذ إجراءات صارمة ضد الطلبة، بهدف منعهم من التجمهر أو التظاهر داخل الحرم الجامعي.
غير أن معظم الجامعات الأمريكية التي شهدت حراكًا طلابيًا احتجاجًا على حرب الإبادة في قطاع غزة، ورفضًا لتورط مؤسساتها التعليمية في دعم الحرب المستمرة على الأراضي المحتلة، أبدت ردود فعل متباينة بين الاستجابة المحدودة والتصعيد القمعي، ففي محاولة لاحتواء موجة الغضب الطلابية، اضطرت العديد من الجامعات إلى إغلاق أبوابها، والتحول إلى التعليم الإلكتروني، وإلغاء حفلات التخرج.
وفي المقابل، لجأت إدارات أخرى إلى العنف الممنهج، فشنت الشرطة والحرس الجامعي حملات اعتقال واسعة، مستخدمة الهراوات ورشاشات الفلفل في كثير من الحرمات الجامعية.
ومع اقتراب فصل الصيف، وخلوّ القاعات الدراسية من الطلاب، التقطت الجامعات أنفاسها وفتحت دفاترها القديمة، راجعت الصور ومقاطع الفيديو المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي وفي أرشيفاتها الأمنية، لتختار من الطلبة من ستتخذهم “قرابين” في حملتها التأديبية، فوُجّهت التهم، وصدر قرارات بالفصل، وطُلِب من بعضهم دفع تعويضات مالية باهظة عن “الأضرار” التي لحقت بمرافق الحرم الجامعي.
في جامعة مينيسوتا، مثلًا، تم فصل سبعة طلاب وطُلب منهم دفع 5000 دولار أميركي لكلٍّ منهم، على خلفية احتجاجهم أمام قاعة “هاليمي” في أكتوبر الماضي. أما جامعة نيويورك، فقد أوقفت 11 طالبًا عن الدراسة لمدة عام كامل، بعد جلسة احتجاج نظموها في ديسمبر/كانون الأول داخل مكتبة الجامعة.
وقد أخذت التهم الموجهة للطلبة المشاركين في الاحتجاجات منحى أكثر خطورة، إذ لم تعد تقتصر على “الإخلال بالنظام الأكاديمي” أو “تخريب الحياة الجامعية”، بل أصبحت تندرج تحت مظلة “تهديد الأمن والسلام”، التهمة الجديدة المعتادة في ملفات الطلاب المحتجين، وهو تحول يُخرج المسألة من إطارها الحراكي داخل فضاء أكاديمي، ليضعها ضمن سياق حرب سياسية تتخذ من الطلبة وقودًا لها.
في هذا المناخ، عمدت جامعات مثل ويسكونسن وكاليفورنيا وبينسلفانيا إلى إخضاع طلابها لتحقيقات مطوّلة أمام مجالس تأديبية اتّسمت بالفوضى وغياب المعايير القانونية، وسط أجواء من الضغط النفسي والتخويف الممنهج، حيث تُرك بعض الطلاب لشهور بلا قرارات واضحة، يواجهون حالة من القلق والترقب الدائم.
تحت ذريعة “الحيادية”: الجامعات كنسخ مصغرة من الاحتلال
ما إن هدأت عاصفة الأزمة وانقشع غبارها مع حلول صيف العام ذاته، حتى بدأت الجامعات الأمريكية تتصرف بنهج أكثر تركيزًا وتصميمًا، مختلفٍ عن ردة الفعل الأولى التي اتسمت بالفجائية والارتباك، وبدا واضحًا أن إدارات الجامعات استثمرت العطلة الصيفية في نسج استراتيجيات جديدة لمواجهة أي احتمال لتجدد الثورة الطلابية في أروقة الحرم الجامعي.
ورغم اختلاف التدابير التفصيلية من جامعة لأخرى، إلا أن الخطط المتبعة اشتركت في عدد من السمات العامة، أبرزها: تصاعد عسكرة الحرم الجامعي، وتزايد التدخل الشرطي في الحياة اليومية، وتكثيف الإجراءات العقابية ضد الطلاب، إلى جانب تعزيز احتكار القرار المؤسساتي من قبل إدارات الجامعات.
هذا التحول لا يبدو عفويًا؛ بل يُشير إلى استعانة تلك الإدارات باستشارات أمنية من مؤسسات متخصصة في “إدارة الأزمات”، مدعومة بجهود فيدرالية ومنظمات موالية للصهيونية، وقد غُلّفت هذه الإجراءات كلها بشعارات “حماية العملية التعليمية” و”ضمان سلامة الطلبة”، لكنها في جوهرها تُكرّس ثقافة قمعية استبدادية تنتهك الحقوق الأكاديمية وتصادر حريات الطلاب باسم النظام والاستقرار.
في سياساتها الجديدة، التفتت إدارات الجامعات على مبدأ التظاهر الذي يُعد أبرز أشكال حرية التجمع الطلابي عبر فرض قيود دقيقة وخانقة، تمثلت بتحديد ساعات وأماكن التجمّع، وحظر نصب الخيام أو المبيت في الحرم الجامعي، ومنع ارتداء أغطية الوجه أو التجمع في القاعات المغلقة أو بعد ساعات الدوام الرسمي، وغيرها من القيود التي صُممت لتفريغ الحراك من مضمونه، وخنق أي إمكانية لتجمّعات طلابية كبيرة وفاعلة.
ومع بداية العام الدراسي، كانت شرطة مدينة نيويورك في حالة تأهّب أمام حرم جامعة كولومبيا؛ وما إن بدأ الطلاب بالتجمع حتى هاجمتهم الشرطة واعتقلت عددًا منهم، في وقتٍ كانت فيه الجامعة قد قلّصت نقاط الدخول إلى أربعة فقط، ومنعت الدخول من باقي المداخل، وأعلنت حظرًا شبه شامل على التجمّعات.
جامعة ميشيغان سلكت المسار ذاته؛ فاستدعت شرطة المدينة لفضّ احتجاج طلابي، ما أسفر عن اعتقال أربعة طلاب، ونقل اثنين إلى المستشفى نتيجة عنف الشرطة.
أما جامعة كاليفورنيا، التي أنفقت نحو 29 مليون دولار في ربيع 2024 لمواجهة الاحتجاجات وتطويقها، فقد منعت بشكلٍ مباشر إقامة أي معسكر طلابي في أبنيتها الـ33، وأخطرت الطلاب بإلغاء مشروعية ارتداء أغطية الوجه داخل الحرم، في محاولة واضحة للكشف عن هويات المشاركين في أي فعالية مؤيدة للقضية الفلسطينية.
وقد ذهبت جامعة نيويورك أبعد من بقية الجامعات في سابقة خطيرة، حين اعتبرت الصهيونية في سياق سياساتها الجديدة هويةً يجب حمايتها بموجب القسم الرابع من قانون الحقوق المدنية الأمريكي لعام 1964، لا كأيديولوجيا سياسية تُمارس التمييز والاضطهاد والإبادة، وبناءً على ذلك، بات انتقاد الصهيونية سببًا كافيًا للعقوبة، في سياسة تُعد حتى الآن الأكثر تطرفًا بين الجامعات الأمريكية.
وفي خطوة مماثلة لتقييد الحريات الطلابية، منعت جامعة ميريلاند تنظيم فعاليات لإحياء ذكرى السابع من أكتوبر، كان من المقرر أن تنظمها مجموعات طلابية مثل “طلاب من أجل العدالة في فلسطين” و”أصوات يهودية من أجل السلام”، وقد اشترطت الجامعة أن تكون الراعية الوحيدة لأي نشاط داخل الحرم، في قرار يعكس انفراد الإدارة بالسلطة وتقييدًا مباشرًا لحرية التنظيم والتعبير.
وفي إطار الحملة المنظّمة لتفكيك الأجسام الطلابية المؤيدة لفلسطين، جمّدت جامعة رتجرز نشاط مجموعة “طلاب من أجل العدالة في فلسطين” حتى صيف العام المقبل، ضمن قرارٍ إداري يفتقر إلى مسوغات قانونية شفافة.
ولم تكن رتجرز وحدها؛ فقد اتخذت جامعة جورج واشنطن خطوة أكثر شمولًا، بتجميد نشاط فرع “أصوات يهودية من أجل السلام”، إلى جانب ست مجموعات طلابية أخرى تُعرف بمناصرتها للقضية الفلسطينية، وذلك حتى إشعار آخر. وفي تصعيد رقمي موازٍ، حظرت جامعتا كولومبيا ونيويورك حسابات هذه الأذرع الطلابية على وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها “إنستغرام”.
اتخذت العديد من الجامعات الأمريكية خطوات تصعيدية بحق الأجسام الطلابية المؤيدة للقضية الفلسطينية، كان أبرزها ما قامت به لجنة جامعات نورث كارولينا الحكومية (UNC)، التي أعادت هيكلة ما يُعرف بـ”المحكمة الشرفية” وهي هيئة طلابية كانت تفصل عادة في قضايا تتعلق بالحركة الطلابية لتضع صلاحياتها تحت إشراف مباشر للإدارة وأعضاء الهيئة التدريسية.
وقد كشفت تسريبات داخلية عن نقاش بين مسؤولي اللجنة أظهر أن محاسبة الطلاب المشاركين في الحراك المناصر لفلسطين لا يمكن أن تُترك للمحكمة بصيغتها الطلابية، في إشارة واضحة إلى انعدام الثقة في استقلاليتها.
في السياق ذاته، وحّدت الجامعات الكبرى سياساتها تحت لافتة “محاربة معاداة السامية”، واتخذت إجراءات صارمة تهدد الطلاب الذين يُشتبه بتضييقهم على طلبة يهود أو إسرائيليين، بعقوبات تتراوح بين الفصل المؤقت والطرد النهائي، كما تعهّدت هذه الجامعات بتكثيف جهودها في “التوعية”، من خلال ورش تدريبية ومحاضرات إلزامية، بل ووصل الأمر إلى افتتاح مراكز متخصصة لمحاربة ما تُصنّفه بأنه “معاداة للسامية”.
وقد تصدّرت هذا التوجه جامعات مثل نيويورك وكولومبيا وكاليفورنيا وبيركلي وهارفارد وجامعة بنسلفانيا، في تحول ممنهج يربط بين مناصرة فلسطين والتجريم الإداري، تحت عباءة قانونية وأخلاقية مزعومة.
ذاكرة الحرب على الإرهاب
رغم أن العام الدراسي 2024 شهد تصاعدًا غير مسبوق في التواجد الشرطي داخل الجامعات الأمريكية، إلا أن عسكرة الحرم الجامعي ليست ظاهرة طارئة؛ إذ يعيد مشهد رجال الشرطة المدججين بالسلاح في الساحات الجامعية إلى الأذهان أجواء ما بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، حين فُعل “برنامج 1033” التابع لوزارة الدفاع، والذي مكّن مئة جامعة من تسليح حرسها الجامعي بمعدات عسكرية فائضة.
هذا التداخل الأمني لا ينفصل عن رؤية مجالس الأمناء المحافظين الذين يعتبرون الجامعات امتدادًا للإمبراطورية الأمريكية، ويسعون إلى ضبطها تحت ذرائع الأمن والخبرة الاستخباراتية، فيما يخدم في العمق أجندات استثمارية واقتصادية، هدفها تحييد الطلبة ومنعهم من التأثير على السياسات المالية للمؤسسات التعليمية، خشية تكبّد خسائر مادية جرّاء تعطيل “الحياة الجامعية الطبيعية”.
تمخضت التحالفات مع منظمات مؤيدة لـ”إسرائيل” عن دخول أذرع طلابية لمنظمات صهيونية على خط التنظيم الداخلي للجامعات، من أبرزها: منظمة “هلال” التي أطلقت حملة بعنوان: “تأمين الحرم الجامعي” في 50 جامعة أميركية.
وفي خريف 2024، لم تتردد إدارات الجامعات في توقيع اتفاقيات أمنية متبادلة مع دوائر الشرطة في مختلف الولايات، لإحكام السيطرة على الحراك الطلابي، وهي اتفاقيات شملت عقودًا بملايين الدولارات، جرى توظيفها في تعزيز تقنيات التجسس، وتوسيع أنظمة التعرف على الوجوه، وقراءة لوحات المركبات باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي.
ووفقًا لتقرير صادر عن شبكة CBS نيويورك، تصدّرت شرطة مدينة نيويورك هذه الجهود، لتشكّل رأس الحربة في هذه الحملة الأمنية الممنهجة داخل المؤسسات الأكاديمية.
وفي تصعيد جديد يبرهن على تحوّل أدوات الدولة نحو ملاحقة الحركة الطلابية المناصرة لفلسطين، حصلت دائرة شرطة ولاية نورث كارولينا على مذكرة قضائية تتيح لها تفتيش حساب مجموعة “طلاب من أجل العدالة في فلسطين” على منصة إنستغرام، والتحفّظ على بياناته بما في ذلك أسماء الطلبة وعناوينهم ومعلوماتهم الشخصية في جامعات الولاية، في سابقة تُثير تساؤلات خطيرة حول انتهاك الخصوصية وتكميم الأصوات الطلابية.
وفي السياق ذاته، يلاحق المدعي العام في مقاطعة أورانج مجموعة من الطلبة قضائيًا على خلفية مشاركتهم في أحد المعسكرات الطلابية التي أُقيمت في ربيع العام الماضي، وذلك بالتنسيق المباشر مع إدارات الجامعات ودوائر الشرطة، ما يكشف عن تحالفٍ غير معلن بين السلطات التعليمية والأمنية لتجريم النشاط السياسي السلمي داخل الحرم الجامعي.
أجهزة أمنية وطلاب جواسيس: “هلال” ورفاقها في قلب الجامعة
بمجرد أن أُغلقت أبواب الجامعات الأميركية مع بداية صيف 2024، حتى اجتمع أكثر من 450 خبيرًا أمنيًا في المؤتمر الحادي عشر لأمن وسلامة الحرم الجامعي، الذي انعقد في ولاية أتلانتا، مركّزًا بصورة شبه كاملة على “كيفية احتواء ومنع الاحتجاجات الطلابية المناصرة للقضية الفلسطينية”.
ضمّ مجلس الشورى للمؤتمر شخصيات عسكرية واستخباراتية بارزة، بعضها على صلة وثيقة بأجهزة الأمن الإسرائيلية، من بينهم بوبي براشر، الذي قضى فترة تدريبية في “إسرائيل” لاكتساب خبرة ميدانية في تكتيكاتها الأمنية، وناقش المؤتمر سبل عسكرة الحرم الجامعي، من تسليح الحرس الجامعي، إلى توسيع أدوات الرقابة الإلكترونية والتكنولوجية.
لم تقف الأمور عند التخطيط الأمني، بل امتدت إلى هندسة خطاب مؤسساتي محكم؛ إذ قدّمت منظمات ذات ميول صهيونية، على رأسها “مجلس الأمناء والطلبة القدامى الأمريكي”، دعمًا لوجستيًا ومشورة عملية للجامعات، من خلال تقرير بعنوان: “مساحة متساوية للجميع: دليل مجلس الأمناء لمنع التجمع الطلابي واحتلال ساحات الجامعات”.
وتحت غطاء “الحيادية المؤسساتية”، أوصى التقرير الجامعات برفض مطالب سحب الاستثمارات من الشركات المتواطئة مع الاحتلال، ليس من منطلق سياسي، بل على أساس ما يُسمى بالكفاءة الاقتصادية، محصّنًا قرارات التمويل والاستثمار من أي ضغط طلابي أخلاقي أو سياسي. وقد تبنّت هذه المقاربة جامعات عدّة، أبرزها: جامعة إيميرسن وجامعة بوردو ونظام جامعة تكساس.
تمخضت الجهود الأمنية الخارجية والتحالفات مع منظمات مؤيدة لـ”إسرائيل” عن دخول أذرع طلابية لمنظمات صهيونية على خط التنظيم الداخلي للجامعات، من أبرزها: منظمة “هلال” وشبكة تأمين المجتمع (SCN)، اللتان أطلقتا حملة موسّعة تحت عنوان: “تأمين الحرم الجامعي” في 50 جامعة أميركية.
افتُتحت الحملة بورشة عمل خريف 2024، بمشاركة ممثلين عن 92 جامعة إلى جانب ضباط شرطة، وعملاء من مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI)، وخبراء أمنيين يهود، وانتهت إلى تبني عشر توصيات مركزية، تصدّرها: منع التجمعات الطلابية، وتعزيز التواجد الأمني، وفرض حالات طوارئ مؤقتة، وتوسيع صلاحيات المراقبة داخل الحرم الجامعي، وقد سارعت إدارات جامعات عدّة إلى تبني هذه التوصيات مع بداية الفصل الدراسي.
الأخطر، أن الحملة أعلنت بوضوح نيتها استخدام أدوات الرقابة الرقمية والتجسس الإلكتروني في الحرم الجامعي، والتعاون المباشر مع شرطة نيويورك، بحجة “حماية الطلبة اليهود”، وهو ما يمثل انتهاكًا جسيمًا لخصوصية الحياة الجامعية، وتحويل الحرم الجامعي إلى بيئة استعمارية مصغرة تُحاكي ما يعيشه الفلسطينيون تحت الاحتلال، من مراقبة وقمع ومنع للحرية.
لكن “هلال” ليست الذراع الوحيدة، فإلى جانبها تعمل شبكات طلابية تجسسية أخرى مثل: مشروع ديفيد، وكناري ميشين، ومبادرة أمشا، ورابطة “إسرائيل في الجامعات”، ومنظمة “طلبة داعمون لإسرائيل”، وغيرها من المنصات التي شكّلت بنية بوليسية ناعمة داخل الجامعات.
وقد لعبت هذه الأذرع دورًا محوريًا في رصد وملاحقة الطلبة والأساتذة المناصرين للقضية الفلسطينية، من خلال تتبّع أنشطتهم والتشهير بهم والضغط لفصلهم ومنع ترقياتهم، وخلق بيئة عدائية تمنع أي نشاط تضامني مع فلسطين، سواء داخل أسوار الجامعة أو في الفضاءات العامة.
كيف استعارت الجامعات الأميركية أدوات القمع من تل أبيب؟
لم تقتصر الجهود القمعية لإسكات الأصوات المؤيدة لفلسطين داخل الجامعات الأميركية على أذرع صهيونية غير حكومية، بل امتدت لتشمل مؤسسات الكيان الإسرائيلي الرسمية ذاتها، وعلى أعلى المستويات، فبحسب تقرير صادر عن شبكة Ynet News الإسرائيلية، شاركت كلٌّ من وزارة الخارجية ووزارة شؤون المغتربين الإسرائيلية في قيادة حملة ترويع منظمة ضد الطلبة والأساتذة المنخرطين في الحراك المناصر لفلسطين في الجامعات الأميركية، عبر إنشاء فريق عمل خاص يُشرف على تنفيذ خطة قائمة على “الوصم بالعار والضغط المجتمعي”.
تتضمن هذه الخطة استهداف الأفراد والمؤسسات المشاركة في الحراك، من خلال التضييق على فرص العمل، وتهديد أمن التنقل، والإضرار بالفرص الاقتصادية، سواء لهم شخصيًا أو للكيانات التي ينتمون إليها. والمفارقة أن هذه العمليات لا يُفترض أن تحمل “بصمة إسرائيل المباشرة”، بل يُراد لها أن تبقى بلا توقيع رسمي، تُمارَس عبر أدوات خفية ونفوذ غير معلن.
وقد بدأت نتائج هذه الحملة بالظهور، من خلال إجبار رئيسة جامعة هارفارد، كلوديا جي، ورئيسة جامعة بنسلفانيا، إليزابيث ماجيل، على الاستقالة، فضلًا عن إيقاف عدد من الأساتذة في جامعات مثل تكساس التقنية وإنديانا بسبب مواقفهم أو تعبيراتهم المؤيدة لفلسطين.
وامتدت هذه الهجمات لتشمل القطاع الخاص أيضًا، حيث فُصل طلبة وموظفون متعاطفون مع فلسطين من مكاتب محاماة، وصالات عرض فنية، ومؤسسات إعلامية، فيما بدا أنه تطبيق حرفي لما وصفته الحكومة الإسرائيلية بـ “أجندة قانونية خارج القانون” وهي عبارة غامضة تعكس على الأرجح سعي تل أبيب لاستخدام أدوات نفوذها من دون المرور عبر آليات العدالة التقليدية، بمساعدة وزارة العدل الأميركية، كما تشير بعض التقارير.
بهذا، تتحول حملة “الوصم والعزل” إلى أداة ردع استباقية، تتجاوز ساحات الجامعة، لتُعيد رسم حدود المسموح والممنوع سياسيًا واجتماعيًا داخل الفضاء الأكاديمي والمهني الأميركي.
ويبدو أن ما عُني في خطة الحكومة الإسرائيلية بـ”أجندة قانونية خارج القانون” لم يكن سوى مخطط شامل للعقاب السياسي والاجتماعي، يقوم على أدوات مباشرة من قبيل التهديد بالعنف وابتزاز الطلبة والأساتذة وتلفيق التهم واقتطاع عبارات خارج سياقها لشيطنة الناشطين والتشهير المجتمعي ونسف السمعة المهنية، وصولًا إلى حرق الشخصية المناصرة بالكامل داخل الحرم الجامعي وخارجه.
لم تتوقف الخطة عند الأفراد، بل امتدت إلى المؤسسات الأكاديمية نفسها، عبر الضغط على المتبرعين والممولين لسحب دعمهم المالي، كورقة ضغط فعّالة لدفع الجامعات إلى الانقلاب على الحراك الطلابي المناصر لفلسطين، وفي حال فشل الضغط المالي، أشارت الخطة إلى إمكان اللجوء إلى عقوبات حكومية وفيدرالية.
وقد حدث ذلك بالفعل، ففي حالة جامعة هارفارد، سحب الثري الأميركي ليونارد بافاتنيك تبرعاته، التي بلغت عام 2018 وحده 280 مليون دولار، احتجاجًا على ما اعتبره “تراخيًا” في مواجهة معاداة السامية.
أما في مدينة نيويورك، فقد تدخل عدد من أثرياء النخبة اليهودية وغير اليهودية للضغط على الحاكم إيريك آدامز لتحريك الشرطة ضد اعتصام طلبة جامعة كولومبيا، ونقلت صحيفة واشنطن بوست عن تسريبات لمجموعة “واتساب” بين آدامز وبعض المانحين أن أحدهم تبرع له بالمبلغ الأقصى المسموح به قانونيًا (2100 دولار) في الشهر ذاته، مقابل تسريع قمع الحراك.
المجموعة ضمت أسماء لامعة، مثل: هوارد شالتز (الرئيس التنفيذي لستاربكس)، ومايكل ديل (مؤسس شركة Dell)، وبيل أكمان (مدير صندوق استثماري)، وجوشوا كوشنر (شقيق صهر ترامب)، وغيرهم من رجال الأعمال المرتبطين بشبكات النفوذ الإسرائيلي.
وفي سياق متصل، كشفت الخطة عن جهود متقدمة في “تدريب” الطلبة والأساتذة الموالين لـ”إسرائيل” داخل الجامعات الأميركية، ضمن برامج ممولة لنشر البروباغندا الإسرائيلية بشكل مباشر أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، في تكثيف واضح لما يُعرف بـ”منح الهاسبارا” (Hasbara Fellowships)، التي تهدف إلى تشكيل رأي عام معادٍ للفلسطينيين والعرب والمسلمين داخل الحرم الجامعي الأميركي وخارجه، عبر تسليح النخبة الصهيونية الشابة بسردية محكمة وموجّهة.
ترامب يصنع طلابًا بلا رأي
ما إن اشتعلت شرارة الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأميركية حتى سارع الكونغرس للتدخل، عبر مشروع قانون تبناه مجلس النواب بقيادة المتحدث باسمه مايك جونسون، تحت مسمى “قانون التوعية بمعاداة السامية”، الذي تبنّى تعريف IHRA الموسّع لمعاداة السامية، الذي يخلط عمدًا بين انتقاد الصهيونية أو سياسات الاحتلال الإسرائيلي، وبين معاداة اليهود كدين أو شعب، ما فتح الباب واسعًا لتجريم كل مظاهر الحراك الطلابي المؤيد لفلسطين بوصفه تحريضًا ضد السامية.
لكن المنعطف الأخطر جاء مع عودة دونالد ترامب إلى المكتب البيضاوي في يناير/ كانون الثاني الماضي؛ فما إن تسلم مهامه حتى أصدر أمرًا تنفيذيًا لمحاربة معاداة السامية في مؤسسات التعليم العالي، وتحت هذا الغطاء، بدأت وزارة التعليم الأميركية حملة تحقيقات موسّعة طالت أكثر من 60 جامعة ومعهدًا شارك فيها الطلبة في احتجاجات ربيع 2024، في ما بدا كخطوة منظمة لتصفية الحراك.
الحكومات المحلية دخلت الخط بدورها، لا سيما في الولايات التي يحكمها الجمهوريون المحافظون، ففي فيرجينيا، على سبيل المثال، هددت السلطات بقطع التمويل عن الجامعات التي لا تُحاصر الحراك الفلسطيني داخل الحرم الجامعي، ما حدا بجامعاتها العريقة جامعة فيرجينيا وجامعة جيمس مايدسون وجامعة رابطة الاتحاد باللجوء إلى توظيف قوانين محلية، على رأسها قانون فيرجينيا 18.2-422 الذي يمنع تغطية هوية الفرد باستخدام كمامة الوجه أو القبعة أو أي لباس آخر يؤدي إلى ذات النتيجة.
أما الجامعات التي رفضت الانصياع الكامل لهذه السياسات، فقد دفعت الثمن، من بينها جامعة بيدمونت فيرجينيا، التي سمحت بعرض فيلم وثائقي بعنوان “Israelism – الأسرلة” نظمته مجموعة “طلاب من أجل العدالة في فلسطين”، لتُعاقب الجامعة على ذلك بقطع التمويل الحكومي عنها.
تعهدت كولومبيا بتعزيز العلاقات مع تل أبيب، ودعم الرواية الإسرائيلية داخل الحرم الجامعي، وتقييد مركز دراسات الشرق الأوسط، الذي طالما كان منابر نقدية للسياسات الإسرائيلية.
للأسف فشلت الجامعات بأن تشكّل سدًا منيعًا أمام الحملة الأمنية التي شنتها إدارة ترامب على الطلبة غير الأمريكيين في حرم الجامعات، انتقامًا من مشاركتهم في احتجاجات ربيع 2024 ضد حرب الإبادة في غزة، فمع بداية العام الجديد، تم فسخ مئات التأشيرات الدراسية، وسُجّلت حالات متعددة من الاحتجاز والترحيل، في بيئة ملوّثة بالخوف والريبة بين الطلاب الأجانب، وخصوصًا أولئك القادمين من العالمين العربي والإسلامي.
جامعة كولومبيا شكلت الحالة الأبرز والأخطر؛ فبالرغم من كونها من أكثر الجامعات قمعًا للاعتصامات، بما في ذلك طرد دائم لعدد من الطلبة وفضّ اعتصام قاعة هاميلتون بالقوة، فإنها لم تُرضِ إدارة ترامب، فقد أعلن البيت الأبيض تجميد 400 مليون دولار من المنح والعقود الفيدرالية للجامعة، ما اضطر الأخيرة إلى الانحناء الكامل للعاصفة، والإفصاح عن خطة قمع داخلية مفصلة ضد طلبتها.
الخطة التي جاءت في وثيقة من أربع صفحات تضمنت سلسلة من الإجراءات الأمنية والإدارية غير المسبوقة، شملت فرض قيود صارمة على مكان وزمان أي احتجاج طلابي، ومنع ارتداء أغطية الوجه أو إخفاء الهوية، وتحويل المخالفين إلى لجان تأديبية وتحقيق، وتعيين 36 حارسًا جامعيًا جديدًا مخوّلين بالتوقيف، بالتنسيق مع شرطة نيويورك، واستهداف مباشر لحركة “طلاب من أجل العدالة في فلسطين” وملاحقة أعضائها.
لكن الخطر الحقيقي كُشف في الشقّ المؤسسي من الخطة، إذ تعهدت كولومبيا بمراجعة شاملة لآلية قبول الطلبة الأجانب تحت إشراف مباشر من مكتب الرئيس، وتعهّدت أيضًا بتعزيز العلاقات مع تل أبيب، ودعم الرواية الإسرائيلية داخل الحرم الجامعي، وتقييد مركز دراسات الشرق الأوسط، الذي طالما كان منابر نقدية للسياسات الإسرائيلية.
وهكذا، بدلاً من أن تكون الجامعات الأميركية، وعلى رأسها كولومبيا، حصنًا للحريات الأكاديمية والدفاع عن طلابها، تحولت إلى أداة قمع بيد السلطة، تُدين المحتجين وتسلّمهم مباشرة للجلاد، في مشهد يكشف تآكل استقلالية المؤسسات التعليمية لصالح المال والابتزاز السياسي.
طرق على جدران الخزان
جرّ عنف إدارات الجامعات في التعامل مع طلبتها انتقادات واسعة من جهات حقوقية متعددة، منها اللجنة الأمريكية لحقوق الإنسان والمقرر السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة والمقرر الأممي الخاص بحق التعليم، لما تنطوي عليه هذه الحملة من انتهاكات جسيمة لحق التجمع السلمي والتعبير والاحتجاج، المكفولة في كافة القوانين الدولية والوطنية، بما فيها دستور الولايات المتحدة الأمريكية، ناهيك عن القوانين الداخلية لتلك الجامعات.
وفي الداخل الأميركي، أطلقت منظمات بارزة مثل مركز الحقوق المدنية الأميركي، وهيومن رايتس ووتش، والعفو الدولية، نداءً مفتوحًا لرؤساء الجامعات يدعوهم إلى الاضطلاع بمسؤولياتهم في حماية الطلبة والدفاع عنهم في وجه تصاعد القمع، خصوصًا بعد دخول إدارة ترامب على خط الأزمة.
النداء جاء بعد رصد مستوى غير مسبوق من العنف الممنهج في فض اعتصامات الحراك الطلابي المؤيد لفلسطين، وقد وثّقت المؤسسات الحقوقية ما لا يقل عن 174 حالة اعتداء مباشر على الطلبة في 20 جامعة، واستخدام المواد الكيميائية مثل بخاخات الفلفل في 17 جامعة، وتهديد أو استخدام الرصاص المطاطي في 11 جامعة، وإصابات متفاوتة بين الطلبة تراوحت بين جروح وكسور ورضوض.
كما أدانت جمعية الأساتذة الجامعيين الأمريكيين في بيان لها السياسات الجامعية الجديدة التي تتجاوز الأجسام الطلابية والتدريسية الرسمية وتهدد العاملين في الجامعات كما تهدد الطلبة في سلامتهم الشخصية والأكاديمية.
من جهتها، كثّفت مؤسسات حقوقية مثل “بالستين ليجل” الأمريكية جهودها في ردهات القضاء ولجان التحقيق لتقديم المساعدة القانونية للطلبة، حيث تلقت المؤسسة عام 2024 وحده 2000 طلب مساعدة من طلبة وأساتذة وعاملين في الجامعات الأمريكية لمواجهة حملات القمع من الإدارات.
أخيرًا، فإن الحرب الأمريكية على الحراك الطلابي المناهض للسياسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة قد بلغت نقطةً حرجة، فيما يبدو أنه البداية فقط؛ إذ اتفقت روافد حكومية وأمنية وعسكرية، وأخرى صهيونية ذات أجندات تجسسية، بل وحتى حكومة الكيان ذاتها، على تصفية الحراك الطلابي مهما كلّف الأمر، في ظل حرب شرسة لا هوادة فيها، تبدو في حدّتها امتدادًا آخر لحرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة، لا مجرد رد فعل عليها.