كانت تلك السنة الدراسية الأولى لي في مرحلة الماجستير بجامعة بيرزيت، حين وقف المحاضر في وسط القاعة، ثم سألنا: “من منكم من الـ 48؟”، رفع بعضنا يده، فأومأ المحاضر برأسه ثم طلب من بقيتنا الإجابة عن سؤاله التالي: “ما الوصف المُستخدم في عائلتك، أو مدينتك، أو مجتمعك المحيط، لزملائكم القاطنين في الـ 48؟”، وانهمرت إجاباتنا تقرع رأسه الأجرد من الشعر.
مِنا مَن قال: “عرب إسرائيل”، و”عرب فلسطين”، و”فلسطينيو الداخل”، و”عرب الـ 48″، ازدرد المحاضر ريقه بازدراء من إجاباتنا، ثم سألنا مرة أخرى عن الصفات العامة التي نستدل بها عليهم، فتقاطعت إجاباتنا بين المظهر الخارجي الذي ينحسر الحجاب فيه عن معظم الشعر، وحين يحضر يكون على شكل توربان، وبين لكنتهم المميزة حين يقولون “أسا” والتي تشترك في الجذر نفسه مع “هسا، وهلكيت، وهلأ، وهلقيت” وتعني الآن، وبين أنماطهم الاستهلاكية في الشراء دون جدال، وأرقام لوحات سياراتهم، والكلمات العبرية التي تتسلل إلى عربيتهم.
صمت المحاضر قليلًا، كان رأسه الأجرد حينها قد غدا بلون الشمندر القرمزي، ثم أطلق حمم غضبه في وجهنا بدون صراخ قائلًا: “أسا كلمة من هون وكم شيكل (العملة النقدية للاحتلال) زيادة، و10 سم من الحجاب، حولت فلسطينيين مثلكم لعرب إسرائيل؟”.
استدرك فجأة، ثم التفت إليّ وسألني: “هل تعترفين بإسرائيل؟”، أجبته دون تردّد: “طبعًا لا”، فانهمر غضبه على رأسي وقال: “إذًا كيف تصفين فلسطينيين مثلكِ، عربًا مثلكِ، بعضهم مسلمون مثلكِ، بأنهم جزء من كيان لا تعترفين به؟”، ثم سأل صديقتي: “أنتِ فلسطينية؟” أجابت بالإيجاب، فعاجلها: “إما أنكِ لست فلسطينية حين تصفينهم بـ’عرب فلسطين’، وإما أن فلسطين، بالنسبة لكِ، اقتصرت على ما احتُل عام 1948 فقط”.
ثم وجه خطابه لنا جميعًا: “لماذا لا نسميهم عربنا؟ أليسوا نحن؟ لماذا نطلق عليهم دائمًا صفات التمايز والنأي؟ كأننا الأفضل لأننا هربنا وتركنا بلداتنا وقُرانا، وكأنهم الخونة المندسون الذين قبلوا حكم المحتل وجنسيته؟، هل سأل أحدكم نفسه يومًا إن كانوا هم الشجعان ونحن الجبناء؟، هل فكرتم أن لهم وحدهم الفضل في بقاء ما تبقى من فلسطين 48، في فشل إسرائيل اليوم في إعلان نفسها دولة يهودية صافية؟”.
وأضاف: “هل سأل أحدكم نفسه ماذا كان يفعل عربُنا الصامدون المتمسكون حين فضلنا نحن الأغلبية الخائفة الهرب وترك البلاد، وارتضينا العيش تحت المظلة الأردنية والمصرية، وتحت رحمة الأونروا والأنظمة العربية والمجتمع الدولي، بينما كانوا هم يخوضون معركة البقاء، معركة العروبة؟، هل سأل أحدكم نفسه يومًا إن كان عربُنا هم من دفعوا الدماء فداء للأرض، بينما دفعنا نحن الأرض فداء العِرض وخرجنا بلا أرضٍ ولا عِرض؟”.
منذ ذلك اليوم بقيت أسئلة المحاضر جافةً معلقةً بالمنتصف بيننا وبين زملائنا (عربِنا في المحاضرة) وبين ذواتنا، وعلى مدى عامين من الدراسة كان المحاضر نفسه يبدأ كل مساقٍ جديدٍ بالثورة نفسها، بينما انزويت أنا في دوامة بعثرتي، أُقلب الأفكار.. “هُم من بقوا، هُم من دفعوا الثمن، ونحن من استسلمنا للخوف، لماذا دفعناهم إلى زاوية التهميش وكأنهم ظلّ العدو وحربته؟.
من السؤال وانعكاساته القاتمة في نفوس الفلسطينيين بالأمس، واليوم وغدًا، تأتي هذه المادة، محاولةً تسليط الضوء على أولئك الذين تشبثوا حين تخلى الجميع، الذين عاشوا منفاهم الخاص، إلى جانب منفانا الكبير، والذين حين تهدّل قيدهم اقتربوا فابتعدنا نحن ونبذناهم، رغم أنهم البقية الباقية من البلاد.
“إني اخترتك يا وطني.. فليتنكر لي زمني.. ما دمت ستذكرني”
علي يوسف أحمد فودة
لم تبدأ النكبة تحديدًا في أيار/مايو، أو حتى في العام 1948، بل انطلقت فعليًا بعد الثورة الفلسطينية الكُبرى 1939، حين أدركت الحركة الصهيونية أن حُلم وطن قومي لليهودي لا يُمكن أن يكتمل بوجود أغلبية عربية، فقررت استخدام التهجير كآلية عقابية للسُكان الفلسطينيين، ما تسبب بتهجير 40 ألف فلسطيني، قبل أن تُسهم الأمم المتحدة بتسريع وتيرة التهجير.
كان ذلك في التاسع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني 1947، حين صدر قرار التقسيم 181، الذي قسّم فلسطين العربية إلى دولتين؛ يهودية على مساحة 55%، وعربية على مساحة 45%، و أطلق يد العصابات الصهيونية ونيرانها على القرى والبلدات الفلسطينية، فتحولت المناوشات والاعتداءات المتفرقة إلى هجمات شاملة وواضحة هدفها دفع السكان العرب خارج الحدود التي أقرتها الأمم المتحدة للدولة اليهودية.
خلال الأشهر الأولى لم تفلح جهود العصابات في دفع السُكان العرب بعيدًا عن عمق التقسيم اليهودي لفلسطين، فما إن تلبث الهجمات أن تهدأ حتى يعاود الفلسطينيون التسلل مرة أخرى والعودة إلى مناطقهم أو قريبًا منها، حتى آذار/ مارس 1948، حين أطلقت العصابات خطة موحدة للتهجير هي “الخطة دالت“، والتي مثلت ذُروة التطهير العرقي والتهجير.
وفقًا للخطة دالت، فقد سعت العصابات الصهيونية إلى الهجوم من ثلاث جهات، وإبقاء جهة واحدة مفتوحة أمام الفلسطينيين، وتم تنسيق الاتجاهات بجغرافية محددة تجمع مواقع الهجوم على البلدات الفلسطينية، وتنتهي في خطٍ واحد من التهجير الموحد، يدفع الفلسطينيين عنوةً خارج “الدولة اليهودية”.
في التاسع من نيسان/أبريل 1948 كان عدد المهجرين الفلسطينيين قد وصل إلى 200 ألف مهجر، عبروا حدود التقسيم بالفعل، قبل أن تتسارع الهجمات وترتفع أعدادهم بعد انسحاب الانتداب البريطاني التدريجي من المواقع الأساسية في البلاد، من بين هؤلاء هُناك ألوف مؤلفة فضلوا الاختباء بين أشجار الزيتون، أو عادوا مرة تلو المرة إلى حدود بلدتهم، حتى أدرك الاحتلال أن بقاء البلاد يحرض أصحابها على العودة، فنسف بيوتها ومرافقها وحولها إلى رماد.
يذكر الكاتب محمد كيال قصة والديه اللذان هُجرا من البروة بعد احتلالها، ثم قرر سُكانها من المسلمين والمسيحيين العودة إليها فجمعوا قليلًا من السلاح ودحروا العصابات الصهيونية وعادوا لها، متمسكين بأحقيتهم التاريخية والأممية وفقًا لقرار التقسيم الذي يضم البلدة لحدود الدولة العربية.
لم يمض أسبوع واحد قبل أن تُعاود العصابات الصهيونية الهجوم وتهجير سُكان البلدة مجددًا، ولتأكيد تهجيرهم هذه المرة، سوت منازل القرية والمسجد والكنيسة بالأرض، بينما توزع معظم سُكانها بين مناطق الجليل الغربي، ومخيمات لبنان وسوريا وشمال الضفة الغربية.
أما والديه فقد اختبئا لأيام تحت أشجار الزيتون، قبل أن تلاحقهم العصابات الصهيونية، ما دفعهم للجوء إلى قرية مجاورة تبعد 2 كم عن البروة على أمل العودة لاحقًا. بعد عامٍ على تهجير البروة، حولتها حكومة الاحتلال الإسرائيلي إلى بلدة زراعية، بينما طُرد البقية القليلة التي عادت إلى حدودها مجددًا، وفقًا لقوانين الطوارئ وأملاك الغائبين.
بالنسبة لعائلة كيال ظل حلم العودة قائمًا حتى أصابته ضربة العدوان الثلاثي عام 1956، ثم أودته نكسة عام 1967 في مقتل، حينها تحول حُلم العائلة من العودة إلى تحويل الكوخ المتهالك الذي يأويها إلى بناء حجري، كافٍ لحماية العائلة وتأمين السكن الدائم والاستقرار لأفرادها.
قصة عائلة كيال تتشابه في كثيرٍ من زواياها مع 900 ألف فلسطيني تعرضوا للاقتلاع من بلداتهم، من بين هؤلاء 750 ألفًا طالهم التهجير إلى خارج حدود النار والدمار الذي زرعته العصابات الصهيونية، وأعلنت على أنقاضه في الخامس عشر من أيار/مايو 1948 “دولتها”، بينما تمكن 150 ألفًا منهم التشبث بأظافرهم في تلابيب البلاد.
من بين هؤلاء الـ 150 ألفًا، هُناك 25% بالمئة منهم تم تهجيرهم من بلداتهم الأصلية فعليًا، لكن صرامة تشبثهم أتاحت لهم البقاء على مرمى حجرٍ منها، ولمواجهة تمردهم وشراسة إصرارهم فرض الاحتلال عليهم حُكمًا عسكريًا شديد القسوة، كان كفيلًا بتحويل حياتهم اليومية إلى قطعة من العذاب.
“في داخلي شُرْفَةٌ لا يَمُرُّ بها أَحَدٌ للتَّحيَّة“
محمود درويش
خلال سنوات الحُكم العسكري التي امتدت ما بين 1948-1966، سلطت الحكومة الإسرائيلية عليهم سلسلة من القوانين والأوامر العسكرية التي حرمتهم من حياتهم الطبيعية، مثل الحركة والعمل والأنشطة السياسية، كما حصرت وجودهم في مناطق جغرافية ضيقة داخل المدن الكُبرى، بينما صادرت الأراضي الزراعية المحيطة بالبلدات والقرى المهجرة، إضافة لتطبيق أنظمة مراقبة شديدة على العرب باعتبارهم أعداء داخليين.
من ضمن القوانين التي فُعلت في تلك الفترة، قانون الطوارئ البريطاني الذي سُن عام 1945 تحت اسم “أنظمة الدفاع”، واستخدمته “إسرائيل” لفرض الحُكم العسكري، والاعتقال الإداري، وإغلاق القرى والمناطق، وفرض حظر التجوال، ومصادرة الممتلكات، وهو ما مكن الحاكم العسكري من التحكم في حياة الفلسطينيين والعبث فيها، باعتقالهم أو نفيهم أو منعهم من دخول أراضيهم، أو قتلهم على خلفية تجوالهم خلال فترة الحظر.
وقانون استعمال الأراضي البور 1948، الذي أعطى صلاحية لوزير الزراعة بوضع الأرض تحت تصرفه واستغلالها لفترة تصل إلى 35 شهرًا، ومصادرتها في حال ثبت استخدامها لأهداف غير الزراعة، وقانون المناطق الأمنية 1949، الذي منح وزير الدفاع صلاحية مصادرة الأراضي وتهجير السُكان في المناطق الحدودية، بحجج عسكرية وأمنية.
يُضاف لهم قانون أملاك الغائبين، الذي سُن عام 1950، وأتاح لسلطات الاحتلال مصادرة أملاك 80% من الفلسطينيين، وبما يقدر بمليون دونم من الأراضي، بحجة غيابهم عنا، حتى لو انتقلوا إلى منطقة مجاورة، أو لم يستطيعوا العودة بسبب إغلاقها بحجة أمنية، أو وفقًا لأنظمة الطوارئ، حيث حصر القانون إمكانية نقل الأملاك إلى سلطة التطوير فقط.
في قائمة القوانين نفسها، قانون سلطة التطوير، أو ما عُرف بنقل الملكية 1950، والذي ارتبط زمانيًا وسياساتيًا بقانون أملاك الغائبين، حيث أُنشأ بناء عليه سلطة التطوير تقوم على شراء الأراضي واستئجارها واستبدالها وبيعها والتصرف فيها كمالك، على ألا يتم بيعها لغير الدولة أو الصندوق القومي اليهودي.
هُناك أيضًا قانون العودة 1950، والجنسية 1952، واللذان أتاحا ليهود العالم الهجرة إلى “إسرائيل” والحصول على جنسيتها فور دخولها، في مقابل حالة إذلال مدني وقانوني بحق الفلسطينيين، تركتهم في ذيل إمكانية الحصول على جنسية، وأقصت معظمهم لسنواتٍ طويلة، مستولية على أبسط حقوقهم المدنية.
وقانون استملاك للأغراض العام 1953، والذي أعطي سلطة الاحتلال الحق في مصادرة الأراضي في المناطق العربية لشق طرقٍ وبناء مرافق تخدم المناطق اليهودية، وبناء عليه فقدت البلدات العربية فضائها الحيوي، بينما أصبحت أراضيها حدائق عامة للبلدات اليهودية.
وقانون الاستحواذ وتصديق الإجراءات والتعويضات 1953، الذي قنن جميع عمليات المصادرة ما بعد النكبة، ووضع الفلسطينيين أمام خيارٍ واحد فقط، هو القبول بتعويضات مالية عن أملاكهم مقدمة من سلطة التطوير ودائرة أراضي “إسرائيل”، مقابل التنازل القانوني عنها، -من المهم الإشارة هُنا إلى أن نسبة الذين استلموا التعويضات محدودة جدًا -.
بعيدًا عن القوانين المكتوبة، كانت هناك جملة من الأوامر العسكرية الشفوية والمفاجئة التي يُصدرها الحاكم العسكري، ويُفاجأ بها السُكان الفلسطينيون تُنغص عليهم حياتهم، مثل منع السفر والتنقل، وفصل القرى عن بعضها بأسلاك وحواجز، وحملات المداهمة والتفتيش المفاجئ، وحظر الاجتماعات، ومنع تعيين المعلمين والأئمة والموظفين دون موافقة الحاكم نفسه.
إضافة إلى قوانين أخرى ظلت تتوالى حتى اليوم، في سعي لأسرلة الفلسطينيين، والتحكم في هويتهم وأفكارهم وتعليمهم وانتماءاتهم وأملاكهم، من بينها 12 قانونًا لمصادرة الأراضي والممتلكات العربية، وأكثر من 65 قانونًا آخر تُميز بشكل مباشر أو غير مباشر ضد المواطنين الفلسطينيين داخل “إسرائيل”، وكذلك ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، على أساس الانتماء القومي.
جملة القوانين والأوامر هذه، حولت حياة الفلسطينيين داخل الأرض المحتلة إلى جحيم، ونزعت عنهم بين ليلة وضحاها فلسطينيتهم وعروبتهم وهويتهم وحريتهم، فأصبح استمرار أحدهم في عمله بحاجة إلى إذن عسكري، وخروج أحدهم من منزله بعد غروب الشمس يعرضه لخطر الضرب أو الاعتقال أو القتل، وحتى إقامة الأعراس والمآتم كانت بحاجة إلى إذن عسكري، وكثيرًا ما تم التنكيل بهم من خلالها.
“كأننا عشرون مستحيل.. هنا .. على صدوركم، باقون كالجدار”
توفيق زياد
خلال بداية خمسينيات القرن الماضي، بدأ يظهر إلى الضوء مصطلح “الغائبون الحاضرون”، في إشارة إلى الفلسطينيين الذين هُجروا من بلداتهم، لكنهم ظلوا في نطاق حدود “الدولة اليهودية”، لاحقًا بدأ المصطلح يكتسب قيمًا اجتماعية وثقافية وإنسانية تتجاوز مضمونه القانوني والحقوقي.
نظرًا لأن الغائبين الحاضرين هم فلسطينيون يعيشون في بلدات عربية طبيعية، لكنها تحوّلت بموجب الأوامر العسكرية إلى ثكنات مغلقة لا يُسمح بمغادرتها إلا بتصريح خاص، فإنهم حاضرون بأجسادهم وتفاعلاتهم الاجتماعية من زواج وسفر وعمل ودراسة، لكن قدرتهم على اتخاذ القرارات في هذه الشؤون مغيّبة.
الحاكم العسكري هو من يمنح الإذن بالزواج والسفر، ومن يُعيّن الطواقم التدريسية، وأئمة المساجد، وعمال المزارع، بل ويحدد من سيزرع وماذا يُزرع، ومتى يكون القطاف، وبكم يُباع، حتى قيل إن الفلاح الفلسطيني كان يزرع أرضه وهو لا يعلم إن كان سيقطف ثمرها بيديه.
هم أيضًا حاضرون، بكل تنوعهم الديني والطائفي، مسلمون ومسيحيون وشركس وأكراد وغيرهم، لكنهم غائبون عن ممارسة ما يجمعهم من طقوس وشعائر، إذ تحاصرهم قرارات الحاكم العسكري التي تُمنح لمن يتعاون، وتُمنع عمّن تُشمّ منه رائحة وطنية، تلك الرائحة التي يراها الحاكم متجسدة في العلم الفلسطيني المحظور، وفي الكتب والمجلات العربية، وفي الاستماع إلى الإذاعات والصحف الناطقة بالعربية – باستثناء الإسرائيلية منها – وفي أي نمط من أنماط التواصل مع “الأنظمة المعادية” في الضفة وغزة والعالم العربي.
رغم تعدد التوصيفات وتشظيها، إلا أن الباحثة همت الزعبي، استطاعت تصنيف “الغائبين الحاضرين” ضمن مجموعتين: مهجّرو نكبة 1948، ومهجّرو ما بعد 1948، حيث تشمل الفئة الأولى مَن نزحوا عن قراهم خلال أحداث النكبة لكنهم بقوا داخل حدود دولة الاحتلال، أما المجموعة الثانية فهم أولئك الذين تم تهجيرهم لاحقًا خلال السنوات الأولى بعد النكبة، حيث استُخدمت القوانين والأوامر العسكرية لترحيلهم قسرًا عن قراهم.
وبينما أُتيح للمجموعة الأولى الحصول على إعانة من الصليب الأحمر ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في أيامها الأولى، كما تم وضع تقديرات عن أعدادهم من قبلها، لم تتمكن المجموعة الثانية من الحصول على أي دعم أو عون، نتيجة وقف سلطات الاحتلال عمل المنظمات الدولية والأممية معهم، بحجة أنهم “شأن داخلي”.
وفقًا لتقديرات الأونروا الأولية عام 1950، بلغ عدد مهجّري المجموعة الأولى نحو 46 ألفًا، أي ما نسبته بين 25% و30% من مجمل الفلسطينيين الذين بقوا داخل الأرض المحتلة، بينما قدّرت مصادر إسرائيلية عددهم، حتى نهاية عام 1949، بما يتراوح بين 12 و15 ألفًا فقط، بينما أوردت مصادر أخرى رقمًا مختلفًا، يشير إلى وجود نحو 23 ألف مهجّر في منطقتي الجليل والمثلث وحدهما.
أما المجموعة الثانية، فنتيجة توقف عمل المنظمات الأممية، وحالة التهميش الإسرائيلي المتعمد بحقهم، فلا توجد أرقام فعلية أو تقديرية تكشف عنهم، إلا فيما يتعلق بعدد القُرى التي تم هدمها في منطقتي الجليل والشمال وتهجير سُكانها، حيث تعرضت 118 قرية إلى الهدم من أصل 162 قرية.
نتيجة لذلك، برز مصطلح إضافي مرتبط بهذه الفئة، قدّمته جمعية الجليل في مسحها الاجتماعي-الاقتصادي السنوي المتعلق بالفلسطينيين في “إسرائيل”، وهو “مهجّرو الداخل“، وهم: “الفلسطينيون الذين أُجبروا على ترك بيوتهم والانتقال إلى أماكن إقامة أخرى داخل إسرائيل، نتيجة للحرب أو لسياسات الحكومات الإسرائيلية أو غيرها”.
“وجيوشهم جرارةٌ لا لاستعادة موقعٍ .. أو مسجدٍ أو زهرة برية، لكن لسحق مظاهرةْ”
سميح القاسم
تلك المناطق المتاخمة لقراهم الأصلية ظلّت بالنسبة للفلسطينيين حلمًا مؤجلاً بالعودة، فوجودهم داخل الكيان المحتل لم يُلغِ آثار النكبة، ولم يعزلهم عنها، ولم يحقق تطلّعهم للعودة إلى بلداتهم المدمّرة، وحتى حين مُنحوا “حق المواطنة”، الذي حُرم منه المهجّرون في الضفة وغزة والدول العربية، بقوا في نظر السلطة الاستعمارية مواطنين من الدرجة الثانية.
وفي كثير من الأحيان، سنت قوانين عنصرية لتثبيت هذا التمييز، مثل “قانون الولاء” الذي فُرض عليهم للتحلل من فلسطينيتهم مقابل البقاء في “إسرائيل”، بينما ينصّ القانون ذاته على الولاء لدولة يهودية تُقصيهم عن الحاضر والمستقبل.
مع هذا الحُلم، حاول الفلسطينيون في الداخل استعادة نشاطهم السياسي، لكنهم لم يجدوا من يحتضنهم سوى الحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح)، إذ كان الحكم العسكري آنذاك يُطبق على أعناقهم، يُحاصرهم، ويقيس كل تحرك بمقدار الولاء للدولة الجديدة، حتى جاء يوم الـ30 من آذار/مارس 1956، حين اندلعت مظاهرات شعبية احتجاجًا على سياسة مصادرة الأراضي في المثلث والجليل، وقُمعت بوحشية، لتُشكّل لحظة الخروج نفسها ثورة بحد ذاتها.
في العام نفسه، وإثر حظر تجول مفاجئ لم يُبلّغ به المزارعون الفلسطينيون، أطلقت قوات الاحتلال النار على الفلسطينيين العائدين من حقولهم إلى بيوتهم، ما أسفر عن استشهاد 49 فلسطينيًا، منهم 23 طفلًا دون الثامنة عشر، و9 نساء، عُرفت تلك المجزرة التي تزامنت مع العُدوان الثلاثي بمجزرة كفر قاسم، وكانت جزءًا من خطة تهجير تنتظر الحرب لدفع الفلسطينيين في الجليل والمثلث إلى خارج حدود الكيان.
ذكريات الجيل الأول من النكبة.. حكايات عن الحنين ونعيم الماضي
مع نهاية عام 1966، واستقرار الأوضاع لصالح الكيان، بدأ الحُكم العسكري يخفف قبضته، حتى جاءت نكسة 1967، حين احتلت “إسرائيل” الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان، وأصبحت قوانينها تسري على المناطق المحتلة الجديدة وعربها.
إبان تلك الفترة أعاد فلسطينيو الداخل ربط هويتهم الفلسطينية مع إخوانهم، وانطلقوا من خلال الأدب والصحافة والمقاومة الثقافية في مشروع وطني فلسطيني شامل، قادته أصوات مثقفة مثل توفيق زياد وإميل حبيبي وسميح القاسم وربحي حلوم وغيرهم.
كما اندمجوا في الحركة الوطنية المقاتلة، وتصدر صوتهم مخيمات التدريب والقتال في حركة فتح والجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية، حتى بداية التسعينيات، حين انتهجت منظمة التحرير زاوية المفاوضات السرية وأقصت فلسطيني الداخل تمامًا من أجندتها لحل “الصراع”، وتركتهم وحدهم في مواجهة الاحتلال.
هذا التهميش دفعهم إلى تشكيل مبادرات شعبية حملت العودة شعارًا لها، واستهدفت إحياء الذاكرة الجماعية ومقاومة المحو والأسرلة، فأطلقت “جمعية الدفاع عن حقوق المهجرين داخليًا في إسرائيل” عام 1995، التي شملت مهجري أكثر من 30 بلدة فلسطينية وجمعت اللجان المحلية الناظمة لهم.
وهنا، من المؤلم التوقف عند التجربة المتقدمة للجان المحلية في قريتي إقرث وكفر برعم في نضالها من أجل العودة،
فالقريتان، الواقعتان شمال فلسطين، وأغلبية سكانهما من المسيحيين الكاثوليك، تعرّضتا للتهجير بعد أشهر من النكبة، حين أُجبر السكان على إخلائهما مؤقتًا لأسباب أمنية، ولمدة أسبوعين فقط بحسب ما قيل لهم، لكنهم مُنعوا من العودة نهائيًا، ما دفع اللجان المحلية إلى اللجوء إلى القضاء الإسرائيلي، ورفع دعوى أمام المحكمة العليا عام 1951 لاستعادة حقهم في العودة إلى أراضيهم.
وفي عام 1953، أقرّت المحكمة العليا بحق السكان في العودة، وأكدت أنه “لا يوجد مانع قانوني يحول دون ذلك”، إلا أن حكومة الاحتلال الإسرائيلية رفضت تنفيذ القرار بذريعة “الظروف الأمنية”، وسارعت إلى تفجير ونسف مباني القريتين بالكامل، ما عدا الكنائس والمقابر.
ومنذ التسعينيات، يواظب أهالي القريتين على تنظيم زيارات سنوية إلى أطلال قراهم، حيث يُقيمون القداديس في الكنائس المهجورة، ويواصلون نقل ذاكرة المكان إلى أبنائهم وأحفادهم، كي لا يتحول الركام إلى نسيان.
بينما يُحيي الإسرائيليون ذكرى قيام دولتهم باحتفالات الاستقلال، تنظّم “جمعية الدفاع عن حقوق المهجّرين” بالتعاون مع اللجان المحلية مسيرات سنوية إلى القرى الفلسطينية المهجرة، بالتزامن مع ذكرى النكبة، وخلال السنوات الماضية، وقبل السابع من أكتوبر، دأب سكان نحو 26 قرية مهجّرة على إحياء “يوم العودة” من خلال زيارة أراضي الأجداد تحت شعار: “يوم استقلالهم هو يوم نكبتنا”.
ورغم رمزية الفعل، إلا أنه، بالنسبة لفلسطينيي الداخل الذين يُقدّر عددهم اليوم بنحو 1.8 مليون نسمة، يُشكّل هذا الطقس استعادةً متجددة لهوية مغيّبة، لا سيما أن النكبة جاءت في مرحلة فاصلة بالنسبة للهويات العربية، انتقلت فيها الشعوب من القومية إلى الوطنية، على العكس من هوية فلسطيني البلاد التي بقيت عالقة في البُعد القومي العربي فقط، نتيجة فقدانها الوطن أولًا، وانقطاع اتصالها بالبُعد العربي المحيط والمجاور ثانيًا.
حتى حين انفتح فلسطينيو الداخل على فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1967، لم يجدوا الاحتضان المنتظر، ولا المكانة التي تُوازي صمودهم الطويل تحت الحكم العسكري، وحين التقوا لاحقًا بالهويات العربية المستجدة في مرحلة أوسلو وما تلاها من انفتاح رسمي على “إسرائيل”، لم يجدوا حتى اليوم سوى تنميطٍ يضعهم في خانة “الآخر”، أو الأسوأ: “الخونة”.
وسط هذه التدافعات، وجد فلسطينيو الداخل أنفسهم معزولين تمامًا، في مواجهة مشروع إسرائيلي يسعى إلى إنكار عروبتهم وفلسطينيتهم، وسلخهم عن ذاكرتهم التاريخية وشرعية انتمائهم إلى المكان، لكن هذا الجهد، رغم عنفه المؤسسي والثقافي، ظلّ عاجزًا عن تحقيق هدفه.
نظرًا لأن العقلية الصهيونية لم تتقن سوى أدوات السيطرة والاستلاب، في الوقت الذي ترفض فيه أصلًا منح الفلسطينيين مساواة حقيقية أو اعترافًا بوجودهم كجماعة قومية، فإصرار “إسرائيل” على تعريف نفسها كـ”دولة يهودية” لا يترك أي حيز لهوية أخرى، ويُقصي الفلسطينيين تلقائيًا من قوميتها ودائرتها الوطنية، حتى وهم يحملون جنسيتها.
لكن تداعيات هذا الجهد الإسرائيلي لم تتوقف عند حدود فشل الأسرلة القومية، بل أثمرت في مساحات أخرى أكثر عمقًا وخطورة، تمثلت في تفكيك البُنى الاجتماعية للفلسطينيين في الداخل، فقد اعتمدت “إسرائيل” على استراتيجية اللعب على التناقضات، لهدم الأواصر العائلية والعشائرية والطائفية والوطنية، وتحويل المجتمع الفلسطيني إلى بؤرة للفقر والجريمة والمخدرات، وذلك من خلال عمل استخباراتي منظّم وممتد.
وفي مؤشر خطير على تفشّي هذه السياسات، سُجّل خلال عامي 2023 و2024 مقتل 474 فلسطينيًا في الداخل، في سياق انفلات أمني مرتبط بانتشار السلاح بين الشباب دون رقابة أو محاسبة، فحتى بداية عام 2023، قدّرت شرطة الاحتلال الإسرائيلية أن 80% من الأسلحة غير المرخصة في الداخل بحوزة الفلسطينيين، وأن 84% من ضحايا الجرائم المسلحة هم من العرب، بينما لم تُحل سوى 15% من قضايا القتل، وهي نسبة متدنية لا تتناسب مع القدرات الاستخباراتية العالية للشرطة.
ارتبط ذلك أيضًا بغياب قيادة وطنية جامعة للفلسطينيين، حتى بعد إقامة لجنة المتابعة العليا، وظهور أحزاب عربية، وقوائم مشتركة، أبرزها الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة (حداش)، الذي يدعو للمساواة وحل الدولتين، وحزب التجمع الوطني الديمقراطي الذي يرفض توصيف “إسرائيل” كدولة يهودية ويدعو للمساواة بين الجميع، والقائمة العربية الموحدة التي لم تُمانع الانضمام إلى الحكومة وخفض سقف مطالبها إلى قضايا مدنية فقط، والحركة العربية للتغيير التي تجمع بين الخطاب القومي والعمل الاجتماعي البرلماني.
تبقى العنصرية الإسرائيلية المتصاعدة والقمع الممنهج والسياسات اليمينية المتطرفة هي العوامل الأبرز التي تدفع فلسطينيي الداخل إلى التمسك بهويتهم الفلسطينية
ورغم هذا التعدد، فشلت هذه الأحزاب وغيرها، في تجاوز الانقسامات الأيديولوجية وصراع القوى الداخلية، أو في فرض نفسها كبوصلة في مواجهة الخطاب الإسرائيلي الإقصائي، كما عجزت عن إحداث أي اختراق يُذكر في المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، أو في تحسين البنى التحتية، أو في محاربة الجريمة والعنف والسلاح والمخدرات، أو حتى في ردم الهوة الأكاديمية والاقتصادية بين الفلسطينيين واليهود.
واقتصرت وظيفتها الفعلية على تجميل وجه الديمقراطية الإسرائيلية وخلق وهم التعددية السياسية، بينما بقيت المشاركة السياسية للفلسطينيين محاصرة في الهامش، ومفرغة من أي تأثير حقيقي.
رغم ذلك كله، تبقى العنصرية الإسرائيلية المتصاعدة والقمع الممنهج والسياسات اليمينية المتطرفة هي العوامل الأبرز التي تدفع فلسطينيي الداخل إلى التمسك بهويتهم الفلسطينية وتُعيدهم رغم تمترسهم خلف أدوات السياسة، إلى ممارسة التحدي والانتماء الفعلي.
وقد تُوّج هذا التحدي بهبة أيار 2021 (هبة الكرامة)، بعد سلسلة من 16 هبّة وحراكًا جماهيريًا متنوعًا، شارك فيها فلسطينيو الداخل جنبًا إلى جنب مع أبناء القدس والضفة وغزة، في مشهد وطني جامع أعاد التأكيد على وحدة الساحات، وأصبح لاحقًا إحدى ركائز طوفان الأقصى، وواحدًا من أعمق مصادر القلق في الوعي الأمني والسياسي الإسرائيلي.
ومنذ السابع من أكتوبر، تسعى المؤسسة الإسرائيلية إلى احتواء هذا الوعي وإخماده بالقمع الممنهج، مدركة أن ما كشفته هبة الكرامة من استعداد جماهيري للانخراط في المواجهة يتجاوز حدود السيطرة الأمنية.
اليوم، يقف فلسطينيو الداخل، كما سائر الفلسطينيين، أمام منعطف تاريخي حاد، تتضح معالمه أكثر من أي وقت مضى: أن تأجيل المواجهة لا يعني حسم الصراع، وأن الحكم العسكري لم يُلغَ بل عاد بأشكال جديدة، وأن القمع والضم والتجريف والإبادة، ليست سوى وجوه أخرى للنكبة، وأن مفاهيم “الديمقراطية” و”المساواة” تحوّلت إلى مصطلحات ترفيهية لا مكان لها في بنية الدولة الإسرائيلية، وأن القادم قاتم، والأولى الاستعداد له بدلًا من تجاهله.