رغم الانفراج الجزئي في سياسة بعض الدول الغربية تجاه دمشق ورفع عقوباتها عنها، كان أخرها العقوبات البريطانية، ما تزال العقوبات الأمريكية وعلى رأسها “قانون قيصر” حاجزاً أمام تعافي الاقتصاد السوري، لما تشكّله تلك العقوبات من قيود واسعة النطاق، تستهدف قطاعات حيوية كالبنية التحتية والطاقة وحتى الجهات الداعمة لإعادة الإعمار، وهو ما يعمّق الأزمة الإنسانية في سوريا.
لكن ربط الأزمة الاقتصادية بالعقوبات وحدها على أهميتها يراه خبراء اقتصاديون محاولة تبسيط لواقع شديد التعقيد، وهو ما يطرح تساؤلات جوهرية عن إمكانية نهوض الاقتصاد السوري في ظل وجود تلك العقوبات، والفرص الواقعية لتجاوز قيودها رغم استمرارها، إلى جانب البدائل المتاحة والاستراتيجيات التي يمكن تبنّيها في حال عدم رفع العقوبات أو تأخرها إلى وقت أطول.
وثمة إمكانات لم تُستثمر بعد، وبدائل واقعية يمكن أن تُفعّل في مجالات كثيرة كالزراعة، والصناعة المحلية، والتبادل التجاري الإقليمي، والتحول نحو اقتصاد مقاوم أقل اعتماداً على الخارج.
نبحث في هذه المادة عن مخرجٍ محتمل للاقتصاد السوري في ظل تمسك واشنطن بعقوباتها، وعن البدائل والخطوات التحسينية التي يمكن للحكومة خوضها لتخفيف معاناة المدنيين ريثما ترفع تلك العقوبات.
إذا كانت الحكومة تفكر ببناء اقتصاد فيجب أن يُبنى على أنه اقتصاد وطني للشعب بعيداً عن تبني اقتصاد الحرب، وبالتالي فإن المطلوب اتخاذ خطوات بنّاءة مقابل العقوبات التي تعد واحدة فقط من تحديات أخرى تقف أمام نهوض الاقتصاد السوري، فحتى لو رفعت العقوبات مع عدم معالجة التحديات الأخرى فإن المشكلة ستبقى ذاتها والنتيجة واحدة.
لا أتوقع رفع العقوبات في المدى القصير أو المتوسط، ولا سيما أن عددًا من الشخصيات السورية التي تسلّمت مناصب قيادية على لائحة العقوبات بعد إثبات انخراطهم بعمليات إشكالية.
رفع العقوبات يجب أن يقابله تغيّر جذري في سلوك القيادة الجديدة تجاه المجتمع المدني وتجاه الكثير من القضايا المجتمعية، ولعل أخطر هذه العقوبات هي عقوبات قيصر لأنها تقتضي منع تعامل الدول مع الدولة السورية وهذا يحد من بناء الاقتصاد، وبالتالي لا نافذة الآن أمام الحكومة السورية إلا المساعدات والقروض المقدمة لها خارجياً والتي ستكون محدودة.
وهناك جملة من التحديات نستطيع القول، إنه بمجرد التغلب عليها ومعالجتها يمكن النهوض بالاقتصاد السوري:
أولًا: ضعف المؤسسات التي تدير الموارد الاقتصادية في الدولة، وغياب الرغبة ببناء القدرات والكفاءات القادرة على إدارة المؤسسات الاقتصادية، فحتى لو رفعت العقوبات ودخلت ملايين الدولارات كاستثمارات ومساعدات وقروض فإنها معرضة للتبدد وضعف الاستفادة منها.
ثانيًا: غياب الخطة والرؤية الاقتصادية الحكومية، وآلية تنفيذ واضحة لها، إضافة لنقص الموارد وعدم تحديد الأولويات.
ثالثًا: غياب الاستقرار الأمني والسياسي والتي يقف عائقًا أمام المستثمرين، إذ يمكن ملاحظة أن هناك تعويلًا مبالغ فيه على رفع العقوبات ومساعدات الخارج، إلا أنه وبدون الاستقرار الأمني والسياسي وإعادة إدماج الاقتصاديات التي كانت متشرذمة خلال الحرب في مناطق النفوذ الأربعة قبل سقوط النظام بنظام اقتصادي واحد، لا يمكن النهوض بالاقتصاد.
رابعًا: غياب تأهيل القوى العاملة، فسنوات الحرب خلّفت هجرة العقول والكفاءات والأيدي الماهرة للقطاعات الزراعية والصناعية والتقنية وهروب رأس المال، وإلى الآن لم نرَ خطة حكومة لتأهيل اليد العاملة داخل سوريا، أو جذب الكفاءات الخارجية، فالأسلوب الذي تتبعه الحكومة حتى الآن ليس تشاركي بما فيه الكفاية بحيث يشجع الكفاءات من الخارج للقدوم.
ويمكن التركيز على جملة من البدائل ريثما ترفع العقوبات أهمها: الاعتماد على الذات إلى أكبر قدر ممكن وتخفيف المراهنة على المساعدات من الخارج، ووجود خطة واضحة لعملية النهوض بالاقتصاد ترسم الاقتصاد السوري بعد ١٠ سنوات، بمعنى رؤية اقتصادية تتبعها خطط تفصيلية للوصول إلى هذه الرؤية، كتمويل المشاريع الصغيرة التي لا تحتاج إلى تدفق مالي ضخم ولا تكون جاذبة للفساد الكبير، إذ تسمح للمجتمعات المحلية بالانخراط فيها بشكل كبير ويكون لها دور كبير في رأب الصدع بين الطبقات المجتمعية.
أضف إلى ذلك أهمية توجيه أي تدفقات مالية على شكل مساعدات إلى المناطق الأكثر تضررًا، أي الحاضنة الشعبية المعارضة خلال حكم النظام البائد كريف دمشق وأحياء حلب الشرقية وحمص وذلك لتحقيق العدالة الاجتماعية وتحقيق استقرار اجتماعي سياسي يشجع عن تدفقات مالية أكثر.
أما عن واقعية هذه البدائل، فتجعلنا نتجه إلى سؤال آخر عن الخيارات الأخرى لدينا، إذ نجد أنه لا خيارات أمامنا، الأمر الذي يستوجب ابتكار الحلول على المدى الوطني، ومعالجة التحديات التي تحدثنا عنها.
ثريا حجازي استشارية اقتصادية
يجب على الحكومة أن تفكر ببناء اقتصاد وطني للشعب مقاوم وداخلي بعيدًا عن بناء اقتصاد حرب، فهناك مقومات يمكن اللجوء إليها ريثما تعالج مشكلة العقوبات الغربية، أهمها دعم الإنتاج الزراعي المحلي واستصلاح الأراضي لما يمكن أن يساهم بإعادة محاصيل استراتيجية كالقمح والشعير والكّف عن استيرادها، فتنمية الإنتاج الزراعي يتبعه بالضرورة تنمية الإنتاج الصناعي عدا عن ذلك الدعم لا يحتاج للاعتماد على الاستيراد الخارجي لتقنيات متطورة بشكل كبير، بل يمكن الاعتماد على الوسائل في السوق المحلي.
إضافة إلى إعادة تأهيل الأراضي الزراعية بأدوات ووسائل وطرق زراعية محلية ومتوفرة، وبالتالي تشجيع الصناعات حتى لو كانت متوسطة وصغيرة، فيما لو تقدّم لها الدعم والتراخيص وأعفيت من الضرائب، فإنها يمكن أن تسجل دورة إنتاجية بسيطة تحرك الاقتصاد، ومع المدى البعيد يمكن أن تتحول إلى قاعدة تنطلق منها الدولة لإعادة الإعمار من الإنتاج والقوى المالية المحلية.
من البدائل التي يجب المسارعة فيها هي محاربة الفساد والاحتكار والبدء بإصلاحات إدارية، باعتبار أن لدينا اقتصاد متوحش مختصر على رجال الحرب الأثرياء، إضافة إلى تنظيم الاقتصاد غير الرسمي وخاصة الحوالات، وتنظيم الورش الصغيرة وإعادة تنظيم السوق المحلية.
لدينا أيضاً معالجة الإشكالات في سعر الصرف، فسوريا ليست الدولة الوحيدة الخارجة من حروب أو عليها عقوبات. هناك دول لديها تجارب لاقتصاد تعاوني على مستوى الصناعة والزراعة وتقديم الخدمات في قلب المجتمعات المحلية، وهذا بحاجة لإطار قانوني وتسهيلات وتراخيص من الدولة، لأن دعم الاقتصاد التعاوني يوفر خدمات وسلعًا وفرص عمل، ويخلق دورة اقتصادية تتطور يومًا بعد يوم.
لا بد من الإشارة إلى أهمية تثبيت سعر الصرف، وتحسين الوضع الأمني لدخول رؤوس الأموال، وسنّ قوانين تحسن من الإعفاءات الضريبية، إضافة إلى الاستفادة من تحويلات المالية.
هذه الإجراءات البديلة لا غنى عنها وواقعية جداً حتى لو لم ترفع العقوبات، لأنها تساهم بدورة إنتاجية تكاملية محلية من زراعات وصناعات وتنشيط الِحرف، ولنا في المناطق التي عانت الحصار خلال حكم البائد أسوة حسنة، إذ استطاعت النهوض بمشاريع صغيرة كانت على درجة من الأهمية.
يجب معرفة أن المشكلة ليست بالعقوبات فقط، بل بإدارة الدولة ذاتها للقطاعات والتي يبدو أنها متجهة إلى تبني سياسة مشابهة لسياسة النظام البائد في تسليم الاقتصاد لرؤوس أموال وتجار يتحكمون بمفاصله.
أسامة القاضي مستشار اقتصادي
يمكن النهوض بالاقتصاد السوري بوجود العقوبات الاقتصادية، لكن هذا سيؤخر سرعة النهوض. عمليًا سيكون الاعتماد على الرساميل السورية واليد العاملة السورية والقليل من التشجيع من الأشقاء، ما يعني أن عملية الإعمار الكبيرة في سوريا ستتأخر.
يمكن الركون إلى أدوات للنهوض بواقع الاقتصاد السوري رغم العقوبات، من ضمنها سعي الحكومة لأن تكون جزءًا من منظومة “سيبا” الأوروبية بدل سويفت، للتحويل المالي، لأن العقوبات على البنك المركزي ما تزال تشكل أكبر إعاقة للاقتصاد السوري ولعمليات التحويل.
وتعتمد منظومة “سيبا” على التحويل باليورو، والمصادقة عليها تكون من بروكسل عكس سويفت التي تكون المصادقة عليها من واشنطن، ومنظومة سيبا فيها 38 دولة 10 منها خارج الاتحاد الأوروبي، فلو وافقت مثلًا ألمانيا وفرنسا على أن يدفعوا بالملف السوري لأن تكون سوريًا جزءًا من المنظومة بعد افتتاح بعض المصارف الأوربية في سوريا فعندها سيكون التحويل سهلًا باليورو، بالعموم الحكومة تعول على رفع العقوبات الأمريكية لذلك هي ليست في عجلة من أمرها لكن لا بد من الدفع بهذا الاتجاه في حال تأخر رفع العقوبات.
ويمكن اللجوء إلى طباعة عملة بديلة من فئة خمسة آلاف ليرة سورية بمقدار ٥٠ تريليون، أي عشرة مليارات قطعة وهذا سيوقف المضاربات وغسيل الأموال والتزوير، ثم نبدأ بدعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة بحيث نحرك عملية النمو الاقتصادي المحلي وبالليرة السورية عبر إعطاء قروض بدون فوائد ولمدة خمس سنوات.
كما يمكن تشجيع المصنِّع السوري، ما يحقّق تنمية اقتصادية في سوريا، فهناك اليوم أكثر من ٩٥٠ مصنع في مدينة الشيخ نجار الصناعية في حلب، وهناك آلاف المصانع والورشات الصغيرة تعمل في دمشق وريفها، ما يعني أن هناك دورة اقتصادية لكن لنعترف أنها بطيئة وعلى الحكومة الجديدة التعامل بسرعة لإزالة البيروقراطية والحواجز الروتينية ولا سيما تلك التي تعطل السجلات المدنية والعقارية إضافة لفرض قانون ضريبي منصف وعادل.
يونس الكريم باحث اقتصادي
العقوبات على سوريا هي سياسية بطابع اقتصادي، كانت لإجبار النظام المخلوع على تبني سلوك يتماشى مع تطلعات السوريين، والحكومة الجديدة- للأسف- ما زالت بعيدة عن طموح الشعب السوري، فهي تريد رفع العقوبات بشكل سياسي ليتاح لهم التحكم وإدارة الاقتصاد كما تتبناه هي، إلا أن الرؤى الغربية لرفع العقوبات هي وجود مؤسسات دولة تستطيع أن تنتج سياسة واقتصاد يوافق طموح السوريين، لذا لا رفع عقوبات بالمنظور القريب.
باعتبار أن هناك اختلافًا بين وجهات نظر الحكومة السورية التي تعتمد على رفع العقوبات الاقتصادية كوسيلة لرفع العقوبات السياسية، بينما نظر الغرب أن رفع العقوبات الاقتصادية لدعم الإصلاحات السياسية ولا رفعها قبل تلك الإصلاحات.
لكن توجد فرص تمكّن من تخفيف آثار العقوبات على المجتمع السوري، وتبدأ من الاعتماد على الموارد السورية والاتجاه نحو المناطق السورية الغنية بالموارد الاقتصادية الاستراتيجية، كشمال شرق سوريا الذي يملك كميات كبيرة من نفط وغاز وقمح ومياه، والاتجاه أيضاً إلى شمال الغرب والساحل التي تعتبر خزان الزراعة، إضافة الى حل مشكلة العقود التي منحها النظام لحلفائه بعيدًا عن التجاذبات السياسية والمصالح الضيقة لبعض رجال الحكومة الحالية.
عدا عن السعي لإحياء المدن الصناعية من جديد عبر الإلغاء سياسة المركزي بتجفيف السيولة وعودة عمل البنوك وإعادة ترتيب أولويات الاستيراد بإطار وضع خطة حقيقية لعمل الحكومة خلال عام مع عودة السلطة التشريعية للعمل بشكل مستقل والتي تشكل الضمان للقطاع الخاص.
من المفارقات أن الحكومة صرحت لجذب المستثمرين وإحداث نقلة نوعية بالحياة الاقتصادية بتبني الاقتصاد الحر، إلا أن غياب الاستقرار الأمني أظهر المؤسسات وكأنها تحاول الاستيلاء على الاقتصاد وتقايضه مع دول أجنبية مقابل الاعتراف السياسي، مما جعلها تقاتل في مزادات الاعتراف السياسي.
لذا لتطبيق الأنظمة الاقتصادية في البلاد الخارجة عن الحروب هناك وصفتان لا ثالث لهما: الأولى، وجود دولة أجنبية ضامنة (الوصية) للدولة السورية تعمل على وضع نظام سياسي واقتصادي وفق مصالحها، وتعمل حكومة دمشق على تطبيقها دون أن يكون لها حق الرفض، ونجاح هذا الاتجاه يعتمد على مقدار رغبة الدولة الضامنة بمساعدة السوريين ورغبة السوريين بتطبيق سياسات الدولة الضامنة (الوصية) والالتزام بها.
الوصفة الثانية: أن تتولى الدولة ذاتها إعادة بناء مؤسساتها السياسية والقانونية ثم تبني نظامًا اقتصاديًا يتوافق مع تلك المؤسسات، وعادة تمر هذه الوصفة بمرحلة انتقالية لاستمرار عمل المؤسسات الدولة وعدم تعرضها لضغوط قد تُفشل عملية البناء من خلال المحافظة على بعض هياكل المؤسسات القديمة أو مع تجاوز العثرات التي كانت سبباً في انهيار تلك الدولة كالرشوة والمحسوبيات والفساد الإداري وضعف الحوكمة، وبالمحصلة هاتان الوصفتان واقعيتان يمكن الاعتماد عليهما للبدء في تعافٍ اقتصادي وطني.
تلخيصاً لما سبق، يمكن القول إن المختصون في الشأن الاقتصادي، قد أجمعوا على أهمية بناء اقتصاد وطني مقاوم غير مرتبط باقتصادات الحرب، إلى جانب التأكيد على خطورة التعويل المطلق على رفع العقوبات، والبحث عن بدائل متاحة دون انتظارها كشرط لترميم الاقتصاد والبدء بالنهوض به وأهمها دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، كما اتفق الخبراء على غياب رؤية اقتصادية شاملة وخطى طويلة المدى بأهداف واضحة وآليات تنفيذ حتى الآن، مع ما يحيط بالمؤسسات الاقتصادية من شللية وبيروقراطية.