ثمة درس كبير يمكن التفكير من خلاله قبل أي حديث عن الفيلم، يتعلّق بالتفكير فيما يمكن أن يعنيه الإعلام ما بعد السابع من أكتوبر. هل بات يحتاج العالم إلى ما يمكن أن يعرفه بخصوص أي شيء في فلسطين أو عن الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة؟ هل ثمة أشياء جديدة تحتاج أن تُقال؟ على ما يبدو يُظهر الفيلم الذي فتح جراح ذلك التساؤل لديه إجابة نافية وحزينة.
“لا أرض أخرى” (No Other Land)، الفيلم الوثائقي الحائز على جائزة الأوسكار لأفضل وثائقي، والفائز أيضًا بجائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان برلين السينمائي، إضافة إلى عدد من الجوائز الدولية، أثار جدلًا واسعًا وأعاد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلى واجهة النقاش العالمي من زاوية جديدة تمامًا.
منذ لحظة عرضه الأولى أثار الفيلم جدلًا واسعًا بين الجمهور على المستوى السياسي والفني. يوثق المخرج الفلسطيني باسل عدرا الانتهاكات التي يعيشها أهالي القرى الجبلية الصغيرة في منطقة “مسافر يطا” التي تقع جنوب الضفة الغربية.
وبدأ الفيلم بعرض سيرة ذاتية للمخرج، مرثية درامية حميمية في قلب حياة يدمّرها الآخر الصهيوني. لكنها مرثية وفق نظرية جوديث بتلر “رثاء الأرواح غير القابلة للرثاء” لأنها لم تعد صالحة للحياة. الجميع هنا مصدر للتأويل والتفكير في كيف يستمر العيش أساسًا.
الفيلم إنتاج مشترك بين فلسطين والنرويج، من إخراج رباعي يتكون من الثنائي الفلسطيني باسل عدرا، وحمدان بلال، والثنائي الإسرائيلي يوفال أبراهام، وراحيل تسور.
وعلى مدار الساعة والنصف يوثّق الفيلم منذ عام 2019 وحتى عام 2023 انتهاكات إسرائيلية على المنطقة في الضفة. وينتهي قبيل أحداث حرب السابع من أكتوبر الأخيرة. بعد طرح تساؤلات عن حياة يظن الرافض لأفعال حماس أنها كانت قابلة للاستمرار.
وأعرب الفلسطيني باسل عدرا، عند تسلّم جائزة الأوسكار، عن أمله في أن يُحدث الفيلم تغييرًا على مستوى العالم، لوقف الظلم والتطهير العرقي الذي يعانيه الشعب الفلسطيني، قائلا: “الفيلم يعكس الواقع القاسي الذي نعيشه منذ عقود، ونطالب العالم باتخاذ إجراءات فعلية لإيقاف هذه الانتهاكات”.
أما الصهيوني يوفال أبراهام الذي كان يقف بجانبه “صنعنا هذا الفيلم، فلسطينيون وإسرائيليون، لأن أصواتنا معًا أقوى. نرى بعضنا البعض، ونرى الدمار الوحشي الذي حل بغزة وشعبها والذي يجب أن ينتهي، والرهائن الإسرائيليين الذين اختُطفوا بوحشية في جريمة السابع من أكتوبر ويجب إطلاق سراحهم”.
وتابع “عندما أنظر إلى باسل، أرى أخي، لكننا غير متساويين. نعيش في نظام حاكم حيث أنا حر بموجب القانون المدني وباسل يخضع للقانون العسكري الذي يدمر حياته ولا يستطيع السيطرة عليها”.
واختتم حديثه بقول “ولماذا؟ ألا ترون أن حياتنا متداخلة؟ وأن شعبي يمكن أن يكون آمنا حقا إذا كان شعب باسل حرا وآمنا حقا؟ هناك سبيل آخر. لم يفت الأوان بعد للحياة”.
سؤال معلّق دون إجابة
تلك الكلمات المتبادلة، والفيلم الذي صنعاه معًا، والذي لم يكن ليخرج دون دعم صهيوني، يجعلنا نُعيد التفكير في جدوى كل شيء خرج العمل من أجله.
في كل عمل فني ثمة تساؤل نقدي مركزي علينا الإجابة عليه: من هو جمهور الفيلم أساسًا؟ تبدو تلك نقطة إشكالية تمامًا في “لا أرض أخرى”. إذ يطرح الفيلم قصته من خلال رحلة صحفي إسرائيلي يحاول أن يوثّق الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة.
هذه النقطة تحديدًا هي ما جعلت البعض يرفض التعاطف مع قصة الفيلم التي تقدم نوعا إسرائيليا يمكن التعايش معه. لا يبدو منطقيًا على الإطلاق. الحديث عن دولة واحدة. هذا الرعب هو ما يتحرك الفيلم إليه. وهو ما يبدو إشكالي ومعقد التأويل. فإذا كانت تلك الانتهاكات غير منتهية أو محتملة فهناك من يمكنهم تفهم ذلك أو رفضه لا سيما العيش معهم في سلام.
ثمة شيء فني وتاريخي يعبّر عنه الفيلم بشكل مثالي أو ربما عن إعادة معرفتنا بتعريف وسياق الفيلم الوثائقي أساسًا. يخص الأرشفة التي تبدو سلاح مثالي ضد إسرائيل، أو أي محتل آخر. المحتل الذي يعيد إنتاج التاريخ وفق خطاب جديد يعتبر نفسه جزءً منه. بينما لا يمكن تكذيب تلك الادعاءات إلّا عن طريق الوصول إلى القديم، التاريخي. كل قديم هو سلاح جوهري ضد المحتل. التاريخ عمومًا إدانة كافية لو بقيت كما هي. وربما لا نجد في القضية الفلسطينية كلها ما جعلها تصمد لليوم أشياء أهم من حفاظ الفلسطيني على تاريخه. ثم إعادة إنتاجه في سياقات مختلفة تكشف زيف الرواية الإسرائيلية المضادة.
كل يوم تسعى السلطة الإسرائيلية إلى محو ذلك الأرشيف بالتوازي مع تزييف الجديد. محو منهجي لتفكيك الخطاب الفلسطيني الذي يقر بمشروعية الأرض والتاريخ. يقول كثيرًا عن التجاوزات اليومية التي تحدث. يدين الخطاب من اللحظة التي خرج فيها ادعاء 1948 وصولًا للحظة التي يبرر فيها الرئيس الأمريكي الجديد “البلطجة” والدمار والسرقة الإسرائيلية. الأرشيف يكذب كل ذلك بدون أسلحة، لذلك يزعج كثيرًا الإسرائيلي ومن يدافع عنه، ما لدينا من أرشيف فلسطيني مكتوب ومصوّر اليوم، بحسب مصادر إسرائيلية لا يتعدى 2% اليوم بينما ما تبقى تعمد السلطة الصهيونية إلى إخفائه. تلك النسبة المرعبة التي تتبقى لكل عربي اليوم، يخرج مشروع كمال جعفري، سواء فيلمه الأحدث الذي عرضه “الإسماعيلية السينمائي، أو غيره. غنيمة أرشيفية أعاد مونتاجها للتوثيق.
سعي حميم لن ينجح أبدًا
يبدأ الفيلم من مشهد ضيق للشارع يتجول بالسيارة. رحلة غير مستقرة أشبه تمامًا بحياته. يتحدث عن أولى ذكرياته. عن طفولته التي يغزوها الاحتلال. يرافق ذلك عددًا كبيرًا من المشاهد والبوح الذي ينافي كل طفولة أخرى؛ مظاهرات واحتاجات وعنف وتوتر أبدي تصنعه إسرائيل. باسل يحكي عن ذاته منطلقًا من ابن أخيه الصغير الذي يبدو أنه سيواجه الطفولة ذاتها. الطفولة منزوعة الطفولة.
قضية الفيلم بعيدة نوعًأ ما عن غزة لكنها مرافقة تمامًا. يحاول فيها الاحتلال تهجير أناس يعيشون في قرية معزولة. يضيّق الاحتلال مساحات تواجد الفلسطينيون. ما بين الصحفي الإسرائيلي يوفال وبين الفلسطيني باسل حوار مستمر يظهر فيه الأخير أطول نفسًا. ينصحه أن الأمور لن تُحل سريعًا. يبدو باسل محمّل بما شاهده من نضال أسرته وتاريخه الطويل المسنود عليه من الصمود غير المفهوم لغير الفلسطيني.
بين باسل ويوفال فارق كبير حتى على مستويات مختلفة. على الرغم من محاولات الفيلم المستمرة لتوحيد شعورهما وإظهارها نسيجًا واحدًا تتمنى توحيد جمهورها المتفرّق بين مؤيد للصهيوني ومؤيد للعربي المُنتهك صاحب الأرض.
يكاد يختفي شريط موسيقي مصاحب للفيلم. يساعد ذلك في جفاء الصورة والشعور الذي يحتاج الفيلم إيصالهم بأي ثمن. باسل بقلقه الدائم ومستقبله المرهون على الحافة يجسد مسيح معذب آخر في أرض تُنتهك دون تدخل عالمي أو عربي يُذكر. المشاهد يسبق أنفاسه للحاق بالصرحة المتقطعة التي يعرضها الفيلم مشهد تلو الآخر.
اللغة المحايدة
بعض الخطابات التي تؤصّل للصراع العربي الإسرائيلي تبدأ من اللغة، تحاول أن تفهم من خلالها مركزيات تلك العداوة؛ على سبيل المثال عندما نفكك مصطلح مثل “الغولم” أي المخلوق المصنوع من الطين/ الغبار رغم عدم اكتماله كما جاء في المثيولوجيا اليهودية. فإنه يحمل على جبهته كلمة Emet العبرية أي الحقيقة.
نفهم أن ذلك “الغولم” قد تشكّل بيد رجل دين يهودي لينجي أرواح اليهود من خطر يقترب من السامية. لذلك ورغم وجوده المفيد يتحرّر الغولم من سيطرة صانعه وينشر الخوف والذعر والموت. ويصبح مضاد للوصية التوراتية الأسياسية التي تقول “لا تقتل”. ومع فشل محاولات إخضاع الغولم لسيطرة اليهود يدمّر الحاخام الغولم بمحو الحرف الأول من Emet فتصبح Met أي الموت. يخلق هذا التضاد بين الفعل والنتيحة التي كانت عكسية من خلاله مجاز مثالي لتوصيف ما حدث بعد الفيلم.
استهدف الفيلم عرض القضية، ومن أجل ذلك تسامح مع من تسبّب فيها أساسًا. لا يبدو العنف الذي يحكي عنه مجرد أداة للتهديد، ليس قتل فقط بل تمثيل بالقتل. بالذهاب إلى ما هو أبعد من الموت. تبدو المعركة هذه المرة مصيرية تستهدف تجميل صورة الإسرائيلي الذي يبدو أنه قد يصلح العيش معه. يحاول الفيلم على امتداد زمنه اصطناع حالة من التقارب الفكري والهوياتي على اعتبار الجميع لديه نفس الجذور القريبة، إلا أن فرط الاصطناع يجعل من التقارب المزعوم في الفيلم مجرد سخرية واعية أو غير واعية، تدلل على فشل محاولات الترسيخ الناعم للتقارب الإسرائيلي ببطاقته الصفراء التي تجعله يمر من أي مكان وقتها شاء والفلسطيني ببطاقته الخضراء التي تحجّم انتقاله في أي مكان.
تحولات أخيرة في خطاب الصراع
مؤخرًا بدا الخطاب الفلسطيني الإسرائيلي يأخذ منحى مختلف نوعًا ما على المستوى الأدبي والسينمائي على الأقل: هذا تحديدًا ما يعيده الخطاب الفيلمي في حالة “الإجازات في فلسطينين”: يتساءل عن البطولة في لحظة صعبة، والمواجهة المبنية على التخطيط أكثر من الفدائية، يعيد التساؤلات إلى الواجهة لطرحها ومناقشتها.
على سبيل المثال هناك أفلام خرجت مؤخرًا، لم تنل قسطًا من الشهرة لكن لديها الرسالة ذاتها مثل فيلم “الإجازات في فلسطين”. وثائقي عن شادي، ناشط سياسي شاب يعود لفلسطين بعد أن عاش لأكثر من عشر سنوات هناك وأصبح فرنسي الجنسية، جاء بحثًا عن الأمل رغم اختناق الأشياء حوله والفرص التي حصل عليها هناك. ماذا يفعل وفي أي إتجاه يتحرك، يظل في فرنسا بعيدًا عن المأسآة أم يعود ويصلّح من الداخل؟ يطرح الفيلم أسئلة الهجرة والتساؤل عن جدوى الاستمرار في الداخل. طريق وعرة اختار الفيلم أن يطرح خطابه من خلالها. إذ يمشي في مسار سؤال صعب الطرح عمومًا تزداد صعوبته مع الحرب الدائرة أثناء عرضه على بُعد عدة كليوات في الداخل الفلسطيني.
في نموذج آخر موازي لكنه أدبي هذه المرة كان رواية “سماء القدس السابعة” التي كانت في القائمة القصيرة من البوكر العربية، يبدو الخطاب الذي تُنتجه الرواية في لحظة ثقيلة، صادم نوعًا ما، يُمكن النظر فيه ومن خلاله إلى ناس فلسطين بعين غير معتادة، ينظر الكاتب فيه من مسافة بعيدة، ربما من السماء فعلًا، يراهم كبشر ضعفاء، يرفض التصديق في بطولاتهم الخارقة التي يتحاكى بها الخطاب المعتاد في أي حديث عن فلسطين، اليوم، حتى عندما نراهم كل يوم، يموتون بالآلاف دون شفقة، نعيد النظر في ضعفهم، وضعفنا جميعًا أمام هذا الجنون، وفي النقطة التي تظن أنها تتلاقي مع الرواية الأخرى، يهرب العيسة تمامًا بأسئلة تدين تلك النظرة ولا تتعاطف معها، وربما في ذلك ما يدعو لإعادة اختبار كلا النظرتان، ومدى اتساق أحدهما عن الأخرى، خصوصًا في تلك اللحظة المصيرية التي تعيد التفكير في محاولة العيش إلى جانب الإسرائيلي إذا كانت تلك الحياة الوحيدة الممكنة وسط الضعف العربي العام.
“لا أرض أخرى” يبدو المسمار الأقوى بين كل تلك الخطابات في نعش فكرة التعايش بين الفلسطيني والإسرائيلي. محاولة مضنية للحياة مع القتلة. يبدو أن ما بعد السابع من أكتوبر أثبتت فشل أبدي لذلك التصوّر. كما كشف صهينة عالمية وعربية تجاه القاتل الوحيد. نموذج فريد لإعادة النظر إلى الإعلام كأداة لم يعد مطلوبًا منها التوثيق بعد كل ما وثّقته. يفترض أنه “لا أرض أخرى”، وعلى الجميع التعايش، وهي نظرة بات علينا النظر فيما يمكن أن تقدمه لقضية يقينية الجانب للجميع.