“يفترش العرس شاطئ البحر. يتوسع. تنوره الزغاريد والأهازيج وحلقات الدبكة ورائحة الخراف المشوية والمشاعل. تنفلت ردّات “العتابا” و”الأوف” من صدور الرجال، أي والله تنفلت انفلاتا، وتحلق كأنها تصل إلى رب العرش فوق، أو تطير متجاوزة الجيران في القرى القريبة، لتؤنس سكان الساحل كله من رأس الناقورة إلى رفح.”
ما سبق هو مشهد ينفجر فرحًا تحكيه الأديبة رضوى عاشور على لسان “رقية” بطلة روايتها “الطنطورية” عن عرس فلسطيني في قرية “الطنطورة” القريبة من حيفا، في زمن ما قبل اجتياح العصابات الصهيونية للقرية في 22 و23 مايو/ آيار عام 1948، وتقتل ما يقرب من 300 من سكانها وتجبر الباقين على الرحيل.
هكذا كانت الحياة والأعراس في قرى الساحل الفلسطيني الذي استولت عليه إسرائيل بالكامل، فيما عدا قطاع غزة، تقام الأعراس في أحضان شاطئ البحر الذي كان يفيض بالحب على الناس، حدَّ أن رقية الطنطورية تغزلت فيه وقالت:
“في بحرنا بئر سكر. بئر من الماء العذب مستقرة بين أمواج المالح. أي والله بئر سكر، ولصقُها تماما مجلس العرسان”.
وهو ليس وصفًا مجازيًا من رضوى عاشور؛ فبالفعل هناك عين ماء عذب على شاطئ الطنطورة تحيطها مياه البحر المالحة من كل اتجاه، ولكن استخدام هذا الموقف هنا هدفه -كما يفهم بقوة من الرواية- وصْف كيف كان البحر حضنًا آمنًا لسكان القرية الطيبين.
لم تعطنا رضوى عاشور إلا القليل جدًا عن عادات الأعراس والزواج في فلسطين خلال روايتها المستقاة من أحداث واقعية، ولذلك قررنا أن نستعين بمصادر بحثية أكاديمية لنسرد حكاية الفرح، حكاية الزواج الفلسطينية كاملة قبل الاحتلال، وقت أن كانت حياة فلسطين عرسًا على شاطئ المتوسط، لنرى كيف يرتبط العريس بالعروس، كيف يتجهزان، كيف يحتفلان، كيف يغنون لهم، كيف كان لكل موقف زغرودة وأغنية؟
نستنبط روايتنا عن العرس كاملة من 4 دراسات بحثية، وهي: “البداعة الفلسطينية” لنضال فهمي، “فن الزغاريد الشعبية في الأعراس الفلسطينية: دراسة أثنوميوسيكولوجية بلاغية” للأستاذ الدكتور معتصم عديلة والدكتور حسين الدراويش، و”عادات الزواج بين الثبات والتغير.. رؤية للتغيرات الاجتماعية والثقافية في قطاع غزة” للدكتور مروان عدنان قاسم والدكتور رائد محمد طه، ودراسة “في البال: الأغنية الشعبية في فلسطين” للدكتور إدريس محمد صقر جرادات.
طير أخضر ع قميصك.. هكذا تتم الخطبة
لو أنك غريب عن فلسطين تعالى نزور طنطورة أو أي من قرى فلسطين عام 1947، حيث كل شيء بسيط وهادئ وسعيد، تعالى نحضر تزويج فلان ابن فلان الذي بلغ من العمر 15 عامًا ورأت أمه الفتاة فلانة بنت علان التي لم يتجاوز عمرها 14 عامًا وأعجبتها، فقررت تزويجها إياه، بعد أن عرضت الأمر عليه وعلى أبيه ووافقا، ثم استشارا الأعمام والأخوال ووافقوا، فقرروا التقدم جميعًا إلى خطبتها.
قبل أن نحضر سويًا كل مراسم تزويج فلان ابن فلان من فلانة بنت علان، دعني أخبرك أننا هنا في فلسطين لا نتزوج من الأغراب إلا قليلاً، فكثيرًا ما نتفق على تزويج البنت للولد وهما طفلان، وقد نفعل ذلك بمجرد ميلاد فلانة، ولو اتفقنا لا يجرؤ مخلوق على التقدم لها.
نحن نفضل الزواج من أبناء وبنات العمومة، يليهم أبناء وبنات الخؤولة، ولا نحب أبدًا تزويج الشاب أو الفتاة من خارج العائلة، ولذلك نقول:
“بنت عمك تشيل همك”، “اللي يطلع من توبو يعري”، “عليك بالطريق ولو دارت، وبنت العم ولو بارت”.
ونقول “غريبة ما غربها إلا الدراهم”، لأن العريس الذي يتزوج بغريبة عن عائلته يدفع أكثر، ومن ترضى بذلك فهي تفعل طمعًا في المال.
أما من تتزوج من ابن عمها فنغني لها:
يا ابن عمي يا شعري على ظهري .. إن جاك الموت لا ردة على عمري
يا ابن العم يا توبي علي … إن جاك الموت لا ردة بيدي
يا ابن عمي يا ثوب الحرير .. لحطك بين جناحي وأطير
لنعد الآن إلى فلان ابن فلان الذي ذهب مع والده لخطبة فلانة بنت علان، تعالى معي نسمع ما دار بينهما بعد أن قدّم أهل العروس القهوة إلى أهل العريس:
-والد العريس: مش هنشرب القهوة إلا بعد الموافقة على طلبنا.
-والد العروس: اشرب القهوة، طلبك مجاب.
-والد العريس: والله احنا جايين نطلب يد بنتك فلانة لابننا فلان.
-والد العروس: احنا نكسيها ونوديها لحد عندكم.
-والد العريس: واحنا انثقلها بالمال والذهب.. امهر بنتك.
-والد العروس: بنتي مهرها 200 ليرة.
-والد العريس: والله قليل عليها، والله بتتوزن بالذهب، بس احنا قرايب وأهل بعض، وشاريين.
-هنا تدخل عم فلان قائلًا: علشان خاطر جيّتنا!
-والد العروس: بلا ليرة!
-عم فلان: والله ما قصرت.
-فيتدخل عم فلان آخر: علشان خاطر الله ورسوله.
-والد العروس: بلا ليرتين.
-عم فلان: والله ما قصرت.
كما سمعت يا صديقي، انتهت عملية التنقيص (تنقيص قيمة المهر والفصال فيه)، واتفق فلان وفلان على تزويج ابنيهما وفقًا للمهر الساري في القرية، وهو مهر بسيط يوازي ثمنه دونمات بسيطة من الأرض، وقرأ كل الحاضرين الفاتحة.
النساء في الغرفة المجاورة للغرفة التي بها الرجال كن ينتظرن نهاية الاتفاق وقراءة الفاتحة، وبمجرد أن سمعن وقرأن “الفاتحة”، أطلقن الزغاريد احتفالًا بالخطبة، وأخرج والد العريس المهر من جيبه ودفعه إلى والد العروس فيما يسمى في فلسطين “التقبيض”.
خلال خروجه من بيت العروس، استرق فلان ابن فلان النظر ورمق عروسه التي تقف خلف باب حجرتها الموارب تترقبه، وابتسما لبعضهما ابتسامة خجولة، تخفي اشتياقًا لانتهاء فترة الخطوبة، لأنهما يعلمان أن اللقاء بينهما ممنوع طالما ظلت هي في بيت أبيها.
حينها انطلقت النساء من أهل العريس تغنين:
بنت الحلال اللي عليها النية
تسوى خزاين مال بس مش بإيديّه
يابنت عمي مين قلك اتحبيني
أبوكي العاصي مش راضي يعطيني
أبوكي لجمع المال وأنا فقير الحال
بدفع متين وبعت البطانية
يا بنت عمي دمي على دمك
بعثت أمي تتفق مع أمك
أبوكِ طماع مال
وأنا فقير الحال
بدفع متين وبطلب سبعميّة
إذن، فالفصال والتنقيص في المهر مسألة تشغل البال حتى في الأغنية، ولكن الأزمة تُحل في النهاية، لأن الجميع أهل.
اسمع أيضًا هذه الأغنية التي بها تغزل في جمال العروس، وهي من أغاني الخطبة وطلب اليد:
طير اخضر ع قميصك يا حلوة طير
مبروكة ع عريسك وقدومك خير
طير اخضر ع فستانك يا حلوة طير
مبروكة ع حماتك وقدومك خير
طير هدا ع العلية
يا حسابه يا عذابه
والحلو طالب هالنشمية
أهلًا وسهلًا ومرحبًا به
قبل أن نمشي من هنا يا عزيزي دعني أخبرك أن هاتان الأغنيتان مخصوصتان ليوم طلب يد الفتاة والخطبة، فهنا كل شيء منظم، رغم البساطة التي نبدو عليها في الريف الفلسطيني، فلطلب اليد والخطبة أغنيات، وللسهرة أغنيات، وللحنة أغنيات، وللزفاف أغانيه، بل لحلاقة العريس أغان، وللاستحمام أغان، ولطلعة العروس أغان، فنحن نغني دائمًا، نغني لكل مناسبة، أغان تراثية شعبية ورثناها عن آبائنا وأجدادنا ولا نعلم من ألفها وغناها، وما لا نحفظه تردده البدّاعة التي تحفظ كل شيء وتذكرنا به، كما ستسمع فيما هو آت.
حفلات شراء الجهاز والسهرات.. الإحماء للعرس
حدد أهل فلانة بنت علان يومًا لشراء جهاز العروس من المدينة الكبيرة المجاورة لقريتهم، وعند رجوعهم ها هم أهل العريس ينتظرونهم عند طرف القرية، ليستقبلوهم بزفة وأغان.. اسمع معي ما يغنون:
قولوا لإمُّه تفرح وتتهنى
ترُش الوسايِد بالعُطر والحنّا
والفرْح إلنا والعرسان تتهنّى
والدار داري والبيوت بيوتي
واحنا خطبنا، يا عدوِّي موتي
دعنا لا نطيل هنا، فمازالت هناك مناسبات مختلفة سنحضرها، وسنبدأ من الليلة في السهرات التي تسبق حفل الحناء، دعني أخبرك بما سيحدث بها قبل أن نحضر الحناء والزفاف معًا.
السهرة هنا تسبق العرس نفسه بأيام قليلة، وتعتبر بمثابة إحماء له، فتجتمع العائلة والأصدقاء والجيران، وتُنصب الزينة والأنوار أمام بيت العريس والعروس، حيث يلتف الشباب في حلقات الدبكة، وتلتف النساء داخل منزل العروس وتغنين لها.
مما تسمعه في سهرة الشباب أمام بيت العريس، على الدبكة، أغنية خاصة بحلاقة العريس لرأسه، في الليلة التي تسبق الحناء:
زينو يا مزيّن وناوله لأمه
يا دموع الغالية نزلت على فمه
احلق يا حلاق بموسك الفضة
اصبر يا حلاق على فلان تا يرضى
احلق يا حلاق بالموس الذهبية
استنى يا حلاق تاييجو الأهلية
احلق يا حلاق واترفق بشعراته
استنى يا حلاق تاييجو خيّاته
ومما تسمعه من النساء في بيت العروس في هذه السهرات:
في القنية يا زارعين الورد في القنية، يا ميمتي يمّه
ع العلّيه يا مِطلع العرايس ع العلية، يا ميمتي يمه
في القناني يا زارعين الورد في القناني، يا ميمتي يمه
ع العلالي يا مطلع العرايس ع العلالي، يا ميمتي يمه
في الحاكورة يا زارعين الورد في الحاكورة، يا ميمتي يمه
ع الوسادة يا نايمين الليل ع الوسادة، يا ميمتي يمه
قاع الخلة يا زارعين الورد قاع الخلة، يا ميمتي يمه
ع المخدة يا نايمين الليل ع المخدة، يا ميمتي يمه
ما معنى “يا ميمتي يمّه”؟ تعبير شائع في فلسطين وفي الأردن أيضًا، يقال إن أساسه “يا محمد، يمه”، به تبرك بالنبي محمد، حين يسمع أحدهم شيء يوتره أو يزعجه، فيستعين بأمه وبمحمد.
لن أفسر لك كثيرًا، ولو أردت فهناك قاموس للهجة الفلسطينية، يمكنك الاستعانة به، وهناك موسوعة للأمثال الشعبية الفلسطينية أعدها محمد توفيق السهلي، وضمنها باب لتفسير المصطلحات التي وردت بها، يمكنك الاستعانة بهما لتفسير كلمات الأغاني التي سمعتها وستسمعها معي، ولو بحثت ستجد مراجع أخرى للوقوف على أي كلمة أو مصطلح فلسطيني.
دعنا ننطلق الآن إلى حنة العريس والعروس، فبهما ما يثير شغفك ويطربك.
بحنة بلدنا أحنيكي يا بدر ضاوي والحلا كله فيكي
اليوم تبدأ مراسم الفرح الرسمية، سآخذك أولًا إلى حنة العروس، سنتلصص عليهن من أمام البيت ونسترق السمع، لأن الرجال الأغراب لا يصح أن يدخلوا بيت العروس بين النساء.
ها هم أهل العريس، ولاسيما النساء، قد أتين تتقدمهن والدته، ومعهن الحناء معجونة وموضوعة في طبق كبير مستدير، وقد غرست بها الشموع متقدة، ويحملن أيضًا الكثير من الحلوى والليمون والسكر، وقد جئن يغنين:
ياما مشينا من الصبح للعصر
ياما لاقينا طيبات الأصل
ياما طلبنا مريم من بيّها
يا بيها يسوى مدينة مصر
ياما مشينا من بلد لبلد
ياما لاقينا غاليات الطلب
خرج أهل العروس، لا سيما النساء، لاستقبال أهل العريس، وها هي الجدة معهم! تعالى لنسألها عما يجري بالداخل.
–كيف حالك يا جدة، وكيف هي العروس؟
-الجدة: أهلا يا بني، العروس كالقمر ترتدي أطلسا من الحرير، به خطوط صفراء وحمراء، وتجلس على كرسي ومن حولها النساء يغنين في وسط الدار، وستبدأ الآن مراسم الحناء، وإحداهن ستخضب رأس العروس ويديها وقدميها.. اتركني أذهب يا ولدي فلابد أن أقف على ذلك بنفسي.
غادرت الجدة، ونحن الآن نسمع ما يحدث بالداخل، ويبدو أنهن خضبوها بالحناء، ويغنين:
منين جبت الحنة يا ولد يا شاطر
الحنا من الحجاز والكسوة ع الخاطر
يا منقيشة لا يا ستي … لا تجعليها تبكي
يا عبد أبوها واقف .. برطن عليها بالتركي
برق الباروق على الجزاير .. قالوا البلاد احرقوها
برق الباروق على الجزاير .. قالوا البلاد أروا تملي
اسمع هذه الزغرودة أيضًا:
هاهي بحنة بلدنا أحنيكي
هاهي يا بدر ضاوي والحلا كلو فيكي
هاهي ما الحنة إلا يديكي
ها هي يا (فلانة) زينة العرايس لـ(فلان) جاي أوديكي
قبل أن تسألني يا صديقي عن “ها هي” وعن الفارق بين “الزغرودة” والأغنية، أقول لك إن الزغرودة ليس المقصود بها هنا هذا الصوت الذي تطلقه النساء بتلعيب ألسنتهن داخل أفواههن، وإنما هو نمط من الغناء يبدو كأنه صياح، ويبدأ بعبارة “ها هي”، ولكنه صياح سعيد مبتهج.
أما صوت أو عبارة “ها هي”، فقالوا إن أصلها أسلوب نداء على البعيد، وكانت بالأساس “أيا، هي”، بإطالة مد “هِي”، وكأنهم ينادين على من يسمع غنائهن، وقيل إن أصلها “أهوى أهوى”، وأن أصل كلمة “أهوى” كان بالأساس “الله”، وحرفت وتغيرت.
وأداء هذه الزغاريد عن طريق البداعة ومعها النساء، من الناحية الموسيقية لابد أن تبدأ من أعلى مناطق الصوت في الحلق، ولو تنوعت المقامات أو الأنماط اللحنية التي تؤدى بها.
كفى مكوثا عند العروس وهيا بنا إلى منزل العريس لنرى حفل الحناء الخاص به.
ها هو العريس يرتدي ثيابه المخصوص الذي أعده لتلك الليلة، ويتكون من سروال، وفوقه “القنباز” أو “الكبر” أو “الدماية”، وعلى رأسه الشال يحيطه العقال، يقف بين أهله وأصدقائه وجيرانه وقد اجتمعوا بعد صلاة المغرب في صفين متقابلين وبدأوا بالسحجة “التصفيق” ورقصة الدبكة الشعبية، ويغنون:
على دلعونا على دلعونا .. هوا الشمالي غير اللونا
انظر هذه مجموعة من النساء من أقارب العريس تغنين بعيدا عن الدبكة والسحجة:
دار العريس وسيعة
والفرح عامر فيها
وأم العريس فرحانة
واحنا جينا نهنيها
يا جملتي يا أحبابي
تعالوا عندي هنّوني
إن شاء الله الفرح بيجيكو
وايجي على عيوني
يا جملتي يا أحبابي
تعالوا عندي شوية
إن شاء الله الفرح بيجيكوا
وايجي على عينيّ
العريس الآن قد تعب لكثرة ما رقَّصوه، والجميع يبدو عليه التعب، لنسترح الآن وننام، لأن غدا الزفاف وبه ذروة الفرح، وأعدك بجرعة انبهار أعلى مما سبق.
ليلة الدخلة (الأخذَة): سبّل عيونُه ومدّ إيده
نحن الآن أمام البيت الذي يستحم به العريس، إنه قريبه ومن جيرانه في نفس الوقت، ولعلمك: لا يجوز استحمام العريس في بيته ليلة الدخلة، بل عند أحد أقاربه أو أصدقائه. هذا تقليد هنا في فلسطين، وأظنك سمعت عنه في بلاد أخرى مثل الريف المصري.
ها قد خرج العريس مرتديًا ثياب العرس، وقد ركب الحصان، وخلفه الجميع يزفونه ويغنون:
يا عريس عليك اسم الله.. جبنا لك غزال محنى
حنّن يا قرع حنن.. شوف الحلوة بتعجن
يا محلي ظرب الشباري.. في العدا والدم جاري
يا ويل اللي يعادينا.. يطلع لبره يلاقينا
ويغنون أيضًا:
سبّل عيونُه ومدّ إيده يحنُّونُه
غزال صغَيَّر وكِيف أهلُه يبيعونُه
يا أمي يا أمي عبِّيلي مخدّاتي
وطلِعتْ مِ الدار ما ودَّعتْ خَيَّاتي
لنمشي سريعًا الآن وننتظر عند بيت العروس لنشاهد جلوة العروس، أو تزيينها استعدادًا لوصول العريس.
انتهت العروس من لباس أطلسها، وتزينت بالذهب، وتنتظر بالداخل، والنساء يغنين لها أغنية بها مديح في العريس:
لمين مصمودة يا عروس
لمين مصمودة ياغزالة
لـ أبوالبرودة يا عروس
لمين مجلّية يا عروس
لـ أبو البندقية ياليلة
لمين مصمودة يا حبه
للي قاطع رأس الحية يا لية
زين الشباب وكريم الأصل وأتم الأصل على الفصل
والله عريسك ما هو نذل وكلنا بنعرف أهله من قبل
واوعي البسمة تفارق وجهك ولا الحزن يخطر ببالك طول الدهر
عريسك نشمي ورجل والله كل البنات قتلن حالهن قتل
انظر.. لقد وصل العريس على حصانه وحوله أحباؤه، وخرج والد العروس لاستقبالهم، وقد دخل لعروسه وأجلسوه بجوارها على أريكة (كنبايات) معدة مسبقًا في وسط المنزل، وبدأت النساء في الغناء:
أمينة في أمانيها .. مليحة في معانيها
تجلت واتجلت حتى .. سألت الله يهنيها
تجلت ليلة الخميس .. وحملت بالنبي الأنيس
محمد صاحب التدريس .. لقد شرف أراضيها
تجلت ليلة الجمعة .. وحملت بالنبي الشمعة
محمد بهي الطلعة .. لقد شرف أراضيها
تجلت ليلة الأثنين .. وحملت بالنبي الزين
ولو تلاحظ يا صديقي أن أمينة هنا المقصود بها أم النبي محمد، ويبدأون بتلك الأغنية كنوع من البركة، وبعدها ينطلقن إلى أغنيات أخرى.
ولو كان البيت مسيحي، يمكن أن تسمع أغنيات بها نفس الفكرة، مثل زغرودة تقول:
هاهي يا ريتها مباركة
هاهي سبع ثمن بركات
هاهي مثل ما بارك المسيح
على خمس خبزات
اسمع معي، إنهن يشدين بزغرودة أخرى، بها بركة مسيحية إسلامية مشتركة، وقد تسمعها في أفراح المسلمين والمسيحيين معًا:
هاهي يا كلكو يا الحاضرين
هاهي يا فيكو مسيحيين ومسلمين
هاهي والمسيحيين أمارة
هاهي والمسلمين سلاطين
هاهي يا خضر الخضر
هاهي يا النبي داوود
هاهي تحفظ الشباب من البارود
هاهي ومن أم العيون السود
الآن حان وقت انطلاق موكب العرس من منزل العروس إلى منزل العريس، وقد حمل العريس عروسه على حصانه خلف ظهره، وبجانب الحصان يمشي والد العروس من جانب وخالها على الجانب الآخر، ومن حولهم الأهل والأحباب يزفونهم ويزغردون:
هاهي خذوها يا الأمارة
هاهي وانتو الكاسبين
هاهي هذه بنت أبو(فلان)
هاهي بتنهدي للسلاطين
ها قد وصل موكب الزفاف إلى بيت العريس، وهنا تسمع أغان مناسبة للموقف:
أبشر يا عريس .. جبنا حمامتك
جبنا حمامتين .. وبقيت حمامة
مبروك يا عريس .. عروستك مليحة
محوطة بالله .. مرشوشة بالريحة
صديقي، ما زالت هناك طقوس غريبة ولذيذة، انظر إن العروس بمجرد أن دخلت منزل عريسها قد أخذت عجينة ورياحين خضراء، لتلصقها على حائط غرفتها من الجانب الأيمن للباب، ويُمنَع نزعها حتى تسقط وحدها، وتستمر مراقبتها لمعرفة مدى بقائها، فإن طال لصقها قالوا إن الزواج ناجح ودائم.
ستشاهد طرائف أخرى الآن، ستجد مباراة بين أهل العروس والعريس في الغناء وتحديات طريفة.
ها هم أهل العروس تقودهم البدّاعة يغنون في تحدي لحماتها، والعروس تسمع ووجها يحمر خجلًا:
يا حماه شِنِّي شِنِّي إن كنك غيرانة مّني
خذيلِك شب أحسن مني
ما بعجبك شيْ مني ولا الحمرة والبودرة
جوزي سافر على الشام جابلي الخرج ملان
قبل ما قعد واتريح احكيتله شو اللي صار
صار قلبي يفور يفور زي القهوة على النار
أهل العروس تمادوا أكثر، وغنوا تحديًا جديدًا على لسان العروس لحماتها:
هاهي وحياة شالك وشنشالك
هاهي وبعد أسبوع بفضالك
هاهي وإن شاء الله فال الله ولا فالك
هاهي لاشغل بالك وأنهب مالك
الحماة لن تقف مكتوفة الأيدي، وسترد هي ومن معها وتغنين مهددات العروس بأنها إن لم ينصلح حالها فسيتزوج ابنها بغيرها:
هاهي ياللي قاعدة جنب ابني
هاهي مافيك شي عاجبني
هاهي وإن ما مشيتي دغري
هاهي لتشوفي بيت الضرة مبني
وهنا تدخل الأحباب من الطرفين وغنوا ساخرين من الحماتين حد التهكم على رجليهما العجوزتين اللتان صارتا كأرجل الدجاج:
ها هي يا ام العروس ويا جرين الجاجة
هاهي من يومك يا ام العروس غناجة
هاهي يا ام العريس ويا جرين القُرْقُعي
هاهي من يومك يا أم العريس امْقَرْقَعَى
العريس والعروس قد تعبا وحان وقت الدخلة، وصرنا منتصف الليل، والآن سيجتمع الرجال أمام المنزل يأكلون وليمة الفرح، وسيدخل العريس، وفي الصباح سيأتي أهل العروس للاطمئنان على ابنتهم، ومعهم الهدايا والطحين وخروف حي للذبح، وسيعطونها “النقوط”، ولن يغادروا إلا بعد تناولهم الغداء، وسيكون من الخروف الذي جلبوه معهم.
والآن بعد انتهاء الدخلة أراك يا صديقي مثل أطفال طنطورة الذين حكت عنهم رضوى عاشور، وقد استسلموا لخدرٍ لطيف بعد ليلة طويلة سعيدة، تسحبهم أمهاتهم كالسائرين نيامًا، ويسكنون فراشهم، لا يعرفون إن كانوا في البيت أم مازالوا على الشاطئ، حتى الشاطئ نفسه قد استكان وغلبه النعاس بعد طول سهر وسعادة، ربما لا يعرف أن هذه الليالي المضيئة لن تعد كما هي أيامهم، وأن الاحتلال سيغتصب منه هذه الأفراح بعد ذلك.