منذ لحظاتها الأولى، لم تكن الثورة السورية مجرد حراك عفوي بقدر ما كانت انفجارًا مركبًا لأزمنة القمع وتراكمات الهوية والسلطة. ومع انزلاق مشهد الثورة من التظاهر إلى التسلح، ومن التعدد الثوري إلى التفتت الفصائلي، برزت شخصيات ساهمت في إعادة تعريف أدوار القيادة ضمن بيئة مضطربة ومتحولة. من بين هذه الشخصيات، تميز أحمد عيسى الشيخ بتجربة تتجاوز ثنائية “الرمز الميداني” أو “القائد العقائدي”، فهو نتاج مباشر لبنية جغرافية واجتماعية تصدّرت مشهد الثورة، وسياق فكري يراوح بين التديّن الشعبي ومقولات السلفية الحركية.
يمثل الشيخ نموذجًا مركبًا في معادلة الثورة المسلحة: طالب علم، وقائد فصيل عسكري مستعد للتخلي عن مناصبه من أجل الوحدة والاندماج تحت راية فصيل آخر، لكنه مستعدٌ أيضًا للانفصال مجددًا إذا لم يجد في الاندماج ضالته، وفاعل سياسي شارك في محاولات توحيد الفصائل وفي التحولات التي أطاحت ببنية الأسد الأمنية.
في هذه السطور، نقترب من شخصية أحمد عيسى الشيخ، قائد حركة صقور الشام، أحد أهم الفصائل الثورية المسلحة، مستندين إلى حوار موسع معه روى فيه محطات من طفولته التي تفتحت على وعي مبكر بالظلم، مرورًا بمحطات نشأته وتكوينه العلمي، ثم تجربته في السجن، وتبلور رؤيته التي جمعت بين التربية والعلم والعمل الجهادي، وانتهاءً بأدواره القيادية على خطوط الاشتباك وتفاعله مع التحولات الكبرى التي عصفت بسوريا بعد عام 2011.
وتقريرنا هذا، هو حلقة جديدة من ملف “الجهادية السورية” الذي ينشره “نون بوست”، نبحث خلاله في سيرة قادة جهاديين سوريين تركوا أثرًا عميقًا على الحركة الجهادية محليًا وعالميًا، مستعرضين البيئة التي نشأوا فيها، والمنعطفات التاريخية والسياسية التي أسهمت في تكوينهم النفسي وشكلت أفكارهم وشخصياتهم.
النشأة والبدايات القاسية
عاشت سوريا خلال عقدي الستينات والسبعينات فترة مضطربة طغى عليها عدم الاستقرار السياسي والفساد الإداري، بالتزامن مع تدهور الأوضاع الاجتماعية، وسط موجات متتالية من الانقلابات العسكرية، كما تحولت البلاد إلى ساحة صراع فكري، خاصة بين حزب البعث الحاكم والتيارات الإسلامية.
وفي سياق تنفيذ السياسات الاشتراكية التي انتهجها حزب البعث، أقدمت الدولة على تأميم البنوك والمصانع والمزارع الكبرى، مما أدى إلى تغييرات جذرية في البنية الاقتصادية. وفي الوقت ذاته، دخلت البلاد في مواجهة مع “إسرائيل” أفضت إلى احتلال الجولان عام 1967، مما زاد من التوتر الداخلي.
ثم في عام 1970، استولى حافظ الأسد على السلطة، مُرسخًا نظامًا سلطويًا عزز من هيمنة الأجهزة الأمنية، وفرض قمعًا منهجيًا على الحريات العامة، شمل الصحافة والنشر والتعليم، فتحولت البلاد إلى دولة أمنية تُدار بالمراقبة وتكميم الأفواه.
في خضم هذه الأوضاع الملتهبة، وُلد أحمد عيسى الشيخ في أوائل أيلول/سبتمبر عام 1971 في قرية سرجة الواقعة على السفح الشرقي لجبل الزاوية بمحافظة إدلب، لم تكن طفولة الشيخ بعيدة عن إرهاصات الصراع والواقع، فقد نشأ في بيتٍ لطالما كان حاضرًا في مواجهات السياسة والتاريخ وحاضن لمواقف ومواجهات تركت أثرها العميق في تكوينه المبكر.

ينحدر أحمد عيسى الشيخ من عائلة محافظة معروفة بتدينها وذات إرث نضالي في مواجهة الاستعمار، فجده الأكبر من أوائل من تصدوا للاحتلال الفرنسي واستُشهد مدافعًا عن أرضه، أما والده، فقد أقام في مدينة الطبقة خلال سبعينيات القرن الماضي بحكم عمله مهندسًا في بناء سد الفرات، كما كان من الداعين لتصحيح المسار السياسي آنذاك.
في تلك الفترة، حظي الحراك الشعبي ضد نظام الأسد الأب بدعم واسع من السكان المتدينين في إدلب، بمن فيهم والد الشيخ، هذا الموقف عرضه للاعتقال عام 1979 من قبل نظام الأسد بسبب خلفيته الدينية وتوجهه الفكري.
وبعد أن أحكم الأسد الأب قبضته وقمع الحراك الشعبي آنذاك، طالت حملات الاعتقال معظم رجال عائلة الشيخ، وحُكم على عدد كبير منهم بالسجن المؤبد، بينما نُفذت أحكام الإعدام بحق آخرين، من بينهم عيسى الشيخ، الذي قُتل في مجزرة تدمر عام 1980.
كوكبة من شهداء مجزرة تدمر بسجن القلعة بدمشق قبل نقلهم إلى تدمر، منهم الوالد رحمه الله
يظهر في الصورة تاريخان منفصلان لا يأتلفان؛ تاريخ الباطل ممثلا بآل الأسد المجرمين، وتاريخ الحق ممثلا بثلة من المجاهدين لا يخافون في الله لومة لائم.
لئن حلكت على الحق الدياجي
فإن مآله نحو انبلاج pic.twitter.com/NsD0LrA3qF— أحمد بن عيسى الشيخ (@aleisa971) June 28, 2022
بعد مقتل الأب في أقبية سجون النظام، وجدت الأم نفسها تخوض الحياة وحدها، تكافح بصمت من أجل تربية خمسة أطفال في بيئة خنقتها قبضة الاستبداد، كان لتلك السنوات القاسية أثر بالغ في تشكيل وعي أحمد عيسى الشيخ الذي تيتم مبكرًا.
أمضى الصغير سنوات طفولته الأولى في مدينة الطبقة حتى أواخر الفصل الأول من الصف الثالث الابتدائي، ورغم أن عمره كان ثمانية سنوات حين داهمت المخابرات منزل عائلته في حي المهاجع، لكن مشهد اعتقال والده شكل صدمة عميقة في وجدانه، وهو مشهد ظل محفورًا في ذاكرته، يرافقه طيلة حياته.
ويروي الشيخ أن من أبرز اللحظات التي أثرت في طفولته، كلمة والده التي أوصى بها والدته أثناء زيارتها له في سجن القلعة بدمشق قبيل ترحيله إلى سجن تدمر، كان مع والد الشيخ طفلان معتقلان لا تتجاوز أعمارهما الرابعة عشرة، فالتفت الأب إلى زوجته وقال بصوت مرتفع أمام السجانين: “أريد أبنائي مثل هذان البطلان، فقد دافعوا عن دينهم وأعراضهم، لم يقبلوا الذل والهوان، أريدهم أبطالًا مثلهما”.
كانت هذه الكلمات ترافق الشيخ كظله طول طفولته، ويعبر عن ذلك بقوله إن أم داوود قد “أرضعتهم العقيدة والكره لآل الأسد كما أرضعتهم الحليب”. ورغم غياب والد الشيخ المبكر، ظل تأثيره حاضرًا بعمق، إذ لا يزال الشيخ حتى اللحظة يذكره بمودة كبيرة، ويقرّ بأثره في صقل شخصيته.
وبعد مرور ستة أشهر على اعتقال والده، عاد الشيخ مع عائلته إلى قريتهم الهادئة سرجة، المعروفة بهوائها النقي وطبيعتها الخلابة وبعدها عن صخب المدن، حيث تابع تعليمه الابتدائي والإعدادي، إلى أن نال شهادة المرحلة الإعدادية عام 1986.
كانت الحركة التعليمية في سرجة تعاني من ضعف شديد، لا سيما بالمقارنة مع بعض القرى المجاورة، ونظرًا لعدم وجود مدرسة ثانوية فيها، اضطر الشيخ إلى الانتقال إلى مدينة أريحا لاستكمال دراسته الثانوية.
التحق الشيخ بمدرسة القسام الثانوية في مدينة أريحا، وهناك بدأت تتبلور ملامح وعيه الفكري، خاصة بعد أن شعر بالتهميش الذي كان يعاني منه أبناء المعتقلين، وفي إحدى المرات، طلبت منه إدارة المدرسة تقديم طلب انتساب إلى حزب البعث، لكنه رفض قائلًا في نفسه: “كيف أنتمي لمن قتل والدي”، وقد أدى هذا الموقف إلى جانب خلفيته الدينية إلى فصله من المدرسة.
رغم هذه التحديات التي اعترضت طريقه، فقد واصل الشيخ رحلته العلمية بعزيمة لافتة، فالتحق بمعهد الإمام النووي الشرعي في مدينة معرة النعمان الذي أسسه الشيخ أحمد الحصري، وأثبت أنه تلميذ موهوب في جميع المواد، إذ برز سريعًا بين أقرانه، ونال المرتبة الأولى في الصفين الأول والثاني، وحافظ على موقعه بين الثلاثة الأوائل خلال بقية سنوات دراسته.
بعد تخرجه من المعهد، التحق الشيخ بالخدمة العسكرية كصف ضابط في الجيش، بعد حصوله على الشهادة الثانوية “تقديم حر”. وبعد انتهاء خدمته الإلزامية، توجه الشيخ بجدية إلى متابعة طلب العلم، حيث درس العلوم الشرعية والعربية على يد عدد من العلماء البارزين في تلك الفترة، على رأسهم الشيخ عبد القادر الأرناؤوط، ويعتبره الشيخ أكثر شخص أثر في مسيرته.
فمع الوقت، تعزز ارتباط الشيخ التعليمي والروحي بالأرناؤوط وهو أحد أبرز رموز السلفية في سوريا، يذكر الشيخ أنه كان يزور الأرناؤوط في منزله رغم ظروف التضييق والمراقبة الأمنية التي فرضها النظام آنذاك. في الواقع، شكلت هذه الفترة محطة مفصلية في مسيرته، إذ أسهمت في بلورة شخصيته، كما أتاحت له بناء علاقات مع شخصيات بارزة، كان لبعضها دور محوري لاحقًا في تأسيس وقيادة الفصائل المسلحة.
يذكر الشيخ أنه في تلك الفترة، تلقى العلم على يد عدد من العلماء البارزين، من بينهم الشيخ عبد الله علوش، والد زهران علوش، حيث كان يتردد إلى منزله في دوما، كما أن زهران علوش مثل الشيخ درس أيضًا على يد عبد القادر الأرناؤوط، مما يشير إلى أن علاقته به تعود إلى ما قبل اندلاع الثورة بوقت طويل.
إضافة إلى ذلك، درس الشيخ على يد الشيخ محمد خير وانلي وعدد من المشايخ المحليين مثل الشيخ محمد عثمان المعروف بأبي أديب، والشيخ محمد أديب قاسم المعروف بأبي عبد الله. وإلى جانب المطالعات والقراءات التي واظب عليها، كان الشيخ يحرص على الاستماع لمناظرات ومناقشات الشيخ الألباني، وتأثر كثيرًا بنظريته حول “التصفية والتربية” التي شكلت إحدى ركائز منهجه الفكري، قبل أن يعمل لاحقًا على تطويرها بما يتلاءم مع واقع العمل الدعوي والجهادي الذي خاضه.
سافر الشيخ إلى السعودية، حيث شارك في عدد من الدورات العلمية الشرعية، والتقى خلالها بعدد من كبار العلماء، أبرزهم الشيخ ابن عثيمين والشيخ ابن جبرين وغيرهما، وقد حصل هناك على عدة شهادات في مجالات شرعية متنوعة، ما شكل انطلاقة قوية في مسيرته العلمية.
وعقب عودته إلى سوريا، اضطلع الشيخ بدور فاعل في النشاطات الدعوية، متعاونًا مع عدد من العلماء والدعاة داخل البلاد، ويذكر أنه تبنى منهجية تجمع بين العلم والعمل، مستلهمًا من طرح الشيخ الألباني في نظريته التصفية والتربية، ومضيفًا إليها رؤية شمولية تركز على العمل الجماعي كوسيلة للنهوض بالأمة، كما يقول.
ورغم أنه لم يكن منتميًا لأي تنظيم أو حزب، إلا أن نشاطه الدعوي كان كافيًا ليعرضه للاعتقال، حيث أُلقي القبض عليه في مطلع عام 2004. وبينما تشير مصادر عدة إلى أنه سُجن في صيدنايا وتعرف هناك على شخصيات بارزة مثل زهران علوش وحسان عبود، نفى الشيخ هذه الرواية، مؤكدًا أنه قضى فترة اعتقاله في “فرع فلسطين”، دون أن يلتقي بأي منهما خلال تلك الفترة.
في سجن فرع فلسطين سيئ الصيت، التقى الشيخ بأحد الشخصيات المؤثرة، وهو الشيخ حسن عوض المعروف بأبي سليمان الزبداني، وكان لهذا اللقاء أثر عميق في نفس الشيخ، حيث وجد في الزبداني نموذجًا متكاملًا يجمع بين العلم والجهاد ضمن منهجية متوازنة تقوم على الثوابت العقدية والأسس العلمية، بعيدًا عن العشوائية أو الاقتصار على طلب العلم النظري دون رؤية منهجية شاملة.
أُفرج عن الشيخ في أواخر عام 2004 بعد عام أمضاه في فرع فلسطين، وكان خروجه محطة مفصلية في حياته، إذ خرج محملًا بوعي أعمق وفهم أشمل لطبيعة نظام الأسد وأدواته القمعية.
ورغم ما عاناه في السجن، لم يتراجع، بل واصل نشاطه الدعوي في منطقته، ليترك بصمة مؤثرة بين أوساط الشباب المتدين، وهو الحضور الذي مهد لاحقًا لظهوره كأحد القادة البارزين في مسار الثورة السورية.
جبل الزاوية: المهد الأول للمقاومة
يتقاطع الصخر العنيد في جبل الزاوية مع تاريخ عريق من المقاومة والكرامة، وتتمتع بلدات هذا الجبل بموقع استراتيجي بالغ الأهمية، لوقوعها عند مفترق طرق يعتمد عليها النظام، أبرزها الطريق الدولي الذي يربط العاصمة بحلب شمالًا، وطريق آخر يمتد من الشرق إلى الساحل السوري غربًا.
مع انطلاق الثورة السورية في عام 2011، كان أحمد عيسى الشيخ وعائلته في قلب الحراك الشعبي منذ لحظاته الأولى، إذ تولى شقيقه الأكبر داوود قيادة وتنظيم المظاهرات السلمية في جبل الزاوية ومختلف أنحاء إدلب. ويقول الشيخ:
“عندما انطلقت الثورة بفطرتها الأولى وبفيضانها الشعبي، انطلقت معها شعاراتها العفوية وخرج أحسن ما في الناس من مطالب وقيم وشيم”.
شارك الشيخ في الحراك السلمي في البداية، وكان حريصًا على العمل الجماعي والتغيير من خلال المظاهرات والضغط الشعبي، لا العمل المسلح، ولكن مع تصاعد وتيرة القمع واستخدام النظام للدبابات والمروحيات في قصف المدنيين، وجد الأهالي أنفسهم مضطرين للدفاع عن أنفسهم وبلداتهم.
وفي تلك اللحظة الفاصلة، اتخذ الشيخ قرارًا حاسمًا بالانخراط في العمل المسلح، مؤكدًا: “قررنا بأن ندافع عن أهلنا وعن نسائنا وعن أعراضنا بما أوتينا من قوة وما لدينا”.
تفجر القتال في جبل الزاوية نتيجة القمع الوحشي الذي واجهت به قوات النظام الاحتجاجات خلال ربيع وصيف عام 2011، ما أدى إلى ظهور مجموعات مسلحة صغيرة، تولى قيادة بعضها ضباط منشقون عن الجيش. وتشير عدة روايات إلى أن شرارة الانشقاقات الأولى عن الجيش السوري انطلقت من جبل الزاوية، وأن رجال جبل الزاوية من أوائل من حمل السلاح في وجه النظام.
اتخذت العمليات في تلك المرحلة شكل كمائن سريعة، وزرع عبوات ناسفة، وشن هجمات على الحواجز والدوريات، دون أن يكون هناك مشروع منظم أو خطة استراتيجية واضحة، بل جاءت كرد فعل على القمع المتصاعد في محاولة لإرباك وصد قوات النظام.
وبعد استشهاد شقيقه داود وابن عمه مصعب، قرر الشيخ تسليح شباب قريته، فأسس “كتيبة صقور الشام” في أواخر عام 2011، التي بدأت بسبعة مقاتلين فقط، لكنها سرعان ما توسعت لتضم قرابة 150 مقاتلًا، وكان من بين مؤسسيها أربعة من أفراد عائلة الشيخ.
وعلى مستوى التسليح، اعتمدوا في البداية على إمكانيات متواضعة مسلحين بأسلحة صيد شائعة في المنطقة، ثم تطور تسليحهم تدريجيًا اعتمادًا على الغنائم التي حصلوا عليها خلال المواجهات مع قوات النظام. واقتصر نشاط الكتيبة في تلك المرحلة على منطقة جبل الزاوية، حيث شنت هجمات نوعية على عدة حواجز تابعة للنظام، من بينها حواجز محمبل، مرعيان، ومعرزيتا، إلى جانب حواجز أخرى.
وفي فبراير/شباط 2012، انسحب النظام من محيط بلدة سرجة بعدما عجز عن الاحتفاظ بها، موجهًا تركيزه إلى جبهات أخرى، ما أتاح لكتيبة صقور الشام بقيادة الشيخ فرصة السيطرة على القرية والاحتفال بتحريرها، وقد شكل هذا الحدث نقطة تحول مفصلية، حيث أتاح للمقاتلين فرصة لإعادة ترتيب صفوفهم وتنسيق جهودهم استعدادًا للمرحلة التالية من المواجهات في فصل الربيع.
في تلك المرحلة المبكرة من عمر الثورة، تلقى الشيخ ضربة موجعة بفقدان ابنه البكر، البالغ من العمر ستة عشر عامًا، فقد قُتل على يد قوات النظام التي لم تكتفِ بقتله، بل قامت بتشويه جثمانه، في واحدة من أقسى صور الانتقام التي عايشتها العائلة.
في الواقع، كانت عائلة الشيخ من أوائل من واجه نظام الأسد، وقد دفعت ثمنًا باهظًا لهذا الموقف، فوالدة الشيخ التي كان لها مواقف سباقة في الثورة السورية، استُشهد ثمانية من أبنائها وأحفادها إلى جانب اثنين من إخوتها وستة من أبناء إخوتها، وقد حظيت هذه التضحيات باحترام واسع من أبناء المنطقة، حتى لُقبت والدة الشيخ بـ “خنساء سوريا وجبل الزاوية” تعبيرًا عن صمودها وصبرها الأسطوري.
نداء المعركة: ألوية صقور الشام
بدأ القتال يتحول من عفويته الأولى إلى التنظيم والتكتيك، فلم تمضِ فترة طويلة على تأسيس كتيبة صقور الشام حتى شهدت تطورًا متسارعًا، إذ تحولت إلى لواء، ثم توسعت لتضم ثلاثة تشكيلات رئيسية، لواء صقور الشام، ولواء داوود، ولواء ذي قار.
توسعت تلك التشكيلات حتى بلغت نحو عشرين لواءً، كان معظم نشاطها متمركزًا في الشمال السوري، ومع توسع الفصيل بقيادة الشيخ، بدأت فصائل معارضة في مناطق مجاورة تُعلن انضمامها إليه، ما أدى إلى توسع الفصيل عبر سلسلة من عمليات الاندماج مع ألوية أصغر. وأمام هذا التوسع، أعلن الشيخ تغيير اسم لواء صقور الشام إلى ألوية صقور الشام تماشيًا مع اتساع نطاق نشاطها العسكري في إدلب والرقة ودرعا وحماة واللاذقية.
ومنذ انطلاقتها، تميزت ألوية صقور الشام بتعاونها وانفتاحها على جميع مكونات الثورة السورية، واشتهرت بمهارتها في حفر الأنفاق وتفخيخها، ولعبت دورًا بارزًا في عدة معارك حاسمة، حيث تمكنت من السيطرة على منطقة جبل الزاوية جنوب إدلب، وساهمت في معارك سراقب الواقعة شرق المحافظة.
كما تصدر مشهد العمليات العسكرية في معركة قطع الإمدادات عن أرتال النظام المتجهة إلى حلب، وساهمت بفعالية في معركة خان السبل الشهيرة ودمرت رتل دبابات، بجانب السيطرة على سهل الروج غربي إدلب وسهل الغاب شمال غربي حماة، فضلًا عن المشاركة في معارك جبل الأربعين، ومعسكري وادي الضيف والحامدية.
كذلك في عام 2014، شاركت صقور الشام في معركة الأنفال التي أفضت إلى سيطرة فصائل المعارضة على مدينة كسب بريف اللاذقية، كما كان الفصيل من بين أبرز القوى التي تصدت لتنظيم داعش في ريفي إدلب وحلب.
في الواقع، برزت صقور الشام كواحدة من أبرز التشكيلات العسكرية في إدلب، مستندة إلى هيكل تنظيمي هرمي وانضباط عسكري صارم، وهو ما مكنها من الثبات في وجه التحديات المتلاحقة ضمن ساحة مشتعلة ومليئة بالتقلبات، وفي الوقت ذاته، تميز الفصيل بهوية واضحة، اختار فيها التوجه الإسلامي إطارًا مرجعيًا، مع التركيز على تحرير الأرض وحماية المجتمع.
ووفقًا لما ورد في الموقع الرسمي للفصيل، فإن صقور الشام تعتمد على جناحين متكاملين، مدني وعسكري، يُهيمن الجناح المدني على التنظيم، ويُدار من قِبل مجلس شورى يرأسه أحمد عيسى الشيخ، ويتكفل هذا المجلس بتأمين الإمدادات العسكرية والغذائية، فضلًا عن تنسيق العمل الإعلامي.
أما الجناح العسكري، والذي يضم في صفوفه عددًا من المتطوعين والضباط والجنود المنشقين عن جيش النظام، فيخضع في قراراته لتوصيات مجلس الشورى، ويعتمد على الجناح المدني في تأمين الدعم اللوجستي.
ويشير الشيخ إلى أن صقور الشام لم تكن مجرد فصيل عسكري، بل ساهمت أيضًا في دعم الخدمات المدنية في المناطق التي سيطرت عليها، إذ عملت على تعبيد الطرق، وإنشاء المدارس والأفران والمرافق الخدمية، إلى جانب إقامة مشافٍ ميدانية، ومحكمة، فضلًا عن حفر آبار المياه، وتأسيس مصانع وورش داخل الكهوف لتصنيع الأسلحة.
كما قامت الحركة بإنشاء محاكم لمحاسبة من وصفهم الشيخ بـ”شبيحة الثورة”، إلى جانب تشكيل لجان متعددة، من بينها لجنة سياسية، وأخرى شرعية، وأشار الشيخ إلى أن الحركة أقامت معسكرات لتدريب المنتسبين مع إعطاء الأولوية للتأهيل الفكري والعقائدي، قبل الانتقال إلى الجانب العسكري.
ومع تصاعد العمل العسكري وتنامي التنسيق بين الفصائل، انطلقت جهود حثيثة لتوحيد الصفوف بين عدد من التشكيلات البارزة، كلواء التوحيد، جيش الإسلام، أحرار الشام، كتائب الفاروق، ومجلس دير الزور، إلى جانب فصائل أخرى، وأسفرت تلك المساعي عن تشكيل “جبهة تحرير سوريا” عام 2012، وتولى الشيخ قيادتها منذ لحظات التأسيس الأولى، ما عزز حضوره في المشهدين العسكري والسياسي للثورة.
غير أن الإعلان عن هذه الجبهة تعرقل في اللحظات الأخيرة بسبب انسحاب حركة أحرار الشام، نتيجة خلاف نشب بينها وبين كتائب الفاروق على خلفية مقتل محمد العبسي واتهام الأخيرة بالضلوع في الحادثة.
في الواقع، لعب الشيخ دورًا محوريًا في الدفع نحو توحيد الجهود وبناء عمل مؤسساتي منظم ضمن صفوف المعارضة المسلحة، وبفضل جهوده وجهود رفقائه تم الإعلان عن تشكيل “الجبهة الإسلامية“، التي ضمت تحت مظلتها عددًا من أبرز الفصائل، منها جيش الإسلام، صقور الشام، أحرار الشام، إلى جانب فصائل أخرى، وقد اختير الشيخ رئيسًا لمجلس الشورى في هذا الكيان الجديد.
وأعلن الشيخ أن الجبهة الجديدة تمثل تكوينًا سياسيًا وعسكريًا واجتماعيًا مستقلًا، يهدف إلى إسقاط نظام الأسد وبناء دولة إسلامية راشدة تكون فيها السيادة لله مرجعًا وحاكمًا لتصرفات الفرد والمجتمع والدولة، وكان الشيخ قد صرح في مقابلة مع قناة الجزيرة أن الجبهة تهدف إلى أن تكون بديلًا حقيقيًا للنظام على جميع الأصعدة.
ورغم أن صقور الشام كانت في بداياتها من أقوى الفصائل المسلحة على الساحة السورية، إلا أنها بدأت تشهد تراجعًا ملحوظًا منذ عام 2014، حيث انشق عدد من أبرز قادتها وعناصرها، وانضم بعضهم إلى تنظيم الدولة، فيما لقي آخرون مصرعهم خلال جولات من الاقتتال الداخلي.
ومن الواضح أن الشيخ يؤمن بالعمل الجماعي ويتميز بعقلية تشاركية، إذ أبدى استعداده للتخلي عن المناصب في سبيل توحيد الصفوف، وطرح عدة مبادرات اندماجية، أبرزها مشروع الاندماج مع حركة أحرار الشام، وبالفعل أعلنت ألوية صقور الشام في مارس/آذار 2015 اندماجها الكامل في حركة أحرار الشام.
وأصبح الشيخ نائبًا للشؤون السياسية في حركة أحرار الشام، وتقبل بصدر رحب تخفيض رتبته إلى نائب قائد من أجل تحقيق التوحد ولم الشمل، موضحًا أنه لا يستحق أي ثناء أو شكر على ذلك، قائلًا: “لقد تأخرت سنوات عن أداء واجب، وأسأل الله العفو والعافية”.
وقد أشاد العديد من المعارضين بخطوة الشيخ باعتبارها تضحية شخصية من أجل المصلحة العامة، واعتبر الباحث أحمد أبازيد أن ما قام به الشيخ يعد درسًا للفصائل. مع ذلك، فشل الاندماج بسبب مشاكل إدارية وتنظيمية، مما أدى إلى انفصال الشيخ عن حركة أحرار الشام بعد أكثر من عام على الاندماج.
ولاحقًا، شارك الشيخ بفعالية في مختلف معارك جيش الفتح، بما في ذلك معارك تحرير إدلب وأريحا، والتصدي للحملة الإيرانية في ريف حلب الجنوبي، والمشاركة في معارك فك الحصار عن حلب، ومجابهة التدخل الروسي في جبال اللاذقية. ومنذ تأسيسه، تكبد الفصيل خسائر بشرية فادحة تُقدر بنحو 8600 عنصر.
وفي مطلع عام 2017، انضمت صقور الشام مجددًا إلى حركة أحرار الشام، وذلك عقب مواجهات عنيفة مع هيئة تحرير الشام في مناطق متفرقة من أرياف إدلب وحماة وحلب واللاذقية، وقد أسفرت هذه الاشتباكات عن التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين الطرفين، وتفيد بعض الروايات أن هذه الخطوة جاءت إثر مقتل نجل الشيخ خلال المعارك التي دارت مع الهيئة في جبل الزاوية.
طريق الحق شريف فيجب أن يكون الثمن غالي
ماظننت يوما بأن طريقنا مفروش بالورود بل كنت أرى فيه الأشواك والمطبات ولن يثننا الموت وكثرة التضحيات عن الاستمرار والمضي فيه
والله لن تزيدني هذه التضحيات إلا إصرارا وثباتا pic.twitter.com/jr5FHen5LR— أحمد بن عيسى الشيخ (@aleisa971) April 21, 2018
ثم في عام 2018، انفصل الشيخ عن حركة أحرار الشام مجددًا، لينضم في أغسطس/آب من نفس العام إلى “الجبهة الوطنية للتحرير” المدعومة من تركيا، غير أنه أعلن انسحابه منها احتجاجًا على ما وصفه بتجاوزات واستفراد في القرار، فاتجه للعمل ضمن غرفة عمليات الفتح المبين بقيادة هيئة تحرير الشام.
ومنذ منتصف عام 2019 وحتى معركة ردع العدوان، حافظت ألوية صقور الشام على حضورها العسكري الفاعل، ونشرت عبر قناتها على تطبيق تيليغرام مجموعة من التقارير المصورة، وثقت من خلالها مشاركة مقاتليها وقياداتها السياسية والعسكرية في معارك ضد قوات النظام في المحرر.
استشهاد وإصابة ثلة من قواتنا جيش الصقور بقصف روسي على معسكراتنا بكفر جنة
” وبشر الصابرين ، الذين إِذا أصابتهم مصيبة قَالوا إِنّا لله وإِنا إِليه راجعون ، أُولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون”
إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيرًا منها،— أحمد بن عيسى الشيخ (@aleisa971) October 16, 2022
ميزان التوازنات: التوجهات والرؤى
في الواقع، حظي الشيخ باحترام واسع بين مقاتليه بفضل شخصيته الهادئة وانضباطه اللافت، وقد كان حريصًا على البقاء قريبًا منهم من خلال زياراته المتكررة إلى مواقع الجبهات، كما نال ثقة العديد من أطراف المعارضة، ولعب دور الوسيط في أكثر من مناسبة لحل الخلافات بينهم.
وعلى المستوى الشخصي، دفع الشيخ وعائلته ثمنًا باهظًا في سبيل الثورة، إذ استشهد أكثر من سبعين فردًا من أقاربه، بينهم إخوته الأربعة، ولم يبقَ منهم سواه، بالإضافة إلى اثنين من أبنائه، عيسى، ومحمد، ما أضفى على مسيرته طابعًا إنسانيًا عميقًا يضاف إلى رصيده الجهادي.
ويتضح أن علاقة الشيخ بالمجتمع المحلي كانت قوية ومتينة، إذ حرص على تعزيز التواصل المباشر مع الناس بشكل مستمر، واعتاد زيارة الجرحى من مصابي المعارك، وزيارة العوائل المُهَجرة، وشارك في تكريم حفظة القرآن في أكثر من مناسبة، وتكريم طلبة العلم، وحرص على الظهور في المناسبات الاجتماعية، بما في ذلك المعايدات والمشاركة في الذكرى السنوية للثورة.
وإلى جانب خبرته العسكرية، أدرك الشيخ أهمية الإلمام بالعلوم السياسية خاصة في ظل تعقيدات المشهد السوري والحاجة إلى فهم كيفية التعامل مع الدول، ومن هذا المنطلق، قرر دراسة العلوم السياسية، وتمكن من الحصول على شهادة الماجستير فيها، مما أضاف إلى رصيده العسكري بعدًا سياسيًا عزز رؤيته في القيادة والعمل الثوري.
ويتقاطع الشيخ فكريًا مع العديد من قادة الفصائل الإسلامية، متبنيًا رؤية تقليدية ترى في الجهاد الوسيلة الأساسية لتحرير البلاد من قبضة النظام، كما وجه انتقادات واضحة للعلمانية والليبرالية، مؤكدًا في إحدى تصريحاته حول رؤيته لسوريا ما بعد الأسد أنه يطمح إلى إقامة دولة إسلامية معتدلة، دون السعي لفرضها بالقوة على المجتمع.
ويؤمن الشيخ بأن الدولة الإسلامية التي يسعى إليها يجب أن تقوم على أسس الحق والعدل والشورى، وأن تُعنى بمصالح الأمة وتضمن الحقوق لجميع مكوناتها، دون تمييز بين المسلمين وغيرهم من الأقليات.
كما يرى أنه لا يحق لأي جهة احتكار العمل السياسي، مؤكدًا أن مفهوم الدولة المدنية لا يتعارض مع الدولة الإسلامية، طالما أن الإسلام هو المصدر الأساسي للتشريع، والأمة هي التي تمارس الحكم دون أي وصاية من أحد.
وفي الواقع، عُرف الشيخ بمرونته وتأقلمه مع التحولات السياسية والجهادية التي عرفتها سوريا منذ بداية الثورة وحتى مرحلة تنظيم الدولة، إحدى المنعطفات المهمة في فكر الشيخ تمثلت في نقده العميق للتطرف والغلو، وهو ما بدا جليًا في مواقفه ضد تنظيم الدولة الذين وصفهم بدولة النفاق وداعش الفجار وخوارج العصر.
رغم الطابع والتوجه الإسلامي الذي تتبناه صقور الشام، إلا أن الفصيل لا ينتمي إلى التيار الجهادي العالمي، وقد انتقد الشيخ بشدة ما أسماه “أصحاب عولمة الجهاد”، موضحًا أن ثمة اختلافات جوهرية في الفكر والمنهج بين حركته وتلك التيارات. ورغم ذلك، دافع في عدة مناسبات عن المقاتلين الأجانب، مؤكدًا أن المشكلة لا تكمن في الجنسية بل في طبيعة الفكر والانتماءات، كما وجه انتقادات حادة لبعض فتاوى رموز التيار السلفي الجهادي.
وعبر عن انتقاده الشديد لما سماه المزاودات المناطقية والمزاودات العقدية، إلى جانب النرجسية الأيديولوجية والمراهقة الفكرية، معتبرًا أنها من أبرز العوائق التي اعترضت طريق الثورة. وفي رؤيته، فإن الثورة ابتليت بطرفين، أحدهما يزعم حمايتها فيعادي بها العالم، والآخر يُلقي بها في أحضان القوى الدولية، مستجديًا النصر ممن تاجروا بكرامة الأمة وقضاياها.
ولطالما رفض الشيخ بشكل قاطع الاقتتال بين الفصائل، ولدرجة أنه أصدر أوامر لعناصر صقور الشام بعدم إطلاق النار على أي فصيل، حتى في حال تعرضهم للهجوم، كما كان من أوائل الشخصيات التي استجابت للمبادرات العسكرية المشتركة، وحرص على تجنب الصراعات الجانبية التي تستنزف جهود الثورة.
في الواقع، كان حاضرًا في كواليس التفاهمات والتحالفات الكبرى بين الفصائل، صوته لم يغِب عن لحظات الحسم، وكان دائم السعي لبناء جسور التوافق وسط فوضى الانقسامات وتضارب الولاءات.
واعتقد الشيخ أن العلاقة بين الفصائل يجب أن تكون قائمة على التكامل والانسجام، مشددًا على استعداده للعمل مع أي جهة ثورية في جميع أنحاء سوريا، واعتبر أن التنوع الكبير في الفصائل منح الثورة زخمًا شعبيًا وأعاق محاولات احتوائها أو التحكم بمسارها من قبل الدول الخارجية.
مع ذلك، كان يؤمن بضرورة التوحد تحت راية واحدة، داعيًا إلى وحدة الصف الثوري بدلًا من الانقسام وراء الاصطفافات الأيديولوجية، مشددًا على أن الفصائل يجب أن تكون جسرًا لخدمة الأمة وحمايتها، وأوضح منذ البداية أن المسميات لا تتجاوز كونها مجرد تسميات تكتيكية تنظيمية إدارية، ولذا يقول:
“آمنت بالإسلام منهجًا، وكفرت بمنهجية الأحزاب والجماعات الإسلامية، فقد اختزلوا الإسلام بمنهجهم وجعلوا أنفسهم وأحزابهم أوصياء على الإسلام وأهله”.
من الواضح أن الشيخ قرأ تجارب الحركات الجهادية الأخرى في العالم، سواء في أفغانستان أو العراق أو الجزائر، ولذا سعى إلى تبني نموذج جهادي يراعي الظروف المحلية والدولية على حد سواء.
فيما يتعلق بموقفه من القوى الإقليمية والدولية، اعتبر الشيخ أن المجتمع الدولي عمومًا قد خان ضميره، قائلًا: “الأمم تتأمر علينا شرقها وغربها عربها وعجمها”. ومع ذلك، اشتهر بنهج متوازن في التعامل مع الخارج، إذ تبنى نهجًا يقوم على قاعدة: “نعم للمراعاة، لا للتسليم”، فقد كان يرى ضرورة مراعاة المصالح الدولية والتعامل معها بحكمة وليونة بما يخدم مصلحة الشعب السوري.
لكنه في الوقت ذاته رفض أي تدخل خارجي في الشؤون الخاصة بالثورة، ورفض أن تتحول الثورة إلى ساحة لتنفيذ أجندات الدول أو حقل تجارب لمشاريعهم وسلطتهم. وعلى المستوى الشخصي، كان الشيخ حريصًا على الحفاظ على استقلالية قرار حركته، مع إدراكه لتعقيدات المشهد الدولي والإقليمي وتشابكاته.
من الثورة إلى الدولة: بناء الوطن
مع مرور الوقت وتراكم الخبرات في الميدانين العسكري والسياسي، اتسعت رؤية الشيخ وتجاوزت حدود النصر العسكري، لم يعد الجهاد بالنسبة له مجرد معركة تُخاض بالسلاح، بل مشروعًا متكامل الأركان، يتضمن أبعادًا فكرية وسياسية واجتماعية إلى جانب البعد العسكري، ورأى بأن بناء مجتمع مستقر بعد الحرب يتطلب تكامل هذه الجوانب، لا انفصالها، وأن النصر الحقيقي لا يكتمل إلا بتحقيق نهضة شاملة تؤسس لدولة قابلة للحياة.
في نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول 2024، شاركت صقور الشام ضمن قيادة العمليات العسكرية في معركة التحرير التي أطاحت بنظام الأسد، ولعب الشيخ وفصيله دورًا بارزًا فيها.
اليوم يوم التعاضد
اليوم يوم التكاتف
اليوم يوم التصافح
اليوم يوم التآلف
اليوم يوم التضافر
اليوم يوم التضامن
اليوم يوم التآزركونوا جميعاً يا بنيَّ إِذا اعترى
خطبٌ ولا تتفرقوا آحاداتأبى الرماحُ إِذا اجتمعْنَ تكسراً
وإِذا افترقْنَ تكسرتْ أفرادا #ردع_العدوان— أحمد بن عيسى الشيخ (@aleisa971) November 27, 2024
كان الشيخ من أوائل الداعين إلى حل الفصائل الثورية ودمجها ضمن جيش وطني موحد يعمل تحت وزارة دفاع. ثم في أواخر يناير/كانون الثاني 2025، شارك الشيخ إلى جانب عدد القادة العسكريين في مؤتمر نصر الثورة السورية الذي أعلنت فيه فصائل المعارضة بما في ذلك ألوية صقور الشام، حل نفسها والانضواء تحت راية وزارة الدفاع المشكلة حديثًا.
وبعد التحرير، نبه الشيخ إلى خطورة المحاصصة، داعيًا إلى الابتعاد عن أي انقسامات قد تعرقل مسار المشروع الوطني، مشددًا على أن الطريق إلى بناء سوريا الجديدة، يمر عبر التكاتف والتراحم، كما رأى أن نجاح الثورة لا يكتمل إلا باندماج جميع المكونات الثورية تحت راية مشروع وطني جامع، يمهد لتحقيق دولة العدل والقانون التي كانت هدف الثورة.
ولفت الشيخ إلى أن التحدي الأبرز في المرحلة المقبلة يتمثل في إعادة إعمار البلاد والحفاظ على مقدرات الوطن ومؤسساته، كما شدد على ضرورة إرساء العدالة وتعزيز المصالحة المجتمعية، والصمود في وجه التدخلات والضغوط الخارجية، مؤكدًا أن تجاوز هذه المرحلة المفصلية لن يتحقق إلا من خلال تعاون حقيقي وعمل جماعي يعلو على المصالح الضيقة، ويجعل من مصلحة الوطن أولوية لا يُساوَم عليها.