في 5 مايو الجاري، تلقّت الصحفية الأمريكية كلاريسا وورد جائزة دانيال بيرل للنزاهة والشجاعة الصحفية، خلال حفل أُقيم في نادي الصحافة بمدينة لوس أنجلوس. تقديرًا لتغطيات وورد “من ميادين الخطر”، بعد اعتبارها “نموذجًا للتفاني في قول الحقيقة”. غير أن هذا التقدير، في توقيته ومحتواه، لا يعكس إجماعًا بقدر ما يفضح انحياز وانحلال مهنية الصحافة الغربية نفسها.
علقت وورد على فوزها بالجائزة بكلماتٍ مؤثرة لا تنهي جدل استحقاقها لهذا التكريم، قائلة: “أشعر بفخرٍ وشرفٍ عميقين لحصولي على جائزة دانييل بيرل. لقد قُتل دانييل وهو يؤدي عمله الذي أحبّه وكنت أنا في بداية مسيرتي المهنية، وقد رافقتني شجاعته ونزاهته منذ ذلك الحين”.
وفي ظل تثبيت صورة “المراسلة البطلة” التي باتت كلاريسا وورد تتقن أداؤها أكثر من التزامها بواجباتها الصحفية، نطرح هنا تساؤلات جوهرية مثل: متى أصبحت الإثارة الإعلامية بديلًا عن نقل الحقيقة؟ وكيف طبع الإعلام الغربي التضليل ما دام مُتقن الإخراج؟ وما دور الجوائز الغربية في إعادة إنتاج سرديات المصداقية على حساب الحقيقة؟
رواية منقوصة للحقيقة
لا يمكن قراءة جائزة النزاهة والشجاعة الصحفية التي مُنحت لكلاريسا وورد في معزل عن سجلّها المهني. إذ يفترض فيمن ينال هذا النوع من التكريم أن يكون نموذجًا للصدق الصحفي، والدقة، والانحياز للحقيقة. لكن بمراجعة سريعة لتقارير وورد يتسنى رؤية نمط متكرر من الإخفاق في أبسط معايير المهنة متمثلًا في غياب التحقق، ولفت الانتباه عبر التمثيل، وموالاة روايات القوى المهيمنة.
على سبيل المثال، في أغسطس 2021، وقعت حادثة رمزية أكثر من كونها ميدانية، حيث انتشرت صورتان متناقضتان لوورد خلال تغطيتها في كابول أفغانستان، ظهرت في الأولى من دون حجاب داخل منشأة خاصة، والثانية بالحجاب في شارع عام. وقد جاء تبريرها الرسمي بأبسط ما يكون مشيرةً إلى أن السبب وراء هذا هو “اختلاف المكان”.
لكن الجمهور لم يرَ الأمر كذلك. حيث تعاطى العالم – الإسلامي بشكل خاص – مع هذه الصور كدليل على ازدواجية الخطاب الذي تبرع كلاريسا به، في محاولة للامتثال للصورة النمطية الغربية عن بلداننا باعتبارها “تصادر حرية لباس المرأة”.
وفي عام 2023، خلال تغطيتها للحرب الإسرائيلية على غزة بعد انطلاق عملية طوفان الأقصى بساعات، قدّمت وورد واحدة من أكثر تقاريرها إثارةً للشك. إذ ظهرت في مشهد درامي على الحدود الفلسطينية الإسرائيلية، توحي بأنها تحتمي من “وابل صواريخ فلسطينية” حسب وصفها. غير أن المقطع، ومدته سبع دقائق، لا يظهر فيه صوت صاروخ واحد، ولا أي مؤشرات على حالة قصف حقيقي.
فيما بدا تقريرًا يدعم الرواية الإسرائيلية التي ضخّمت خطر حماس لتبرير عدوانها على قطاع غزة. وهو ما دفع لاحقًا الصحفية المصرية رحمة زين إلى مواجهة كلاريسا في خطاب تأديبي، على الجانب المصري من معبر رفح بين مصر وقطاع غزة، واصفًة إياها بـ “مجرد دمية بيد الإعلام الغربي”. وهو توصيف دقيق لما يراه الكثيرون.
‘The truth is in your hands, you control the narrative’
A protester at the Egypt-Palestine border confronted CNN international correspondent Clarissa Ward about the biased media coverage of the attack on Gaza. pic.twitter.com/g3Z8qJZG06
— Middle East Eye (@MiddleEastEye) October 20, 2023
تاليًا، في أكتوبر 2024، أعلنت وورد عن تعرضها للاختطاف من قبل ميليشيا مسلحة أثناء تغطيتها للنزاع الدائر في إقليم دارفور. وجاءت روايتها، كالعادة، مشحونة بالتفاصيل العاطفية، ومجردة من أي سند مستقل. لم تصدر أي جهة محايدة تؤكد وقوع الحادثة، ولم تقدّم وورد أدلة أو شهودًا يوثقون تعرّضها لأي من “الخطر الداهم” الذي ادّعته.
ومع ذلك، انتقلت القصة بسرعة لواجهة المشهد الإعلامي، وتداولتها كبرى الصحف ومنصات التواصل بوصفها شهادة شجاعة من صحفية “عرّضت حياتها للخطر في سبيل الحقيقة”. ولم يكن الانتشار نتيجة تحقق، بل نتيجة تعطّش مزمن لسرديات البطولة الجاهزة، مهما كانت هشاشتها.
في المقابل، انتقدها عدد من خبراء الصحافة الاستقصائية، واعتبروا أن وورد تمضي في تحويل عملها الصحفي إلى سلسلة من السرديات المتمحورة حول أمنها الشخصي، لا الحدث نفسه، بهدف تكريس صورة المراسلة المغامرة، حتى عندما تكون المعطيات محل شك.
غير أن المثال الأوضح على هذا النهج المسرحي المضلِّل جاء من سوريا، حين بثّت شبكة CNN في 11 ديسمبر/ كانون الأول 2024 تقريرًا وصف بـ”الاستثنائي”، وثّقت فيه وورد ما زعمت أنه عملية إنقاذ درامية لسجين من معتقل سري يُشبه صيدنايا، وذلك بعد ثلاثة أيام فقط من سقوط نظام الأسد. إذ ظهر في التقرير رجال ملثمون رافقه تصوير متوتر، وانفعالات بطولية من طاقم القناة؛ حيث بدا كل شيء وكأنه صُمّم بعناية ليبني سردية متكاملة عن ضحية تعذيب نجا من الجحيم.
لكن لم تمض أيام حتى تكشّف أن “السجين”يدعى سلامة محمد سلامة، وهو ضابط سابق في استخبارات النظام البائد، وليس ضحية كما رُوّج له، بل جزء من الجهاز القمعي ذاته.
وعلى الرغم من الضجة التي أُثيرت حول التقرير، لم تقم الشبكة حتى اليوم بإزالة التقرير من منصاتها، ولم يصدر عن وورد لاحقًا أي اعتذار مباشر. بل اكتفت شبكة CNN بالإشارة إلى أنها “تعرّضت للتضليل من قبل كلاريسا”، وتعهّدت بمراجعة إجراءات التحقق الميداني، وهو اعتراف بلا محاسبة بطبيعة الحال.
هذه الأمثلة، بكل ما تحمله من خلل مهني وتضليل سردي، لم تُشكل عائقًا أمام المسار المهني لكلاريسا وورد، بل كانت على نحو مفارق وقودًا لصعودها خارج وداخل المؤسسة الإعلامية. حيث احتفظت بلقب “كبيرة المراسلين الدوليين”، وتوالت عليها الجوائز، وكأن الأداء الإعلامي لا يُقاس بمصداقيته، بل بمدى قدرته على صناعة مشهدٍ قابل للتداول.
مسيرة مهنية أم خط تحريري؟
من يستعرض المسيرة الصحفية لكلاريسا وورد، قد يُخدع أول الأمر بتعدد محطاتها الميدانية: سوريا، العراق، أفغانستان، أوكرانيا، ولبنان. خارطة تغطية واسعة لمناطق نزاع ثقيلة، تُوحي بشجاعة ميدانية وتجربة راكمتها سنوات من العمل الصحفي. لكن ما إن توضع هذه التغطيات تحت المجهر، حتى يظهر خيط ناعم من الانحياز، لا سيما حين تمسّ الأحداث روايات القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وإسرائيل.
واحدة من أبرز المحطات التي كشفت هذا الميل، كانت في عام 2016، حين أُتيحت لوورد فرصة نادرة لدخول مناطق يسيطر عليها فصيل “نور الدين الزنكي” في مدينة حلب، لكتابة تقرير بعنوان “Undercover in Syria” لصالح شبكة CNN. حيث قدّمت سردية مكثفة عن معاناة المدنيين تحت القصف الروسي والسوري.
وبالرغم من أن المأساة كانت حقيقية، لكن اللافت هو طريقة التركيب البصري والسردي التي اتبعتها وورد والتي تخلق انطباعًا واحدًا وهو غياب الجلاد. دون أي محاولة للاقتراب من تعقيد الواقع على الأرض، حيث كانت تلك الفصائل نفسها متورطة في انتهاكات جسيمة.
لم يتطرق التقرير إلى الطبيعة المسلحة للطرف المضيف، أو خلفيته، أو سجلّه في عمليات القتل والخطف والقمع. كم لم تجري وورد مقابلات مع مدنيين خارج السياق المراد تصديره، ولا حتى تأطير شامل للمشهد. حيث كانت عدستها موجّهة بعناية، لتنتج مادة مشحونة عاطفيًا، لكنها فقيرة تحريريًا، تخدم رؤية منقوصة للحدث السوري، تُعيد إنتاج رواية تتماشى مع الخط التحريري الأمريكي.
النمط نفسه يتكرر حين يتعلّق الأمر بتغطيتها للقضية الفلسطينية. في تقارير وورد، تُمنح “إسرائيل” باستمرار “حق الدفاع عن النفس”، ويُقدم الضحايا الفلسطينيون على أنهم “عالقون في نزاع”، لا مستهدفون في سياق احتلال مستمر. والكلمات الممنوعة واضحة: لا “احتلال”، لا “إبادة جماعية”، ولا حتى “حصار”. اللغة محايدة ظاهريًا، لكنها منحازة بنيويًا، حيث تُعيد إنتاج الرواية الغربية ذاتها التي تطبّع العدوان ضمن إطار قانوني وأخلاقي زائف. وهو ما لا يمكن تفسيره إلا باعتباره جزءًا من سياسة تحريرية عامة، وليس مجرد اجتهاد شخصي.
ولفهم هذا الميل، لا يكفي النظر إلى تقارير وورد الميدانية فقط، بل إلى خلفيتها المهنية نفسها. فقد تنقلت وورد طوال سنوات عملها بين شبكات تتشارك ذات الخط التحريري مثل: FOX و ABC، و CBS، إلى أن استقرّت في CNN عام 2018. عدا عن أنها تتقن ست لغات بدرجات متفاوتة، مما أتاح لها التنقل في بيئات ثقافية مختلفة. كل ذلك ساهم في تعميق اندماجها في منظومة إعلامية تعرف تمامًا ما الذي يجب قوله، وما الذي يُفضل الالتفاف عليه.
حيث تغطي وورد الصراعات، لكنها لا تتحدى السرديات الكبرى. تقترب من الميدان، لكنها لا تُزعج السلطات. تتحدث عن المخاطر، لكن دون أن تقرّ بالمسؤول عنها إن كانت جهة “صديقة”. هذا النمط لا يُعبّر فقط عن أسلوب فردي، بل عن خط تحريري تتبنّاه المؤسسات التي تنتمي لها، يُعاد فيه إنتاج العالم وفق منطق المصالح لا الحقائق.
بين الصحافة والحقيقة جدار من الجوائز
لطالما قُدّمت الصحافة الغربية بوصفها “سلطة رابعة”؛ رقابية، مستقلة، ومسؤولة أمام الحقيقة لا أمام السلطة. لكن واقع المشهد الإعلامي اليوم يُقدّم صورة مختلفة تمامًا: جوائز تُمنح لا لتكريم من يواجه السرديات الجاهزة، بل لمن يُتقن إعادة تدويرها بلغة محايدة الشكل، منحازة المضمون.
في هذا السياق، لم تكن جائزة “دانيال بيرل للنزاهة والشجاعة” مجرد تكريم لصحفية تغامر في الميدان، بل مثالًا صارخًا على كيف يمكن للجوائز أن تتحوّل من أداة للاعتراف بالصدق المهني، إلى آلية لتثبيت رموز خاضعة لخطاب سياسي معين. فالتكريم لا يأتي اليوم بالضرورة نتيجة كشف للحقائق، بل قد يُمنح لمن يُجيد تسويق نصف الحقيقة، أو من يصوغ المشهد بمهارة بصرية توازي الرواية الرسمية، دون أن يصطدم بها.
وهذا بالطبع لا يسيء فقط إلى مفهوم الجائزة، بل إلى جوهر المهنة أيضًا. فالجوائز التي تُمنح باسم “النزاهة” لصحفيين يروّجون لروايات متحيزة، لا تكرّم الصحافة، بل تشرعن تواطؤها. وتُعيد تشكيل الوعي الجماهيري بأن هذه هي الصحافة كما يجب أن تكون: مشهد بصري قوي، دون تدقيق منهجي، ونبرة محايدة تخفي انحيازًا صلبًا.
في هذا المناخ، تُعيد “مدارس” الصحافة الغربية تعريف الشجاعة الصحفية باعتبارها لم تعد مرتبطة بطرح الأسئلة الصعبة، أو بتحدي الخطوط الحمراء، أو بتقديم الحقيقة ولا شيء سواها، بل بصناعة الإثارة ضمن حدود السرد المسموح. ثم تقوم بمكافأة نجومها باعتبارهم أبطالًا محايدين. في المقابل، يُقصى الصحفيون الذين يدفعون ثمن تمسّكهم بالحقيقة بالسجن أو القتل، كما يحدث للصحفيين الغزيين منذ قرابة العامين.