يعتبر قطاع السياحة من أكثر القطاعات تأثراً بالظروف المحيطة، حيث يعكس حالة الاستقرار أو الاضطراب في أي بلد، فهو القطاع الأكثر عرضة للتراجع خلال الأزمات والحروب، لكنه الأسرع تعافيًا وانتعاشًا بمجرد انتهاء تلك الظروف.
في سوريا، شكّل القطاع السياحي ركيزة أساسية من ركائز الاقتصاد الوطني، إذ ساهم بنحو 14% من الناتج المحلي الإجمالي، ووفّر فرص عمل لحوالي 11% من اليد العاملة، كما مثّل ما يقارب 23% من دخل البلاد من العملة الصعبة، ما يعكس دوره الحيوي في دعم التنمية الاقتصادية وتعزيز الإيرادات الوطنية.
قطاع حساس في قلب الأزمات
شهد القطاع السياحي في سوريا تقلبات عديدة على مرّ السنين، إلا أن عام 2010 مثّل ذروة ازدهاره، حيث استقبلت البلاد نحو 10 ملايين زائر ضخوا ما يقارب 3.67 مليار دولار خلال النصف الأول من العام فقط، وكان العام السابق، 2009، قد سجّل تدفق حوالي 8 ملايين سائح، بإيرادات قاربت 5.2 مليار دولار، ما يعكس النمو المتسارع الذي شهده هذا القطاع في تلك الفترة.
لكن مع اندلاع الاحتجاجات الشعبية في 2011، والحرب التي شنها النظام البائد على شعبه، تلقى القطاع السياحي ضربة قوية، إذ فقدت البلاد نحو 50 مليار دولار من عائدات السياحة، ففي الأشهر الأولى من عام 2011، تراجع القطاع بنسبة 60%، وانخفض عدد السياح إلى قرابة 3 ملايين فقط، وفي عام 2012، استمرت الانهيارات، ليصل الانخفاض إلى 76% مقارنة بعام 2011، وتراجعت العائدات السياحية بنسبة 75%، من 52 مليار ليرة إلى 12.8 مليار ليرة سورية.
إضافة إلى ذلك، تأثرت المنشآت السياحية الصغيرة بشكل كبير، إذ أُغلقت العديد منها نتيجة الانكماش الاقتصادي، فيما انخفض عدد العاملين في القطاع بنسبة بلغت نحو 63%. وهكذا، على مدى ثلاث سنوات متتالية، تكبد قطاع السياحة لخسائر بلغت نحو 300 مليار ليرة سورية، أي ما يعادل 1.5 مليار دولار.
وفي عام 2013 وحده، تجاوزت خسائر القطاع 330 مليار ليرة، في وقت كان فيه سعر صرف الدولار يُقدَّر بـ160 ليرة، ومع انخفاض العائدات السياحية بنسبة 94%، استمر الانكماش بوتيرة متسارعة، إذ انخفضت حركة السياحة بنسبة 98% خلال عام 2015.
ورغم هذا الانهيار الكبير، أشارت وزارة السياحة إلى أن 45 ألف زائر دخلوا البلاد خلال النصف الأول من العام نفسه، وسجلت ارتفاعًا بنسبة 11% في السياحة الدينية، التي شكلت أحد الجوانب القليلة للنشاط السياحي المتبقي في سوريا.
في عام 2016، كثّفت وزارة السياحة جهودها للترويج للقطاع من خلال حملات إعلامية عبر منصات التواصل الاجتماعي، بما في ذلك نشر مقاطع فيديو على “يوتيوب”، وذلك في وقت شهدت فيه البلاد تصعيدًا أمنيًا في عدة مناطق، من بينها حلب.
ورغم التحديات، أعلنت الوزارة عن تحقيق نمو ملحوظ في السياحة الدينية عام 2017، حيث ارتفعت العائدات بمعدل ثلاثة أضعاف مقارنة بالعام السابق، مع تسجيل مليوني زائر.
في تشرين الثاني/نوفمبر 2018، أعيد افتتاح معبر نصيب الحدودي مع الأردن، ما انعكس بشكل مباشر على زيادة حركة السياحة والتبادل التجاري، حيث شهدت البلاد تدفق مئات الزوار الأردنيين، أما في عام 2019، فقد سجّل القطاع انتعاشًا نسبيًا، إذ بلغ عدد السياح في النصف الأول من العام نحو 1.12 مليون شخص، بحسب إحصاءات وزارة السياحة.
خلال عام 2020، ورغم استمرار الأزمات الاقتصادية، شهد القطاع تحسنًا تدريجيًا، حيث بلغت الإيرادات نحو 2.59 مليون دولار، واستمر هذا التعافي في عام 2021، مع تسجيل 500 ألف زائر، وقرابة 900 ألف نزيل في الفنادق، من السوريين والعرب والأجانب.
وفي النصف الأول من عام 2022، ارتفع عدد الزوار إلى 750 ألف شخص، غالبيتهم من العراق ولبنان، إضافة إلى سوريين مغتربين، وفقًا لما أعلنه وزير السياحة آنذاك، رامي مرتيني. ومع استمرار تحسن المؤشرات، سجّل عام 2023 قفزة واضحة، حيث بلغ عدد الزوار 2.017 مليون شخص.
وفي عام 2024، تواصل النمو، ليصل عدد القادمين حتى بداية تموز/يوليو إلى نحو 1.002 مليون زائر، بزيادة قدرها 5% مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق، ما يعكس تطورًا تدريجيًا في النشاط السياحي ضمن مناطق سيطرة النظام، رغم استمرار تحديات البنية التحتية والأوضاع الأمنية الهشة.
منشآت مدمّرة ومشاريع متوقفة
تكبد قطاع السياحة في سوريا خسائر فادحة خلال سنوات الحرب، حيث توقف نحو 544 مشروعًا سياحيًا عن التنفيذ بين عامي 2011 و2014، فيما بلغ عدد المنشآت المتضررة 320 منشأة، وقدرت قيمة الأضرار بحوالي 10.7 مليارات ليرة سورية، ما أدى إلى فقدان أكثر من 4000 فرصة عمل، كان يمكنها استيعاب خريجي المدارس والمعاهد السياحية والفندقية.
وفي عام 2019، ذكر وزير السياحة في حكومة النظام آنذاك، رامي مرتيني، عن خروج 1468 منشأة سياحية من الخدمة، بينها 365 فندقًا و1103 مطاعم، إضافة إلى تضرر 403 منشآت سياحية بشكل كلي أو جزئي، مما يعكس حجم الدمار الذي تعرض له هذا القطاع الحيوي نتيجة الحرب الهمجية التي شنتها قوات النظام على مختلف المحافظات السورية.
مع انتهاء عام 2024 وانتصار الثورة السورية، بدأ الاقتصاد الوطني في إعادة تشكيل هويته، وسط تطلعات واسعة نحو مرحلة جديدة من النمو والانتعاش الاقتصادي، شملت مختلف القطاعات، وفي مقدمتها السياحة. ومع تزايد التوقعات بعودة الاستثمارات وجذب الاهتمام العالمي إلى المواقع الأثرية والطبيعية، تواجه الحكومة السورية تحديات كبيرة في إعادة إحياء القطاع السياحي ليصبح أحد الركائز الأساسية للتنمية الاقتصادية.
الأعطال اللوجستية والضغوط الاقتصادية
وفي ظل هذه التحولات، يبرز السؤال الجوهري: كيف يمكن للسياحة أن تؤدي دورًا رئيسيًا في دعم الاقتصاد السوري خلال المرحلة المقبلة؟ وما السبل الكفيلة بتعزيز هذا القطاع ليصبح محرّكًا للنمو المستدام؟
في هذا السياق، يؤكد رئيس جمعية المطاعم والمقاهي في دمشق، حسن بواب، في حديثه لـ”نون بوست”، أن إعادة تنشيط القطاع السياحي تتطلب أولًا فهمًا عميقًا للأسباب التي أدت إلى تراجعه خلال السنوات الماضية، وعلى رأسها العامل الأمني، الذي وصفه بأنه “الركيزة الأساسية لتحقيق نمو مستدام في معدلات السياحة”.
وأوضح أن غياب الاستقرار كان العامل الأبرز وراء حالة الجمود التي ضربت القطاع، ما يجعل من الضروري التركيز على تعزيز الأمن في مختلف المناطق السورية لضمان تعافي السياحة وعودتها إلى موقعها كرافعة اقتصادية.
وشدد محمد نذير الحفار، عضو مجلس إدارة مجموعة برج ألاء في سوريا، على النقطة ذاتها، معتبرًا أن تحسين مستويات الأمن والاستقرار، خصوصًا في المناطق السياحية، يُعد عنصرًا جوهريًا لجذب الزوار من جديد، ودعم تعافي هذا القطاع الحيوي.
كما أوضح الحفار، في حديثه لـ”نون بوست”، أن القطاع السياحي في سوريا يواجه جملة من العقبات البنيوية والتنظيمية، أبرزها:
- تضرر البنية التحتية السياحية بشكل كبير، بما في ذلك الفنادق والمطاعم والمواقع الأثرية.
- الصورة السلبية لسوريا دوليًا نتيجة الأزمات السياسية والأمنية في العقد الأخير.
- ضعف التسويق الرقمي للمقومات السياحية السورية.
- استمرار القيود الخارجية، لا سيما العقوبات الاقتصادية، وتجميد التحويلات البنكية، وتعليق خدمات الدفع الإلكتروني مثل “فيزا” و”ماستر كارد”.
من جهته، أضاف بواب، مجموعة من التحديات الأخرى التي تعيق العمل السياحي، من أبرزها:
- مشاكل النقل الداخلي وصعوباته، والتي تؤثر مباشرة على حركة السياح وعلى عمل اليد العاملة في القطاع.
- ارتفاع أسعار المحروقات، والتقلبات الحادة في أسعار المواد الغذائية المرتبطة بسعر الصرف، ما يضع أعباء إضافية على المنشآت السياحية.
- تكاليف نقل المواد الأولية المستخدمة لتشغيل المنشآت، والتي تؤدي إلى زيادة كلفة الخدمات المقدمة للسياح، المحليين منهم والأجانب.
- الضرائب المرتفعة المفروضة على المنشآت السياحية، والتي تُعد من أبرز العوامل التي تضغط ماليًا على المستثمرين في القطاع.
رؤية لتعافي السياحة: خطوات عملية وتوصيات لتعزيز النمو
لتجاوز العقبات التي واجهها القطاع السياحي خلال السنوات الماضية وتعزيز فرص نموه في المرحلة المقبلة، شدّد محمد نذير الحفار على ضرورة إعادة بناء الثقة الدولية لجذب السياح الأجانب، وركّز في توصياته على ترميم المواقع الأثرية ذات الأولوية، وإطلاق حملات إعلامية تهدف إلى تحسين الصورة الذهنية لسوريا عالميًا.
كما دعا إلى المشاركة الفاعلة في المعارض الدولية، وإنتاج أفلام قصيرة وجولات افتراضية للترويج للمواقع السياحية، وتصنيف السياحة في سوريا ضمن مجالات متعددة تشمل: السياحة الدينية، الأثرية، العلاجية، والترفيهية، إلى جانب تنظيم مهرجانات وفعاليات محلية وتقديم عروض سياحية بأسعار تنافسية لجذب الزوار.
وأكد الحفار على أهمية تأمين موارد الطاقة لضمان استدامة الخدمات في المنشآت السياحية، مع دعم السياحة الداخلية لتشجيع المواطنين والمغتربين على زيارة مختلف المناطق السورية.،كما دعا إلى تقديم حوافز للمستثمرين لتطوير البنية التحتية السياحية وتوفير فرص عمل، بما يعزز من تنشيط الاقتصاد المحلي.
من جانبه، أيد حسن بواب ضرورة تحرير أسعار الخدمات في المنشآت السياحية بشرط الإعلان عنها بوضوح وخضوعها لمراقبة جودة، إضافة إلى إعفاء المنشآت من تقنين الكهرباء خلال المواسم السياحية، وتقديم قروض ميسّرة أو دون فوائد للمنشآت المتضررة.
وفي سياق السياسات المالية، دعا بواب إلى أن تتعامل وزارة المالية مع القطاع السياحي بما يتلاءم مع طبيعة عمله الموسمية، مع تخفيض الضرائب المفروضة على المنشآت، خصوصًا أن القطاع لا يزال في طور التعافي بعد سنوات طويلة من الركود والانكماش.
ورغم التحديات، عبّر كلٌّ من الحفار وبواب عن تفاؤلهما بانتعاش الموسم السياحي الصيفي المقبل، مع توقعات بارتفاع أعداد الزوار من الداخل والخارج، وعودة سوريا إلى خارطة الوجهات السياحية في المنطقة.
ختاماً: تبدو سوريا أمام مرحلة جديدة قد تشهد فيها استعادة القطاع السياحي لدوره الفاعل في التنمية الاقتصادية، ورغم كل التحديات التي واجهها، تظهر اليوم بوادر انتعاش، مدفوعة بجهود الحكومة السورية في إعادة تأهيل المنشآت السياحية، وتعزيز الاستقرار، وتشجيع الاستثمارات في هذا المجال.
وتبقى الفرص واعدة أمام هذا القطاع ليكون من أبرز المحركات الأساسية للتنمية المستدامة، فالمستقبل يحمل الكثير من الاحتمالات، والطموح هو المفتاح لتحقيق الانتعاش المطلوب.