منذ اندلاع حرب الإبادة التي يشنُّها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، فتح ميدانًا موازيًا للعدوان استُهدف فيه الأسرى الفلسطينيين داخل سجون الاحتلال، ضمن سياسة ممنهجة تستهدِف حرمانهم من أبسط الحقوق وفرض أقسى ظروف الاعتقال.
هذه الحملة، التي كثَّفها وزير الأمن القومي المتطرف، إيتمار بن غفير، منذ تسلُّمه منصبه، لم تقتصر على الأسرى عمومًا، بل طالت على نحو خاص قيادات الحركة الأسيرة، عبر أساليب تعذيب متصاعدة، وعزل قسري طويل المدى، وحرمان كامل من الرعاية الطبية.
ما يُشير إليه سلوك الاحتلال أن ثمة سباقًا مع الزمن لإيقاع أكبر قدر من الضرر الجسدي والنفسي بهؤلاء القادة، قبل أي استحقاق للإفراج عنهم المحتمل ضمن صفقات التبادل المقبلة، وقد جاء هذا بالتوازي مع رفض الاحتلال إطلاق سراح رموز الحركة الأسيرة في المرحلة الأولى من الصفقة، وسط مماطلة متعمَّدة لشراء الوقت والإبقاء عليهم رهن الاعتقال.
وتظهر الوقائع أن ما يحدث بحق هذه النخبة من الأسرى يتجاوز الإهمال الطبي أو التشديد في ظروف الاحتجاز؛ بل يقترب من نمط “إعدامات بطيئة”، مدفوعة برغبة في الانتقام من الرموز الوطنية الفلسطينية، ممن قضوا أكثر من عقدين في سجون الاحتلال، ويدفعون اليوم ثمنًا مضاعفًا في ظل أوضاع صحية مأساوية وتنكيل يومي لا يتوقف.
قادة الحركة الأسيرة تحت مقصلة الإعدام البطيء
في ظل التصعيد غير المسبوق في السجون الإسرائيلية، تواصل سلطات الاحتلال تنفيذ سياسات ممنهجة تستهدِف قياداتِ الحركة الأسيرة، عبر العزل الطويل، والتنكيل المتكرر، والإهمال الطبي، وصولًا إلى ما يبدو محاولات تصفية بطيئة خلف القضبان.
في هذا السياق، حذّرت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من الخطر الداهم الذي يهدد حياة أمينها العام الأسير أحمد سعدات، المحتجَز في زنازين العزل في سجن مجدو، مشيرةً إلى تعرُّضه لاعتداء وحشي في أثناء نقله الأخير، وحرمانه من الزيارات العائلية والحقوق القانونية، ما فاقم من وضعه الصحي المتدهور.
ووصفت الجبهة ما يتعرض له سعدات بأنه “جريمة متعمدة”، ضمن سياسة تصفية تستهدِف قادةَ الأسرى جسديًّا ونفسيًّا، كما طالت الإجراءات القمعية القيادي الأسير عاهد أبو غلمة، عضو المكتب السياسي ومسؤول فرع السجون في الجبهة، الذي نُقِل إلى سجن جلبوع في ظروف قاسية، ضمن حملة تنقلات تعسفية تؤدي إلى استنزاف الأسرى وإضعاف تماسكهم.
فيما نشر مكتب إعلام الأسرى تقريرًا أشار فيه إلى أن الأسير القيادي عباس السيد، المحكوم بـ35 مؤبدًا منذ العام 2002، يخضع لحالة عزل انفرادي قاسية في سجن ريمون، حيث يُواجه تعذيبًا متكررًا وإهمالًا طبيًّا أدَّى إلى التهابات جلدية واسعة وفقدان حاد في البصر.
الحال أكثر قسوة مع القيادي عبد الله البرغوثي، الذي يتعرض لمحاولات تصفية متكررة عبر الضرب الوحشي، واستخدام الكلاب، وسكب مواد حارقة على جسده، ما أدخله في غيبوبات دون أي تدخل طبي حقيقي.
الأسير حسن سلامة، القابع في العزل منذ شهور، يُعاني كذلك من تدهور صحي حاد، وفقدان للنظر وتساقط للأسنان وهزال شديد، إذ انخفض وزنه إلى 62 كغم، بينما يواجه القائد مهند شريم صعوبة في الحركة والنطق، وقد فقد قرابة 45 كغم من وزنه.
ويُعاني القائد معمر شحرور من مرض الروماتيزم ويُحرم من العلاج، ويُحتجز في زنزانة باردة رطبة، يتعرض فيها للضرب والتجويع بشكل يومي، ما زاد من ألمه الجسدي والنفسي وسط صمت دولي مطبق.
وفي واحدة من أخطر الحالات، دخل الأسير محمد النتشة (67 عامًا) في غيبوبة تامة نتيجة نزيف داخلي وفشل كلوي بعد تعرضه لتعذيب قاسٍ عقب اعتقاله في مارس/آذار 2025، وعلى الرغم من نقله إلى مستشفى “هداسا”، لم يُسمَح لعائلته أو محاميه بزيارته أو الاطلاع على حالته الصحية، ما أثار شُبهات قوية حول محاولات متعمَّدة لإخفاء ما تعرض له من تعذيب.
ووفق شهادة زوجته، فإن الاحتلال نقله مباشرة بعد اعتقاله إلى مركز تحقيق “عوفر”، حيث خضع لتحقيق قاسٍ ومطوَّل، قبل نقله فاقدًا للوعي إلى المستشفى، وتقول زوجته: “زوجي رجل مسن، عمره 67 سنة، ويعاني من مشاكل صحية مزمنة. لا أفهم كيف يسمح الاحتلال لنفسه بتعريضه لتعذيب من هذا النوع، وكأنهم كانوا يريدون تدميره، لا التحقيق معه”.

كما أكدت هيئة شؤون الأسرى ونادي الأسير أن القائد مروان البرغوثي، عضو اللجنة المركزية لحركة “فتح”، تعرَّض لاعتداءات متكررة في سجن مجدو، شملت الضرب المبرِّح على الرأس والأذنين والصدر، ما أدى إلى إصابات بالغة منها نزيف داخلي في الأذن اليمنى والتهابات حادة، وسط إهمال طبي متعمد.
وعدَّت اللجنة المركزية لحركة “فتح” ما يجري مع البرغوثي “محاولة تصفية سياسية بقرار من الحكومة الإسرائيلية”، خاصةً مع منعه المتكرر من العلاج والزيارات القانونية.
ولا يقتصر الاستهداف على المحكومين، إذ يعاني الأسير القيادي زاهر الششتري (60 عامًا)، المعتقل إداريًّا منذ أكثر من 8 أشهر، من تدهور حاد بسبب إصابته بمرض التصلب اللويحي والسكري والعصب السابع، وتقول عائلته إنه لم يعد قادرًا على الحركة ويُعاني آلامًا شديدة، ويعتمد كليًّا على الأسرى الآخرين في قضاء حاجاته اليومية، وسط غياب كامل لأي تدخل طبي أو قرار بالإفراج الإنساني.
المعتقلات الإسرائيلية أشبه بالجحيم
في شهادته الأولى بعد تحرره، أكد الأسير المحرر وائل الجاغوب في حوار مع “نون بوست” أن الأسرى الفلسطينيين يواجهون، منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، أوضاعًا مأساويةً غير مسبوقة، عقب إعلان سلطات الاحتلال “حربًا مفتوحة” داخل السجون، تمثَّلت بإجراءات قمعية أعادت ظروف الاعتقال إلى نقطة الصفر، عبر أربع سياسات مركزية شكلت ملامح جحيم يومي متكامل.
أولى هذه السياسات التجويع الممنهج، إذ عمدت إدارة السجون إلى تقليص كميات الطعام تقليصًا حادًّا، حتى باتت لا تكفي للحفاظ على الحياة، فلم يعد الأسرى يحصلون على الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية، مثل السكر والملح، وتحولت وجباتهم إلى ما يشبه الطُعْم الرمزي، ما انعكس على أجسادهم الهزيلة التي أصبحت أقرب للهياكل العظمية.
ثانيًا، القتل الطبي المتعمَّد، فقد تحوَّل الإهمال الطبي إلى أداة تصفية بطيئة، عبر قطع كل أشكال الرعاية عن الأسرى المرضى، بما في ذلك الحالات المزمنة والخطيرة، وقد استُشهد عدد من الأسرى نتيجة لذلك، بينما يقبع آخرون على حافة الموت في ظل امتناع الاحتلال عن تقديم أي علاج.
ثالثًا، الترهيب والتنكيل اليومي، إذ يعيش الأسرى تحت وطأة اعتداءات متكررة تشمل الضرب الوحشي والتفتيش العنيف والإذلال المنهجي، ضمن دوامة لا تهدأ من العنف. جميع الأسرى – دون استثناء – باتوا يحملون آثار الجروح والكدمات والكسور، نتيجة المداهمات الوحشية التي تنفذها وحدات القمع الخاصة داخل الزنازين.
رابعًا، الإهانة والتحطيم النفسي، إذ لا يكتفي الاحتلال باستهداف الأجساد، بل يواصل محاولاته المنظمة لكسر الروح المعنوية للأسرى، من خلال الشتائم العنصرية، والإهانات المقصودة، والتجريد من الكرامة الإنسانية، في إطار سياسة تستهدِف زرع الخوف والانكسار.
لا تمثِّل هذه السياسات الأربع مجرد انتهاكات حقوقية، بل تُشكِّل أركان جريمة حرب متكاملة، وما يزيد الوضع قتامة، أن الأسرى الذين اعتُقِلوا بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، لا سيما من قطاع غزة، يخضعون لمستوى أكثر قسوة من التعذيب والتنكيل، دون أن تشملهم أية تحسينات أو إجراءات قانونية.
ويُجمِع العديد من الأسرى المحررين أن من لم يعايش تجربة الاعتقال بعد ذلك التاريخ لم يَختبر حقيقة الجحيم الاعتقالي الذي صنعه الاحتلال، فكل سجان بات يمتلك “قانونًا خاصًا” يمارِس من خلاله أقسى أشكال القمع دون أي رادع، في واقعٍ يجعل الحياة داخل السجون أقرب إلى عذابٍ يومي لا يُحتمَل.

في هذا السياق، كشفت هيئة شؤون الأسرى والمحررين، في أحدث تقاريرها، أن طواقمها القانونية تمكَّنت مؤخرًا وللمرة الأولى من زيارة معتقلي غزة المحتجزين في القسم السفلي من سجن “نيتسان – الرملة”، المعروف باسم قسم “ركيفت”، والذي يُعَدُّ من أشد أماكن الاحتجاز قسوة، ويُخصَّص لمن تصنِّفهم سلطات الاحتلال ضمن فئة “النخبة” أو “المقاتلين غير الشرعيين”.
ووفقًا لتقرير الهيئة، جرت الزيارة وسط رقابة أمنية مشددة، إذ أُدخل المحامون عبر بوابة مهجورة أقرب لمخزن قديم، يقود إلى درج ضيق تنبعث منه رائحة العفن وتنتشر فيه الصراصير، حسب وصفهم، وأُحيط المحامون برقابة صارمة ومُنعوا من نقل أية معلومة إلى الأسرى أو منهم، ما صعَّب التواصل في البداية، لكن بعد محاولات متكررة استطاع المحامون طمأنة المعتقلين بأنهم جاءوا بوصفهم ممثلين قانونيين للاطلاع على أوضاعهم.
ويشير محامو الهيئة، إلى أن علامات الإنهاك والخوف كانت بادية على الأسرى، فيما أشارت الشهادات إلى أن كثيرًا منهم يعيش في عزلة تامة عن العالم الخارجي، دون معرفة ذويهم بمكان احتجازهم أو أحوالهم الصحية، في ظل تعتيم ممنهج تقوده إدارة السجون.
انتهاكات جسيمة وامتداد لحرب الإبادة
أكد علاء السكافي، مدير مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان، في حوار سابق مع “نون بوست”، أن المؤسسة وثقت –استنادًا إلى شهادات حيَّة وإفادات قانونية لأسرى ما يزالون في سجون الاحتلال أو أُفرج عنهم مؤخرًا – أنماطًا متعددة من الانتهاكات الجسيمة التي ترتقي، في كثير من الحالات، إلى مستوى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
وتُعد عمليات القمع الوحشي من أبرز تلك الانتهاكات، فقد رصدت المؤسسة استخدام وحدات الاحتلال الخاصة لكلاب بوليسية متوحشة، ورش المعتقلين بمواد حارقة كغاز الفلفل، إلى جانب الضرب المبرِّح بالهراوات الغليظة وأعقاب البنادق، مستهدِفين مختلف أنحاء أجساد المعتقلين، في انتهاك مباشر لكل المعايير الدولية لحماية الأسرى.
كما وثقت “الضمير” نمطًا جديدًا ومروِّعًا تمثَّل بسياسة القتل تحت التعذيب، إذ تشير المعطيات إلى أن عدد الأسرى الشهداء أكبر بكثير مما وُثِّق، وعدد حالات الشهداء الذين فقدوا حياتهم نتيجة تعرضهم لتعذيب وحشي في أثناء التحقيق، أو بفعل ظروف احتجاز لا إنسانية، يعكس تصعيدًا نوعيًّا وغير مسبوق في تعامل الاحتلال مع الأسرى، بعيدًا عن أية رقابة دولية أو مساءلة قانونية.
في السياق ذاته، أكَّد نادي الأسير الفلسطيني أن سلطات الاحتلال شددت من ظروف الاعتقال بحق القادة والأسرى البارزين مع انطلاق حرب الإبادة على غزة، وشملت هذه الإجراءات العزل الانفرادي، والضرب، والحرمان من العلاج، في إطار سياسة قمع شاملة.
ووفق إحصائيات النادي، فقد ارتفع عدد الشهداء من بين صفوف الأسرى والمعتقلين إلى 66 شهيدًا، بينهم طفل، و40 شهيدًا على الأقل من قطاع غزة، بعد إعلان استشهاد المعتقل الإداري محيي الدين فهمي سعيد نجم (60 عامًا) من جنين، في مستشفى “سوروكا” الإسرائيلي، نتيجة الإهمال الطبي والتعذيب.
تعقيبًا على استشهاد نجم، شددت كل من هيئة شؤون الأسرى ونادي الأسير على أن وتيرة ارتفاع عدد الشهداء مرشحة للتصاعد، مع استمرار احتجاز الآلاف في ظروف كارثية، يتعرضون في خلالها لتعذيب ممنهج، وتجويع متعمد، واعتداءات جسدية ونفسية وجنسية، وحرمان من العلاج، في ظل تفشي أمراض خطيرة ومعدية، أبرزها الجرب. وأكدت المؤسستان أن هذه السياسات تمثِّل سلوكًا منظمًا للسجون الإسرائيلية، يرقى إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية، ويتطلب تدخلًا دوليًّا عاجلًا.
الإعدام قبل الإفراج
تُجمع المعطيات والشهادات على أن ما يجري بحق قادة الحركة الأسيرة في سجون الاحتلال ليس مجرد تصعيد اعتباطي، بل سياسة ممنهجة تهدف إلى التصفية الجسدية والنفسية، باستخدام كل أدوات العزل والتعذيب والإهمال الطبي، في محاولة لتسريع موتهم داخل الزنازين، بعيدًا عن أية متابعة قانونية أو رقابة إعلامية.
تعيد هذه السياسة إلى الأذهان حادثة استشهاد القيادي في حركة الجهاد الإسلامي، خضر عدنان، الذي تُرك ليموت داخل زنزانته بعد إضراب طويل، في مشهدٍ إجرامي، يعكس استراتيجية متعمَّدة للقضاء على الرموز النضالية.
في السياق ذاته، فإن تعنُّت الاحتلال في استثناء قادة الحركة الأسيرة من المرحلة الأولى في صفقة التبادل، يكشف نيته في استخدام الوقت المتاح لتصفيتهم جسديًّا قبل أي استحقاق سياسي أو تفاوضي قادم.
ويأتي ذلك تقديرًا من سلطات الاحتلال لمدى محورية هذه القيادات داخل بنية الحركة الوطنية الفلسطينية، ووعيها بتأثير الإفراج عنهم على الخارطة السياسية الفلسطينية، داخليًّا وخارجيًّا.
بناءً عليه، فإن ما يُرتكب اليوم خلف القضبان ليس جريمة ضد أفراد فحسب، بل محاولة لاغتيال ذاكرة وطنية حية، وطمس رموز مقاومة تحمل في وجدان الشعب الفلسطيني معاني الصمود والتحدي. وإن صمت المجتمع الدولي عن هذا المسار الدموي يشكِّل غطاءً ضمنيًّا لاستمرار هذه الإعدامات البطيئة التي تجري بعيدًا عن أعين العالم.