ترجمة وتحرير: نون بوست
في فجر القرن العشرين، بدأ المجندون العثمانيون في بناء خط سكة حديد بين دمشق والمدينة المنورة، الواقعتين فيما يُعرف الآن بسوريا والسعودية على التوالي، وكان يُطلق عليها اسم سكة حديد الحجاز. وبحلول عام 1908، كان هناك 800 ميل من السكك الحديدية الضيقة ممدودة عبر الجبال والصحراء، ولكن في غضون عقد من الزمان، قضت الثورة العربية الكبرى على الطموحات الأصلية للمشروع، وبدأت بنيته التحتية، شأنها شأن الإمبراطورية التي بدأت فيه، في التفكك، وانسحبت القوات العثمانية، وبينما هم يفعلون ذلك، حفر العديد منهم مخابئ للعملات الذهبية على طول خطوط السكك، مُخططين للعودة لجمعها في وقت أقل فوضى.
على الأقل؛ هذه هي الأسطورة القوية التي انتشرت، رغم قلة الأدلة التي تدعمها، ويتفق معظم الخبراء على أنه إذا كان هناك أي شيء ذو قيمة فإنه كان سيُعثر عليه منذ فترة طويلة، ولكن اللصوص جربوا حظهم على طول خط الحجاز بأكمله على مدى عقود. والآن، بعد سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، أتاح الفراغ الأمني في البلاد فرصة لصائدي الكنوز لنهب سكة الحديد العثمانية، بالإضافة إلى العديد من المواقع التراثية الأخرى.
قال لي أبو علي: “عليك أن تبحث عن الرموز”، وقفنا معًا فوق الصخور البازلتية المكسوة بالعسل وظهورنا في مواجهة رياح يناير/ كانون الثاني الباردة، وكانت خلفنا بقايا محطة صغيرة من سكة حديد الحجاز، على بعد أميال قليلة من حدود سوريا الجنوبية مع الأردن. كان هناك حفنة من الشباب حولنا، وكان أبو علي، وهو خبير في البحث عن الكنوز في أوائل الستينيات من عمره.
وقال إن الجنود العثمانيين كانوا يضعون علامات على نقاط على القضبان بصنع شق أو ثقب رصاصة، ثم يختارون صخرة لا تُنسى في مكان قريب، وقال: “قد تكون على شكل سلحفاة أو ثعبان”. وبمجرد أن يعتقد أنه وجد الرمز، يستخدم أبو علي قضيبًا معدنيًا لتحديد مكان الحفر بالضبط. ويترك القضيب المعدني يوجه يده، ويقول: “إذا تحرك إصبعي الصغير، فهذا يعني وجود ماء تحته”. ويشير إصبع الإبهام والإصبع الثاني إلى معادن مختلفة، بينما لا يشير الإصبع الثالث إلى أي شيء، أما الرابع فيشير إلى الذهب.
كانت المنطقة تحمل آثار محاولات سابقة فاشلة، كان هناك مراهق يعمل بجانبنا بمعول في أرض ضحلة. هُدمت أرضيات المحطة العثمانية؛ وسُحب الطوب من الجدران، حُفرت أجزاء كاملة من جسر السكة، تاركةً قضبانها معلقة كأضلاع هيكلية.
لم يعثر أبو علي على كنز بعد، لكن ابن عمه أخبره أن عاملًا كان يمد كابل كهرباء عثر على صندوقين من الذهب في هذا الموقع تحديدًا في الماضي. قال أبو علي: “ومعها خريطة”. أُرسلت إليه عبر واتساب من قِبل وسيط مجهول في إسطنبول. طلب المُرسِل مبلغًا ماليًا للمساعدة في فك تشفيرها، لكن المبلغ الذي يطلبه كان باهظًا لدرجة أن أبو علي طلب مساعدتنا. قال، بأمل: “سأتقاسم الذهب معكم”، قبل أن نغادر.
وصلتُ إلى سوريا في أوائل يناير/ كانون الثاني للبحث عن كتاب عن سكة حديد الحجاز، ومن بين المحطات العثمانية الأربع عشرة التي زرتها، كانت جميعها إما تضم منقبين يحفرون بنشاط أو علامات حديثة جدًا على نشاط، وكان الأمر نفسه ينطبق على مدينة بصرى القديمة، عاصمة شبه الجزيرة العربية الرومانية، وموطن مسرح روماني محفوظ جيدًا يتسع لخمسة عشر ألف مقعد. هناك، في شارع ذي أعمدة، شاهدتُ أبًا وابنه يبحثان عن عملات معدنية تحت الحجارة المرصوفة.
في دمشق، كان همام سعد، مدير الحفريات في المديرية العامة للآثار والمتاحف، واضحًا بشأن حجم المشكلة، وقال إن الحفريات منتشرة في كل مكان؛ حيث تجري عمليات الحفر “ليلًا ونهارًا”، وحسب تقييمه لمدى خطورة النهب في هذه المرحلة فإن هذه “ستكون هذه واحدة من أكثر الأوقات حرجًا في تاريخ سوريا بأكمله”.
كانت سوريا في يوم من الأيام ملتقى إمبراطوريات، ونقطة التقاء ثلاث قارات، ونقطة الوصل بين البحر الأبيض المتوسط وبلاد الرافدين، وتضم البلاد ما يقرب من 4000 موقع تراثي مسجل، ستة منها مدرجة على قائمة اليونسكو للتراث العالمي، وهناك 10000 موقع آخر غير مسجل؛ وتُظهر الاكتشافات من مواقع العصر البرونزي على الساحل تطور بعض أقدم أشكال الكتابة في العالم. وقد دُوّنت تفاصيل أساليب الحكم والإدارة الرائدة على ألواح طينية في المستوطنات على طول نهر الفرات، وازدهرت مدن العصر الكلاسيكي، مثل تدمر وأفاميا، كنقاط ارتكاز لطرق الحرير وشبكات تجارية أخرى. وقد شيّد الأمويون، الذين اتخذوا من دمشق عاصمةً لهم، قصورًا ومساجد فخمة، بينما امتدت إمبراطوريتهم إلى إسبانيا والهند. لقد تركت كل طبقة حضارية بصماتها، مطبوعةً على الناس والأرض على حد سواء. وكما يقول عمرو العظم، المدير المشارك لمشروع أبحاث الاتجار بالآثار وأنثروبولوجيا التراث (آثار): “يولد كل سوري إما على قمة موقع أثري، أو بجوار موقع أثري، أو على مرمى حجر منه”.
في الأشهر الثلاثة الأولى من هذا العام، زرتُ حوالي 40 موقعًا تراثيًا في 11 محافظة سورية، ولعلّه من غير المستغرب أن تكون الأماكن التي نجت من التدمير هي تلك التي شُيّدت لصد الغزاة، فقد كانت مبان مثل قلعة حلب، وقلعة الحصن الصليبية، وقلعة صلاح الدين الأيوبي التي تعود للعصور الوسطى في الغابات المطلة على اللاذقية، جميعها محمية جيدًا بجدرانها الدفاعية، وقد لحقت ببعضها أضرار جسيمة خلال الحرب – إذ لم تستطع أسوارها حمايتها من الغارات الجوية والقصف – لكن التحصينات التاريخية لا تزال فعّالة في ردع اللصوص.
وفي أماكن أخرى كان تقييم سعد دقيقًا؛ فقد تعرضت مئات القرى والبلدات البيزنطية القديمة في محافظتي إدلب وحلب، والمعروفة مجتمعةً باسم “المدن الميتة” – والتي هُجرت جماعيًا بين القرنين الثامن والعاشر الميلاديين – للنهب على نطاق واسع خلال الصراع، الذي شهد سقوط المناطق المعنية تحت سيطرة المتمردين، وأظهرت مجموعات الرصد كيف نُبشت الكنائس والمقابر ودُمّرت بحثًا عن الذهب والكنوز الأخرى، وأن الجماعات النشطة في المنطقة – بما فيها هيئة تحرير الشام – سهّلت عمليات تنقيب ممنهجة وطرق التهريب إلى تركيا. والآن، وصل صيادون جدد إلى المواقع القليلة التي زرتها، باحثين عما قد يكون فات الآخرين.
تقع إيبلا القديمة على بعد أربعين ميلاً جنوب حلب؛ حيث تم اكتشاف 17,000 لوح طيني وشظايا من إحدى أقدم الممالك السورية المعروفة في سبعينيات القرن العشرين. بعد عام 2011، شهدت المنطقة قتالًا عنيفًا وتم بناء تحصينات عسكرية فوق الموقع الأثري. كانت هناك روايات عن عمليات نهب متقطعة طوال فترة النزاع، وخلال زيارتي رأيت عشرات الحفر الترابية المحفورة حديثًا وآثار جرافات واضحة. كانت التلال الأثرية والمواقع الأخرى المعروفة بأهميتها التاريخية تعج بالنشاط في جميع أنحاء درعا والسويداء. وصلت الدراجات النارية والشاحنات الصغيرة محمّلة بأدوات الحفر والمولدات الكهربائية، وكانت هناك مجموعات من الرجال يحفرون بالمعاول والمجارف وينحني بعضهم على سفوح التلال. كان بعضهم سعيدًا بالحديث ولم يخفِ أي منهم غرضه. وخلال الفترة التي كنتُ فيها في البلاد، لم يبلغني سوى أولئك الذين يعيشون في المناطق الساحلية عن وجود حماية من الشرطة للمواقع الأثرية. في ضاحية جوبر في دمشق، تجمعت العائلات حول حفر عميقة محفورة في الأرض بالقرب من أنقاض كنيس يهودي يعود إلى القرون الوسطى، وسط دمار شامل لحق بالمدينة.
أجريت مقابلات مع العشرات من هؤلاء الباحثين عن الكنوز، الذين كانوا يحملون، إلى جانب معاولهم، قصصًا من أقاربهم وجيرانهم الذين شاهدوا أو سمعوا عن اكتشافات عظيمة من القطع الأثرية. ادعى بعضهم تخصصات مثل العرافة أو القدرة على التعرف على الصخور التي تشبه الحيوانات. لكن القليل منهم كان لديه معرفة حقيقية بالمناطق التي يعملون فيها، ما جمعهم هو اليأس. قال لي أحد الرجال: “نقوم بهذا العمل لأننا لا نملك وظيفة”. وعندما سألته عن نوع العمل الذي سيجعله يبتعد عن البحث عن الكنوز، أجابني ببساطة: “أي شيء”.
لم تكن هذه العصابات عصابات جريمة منظمة، بل هم ما يمكن وصفهم بأنهم لصوص كفاف؛ فقد بلغت نسبة الفقر في سوريا حوالي 90 بالمائة منذ بداية الحرب، ويعتمد 3 من كل 4 أشخاص على المساعدات الإنسانية، وتم تدمير ثلث الوحدات السكنية تقريبًا، ويحتاج 5.7 ملايين سوري إلى مأوى. لا عجب في أن فكرة الثروات التي لا يمكن سبر أغوارها في باطن الأرض تحمل الكثير من الجاذبية. فمعظم هؤلاء الصيادين لا يحفرون بدافع الجشع بل من أجل البقاء على قيد الحياة. يقول العظم: “يريد السوريون ثلاثة أشياء: الأمن الاقتصادي والأمن المادي والمساءلة. في الوقت الحالي، ليس لديهم أي من هذه الأمور”. وقد سمعتُ هذا الحديث بشكل متكرر في جميع أنحاء البلاد، مما يعني أن أي حل لوباء البحث عن الكنوز يجب أن يعالج أولاً الاحتياجات الأساسية.

في فبراير/ شباط؛ سافرتُ على طول الساحل السوري إلى عمريت، التي كانت ذات يوم ميناء فينيقي في الألفية الثالثة قبل الميلاد، وهي قريبة من مدينة طرطوس، وبينهما منطقة أقل شهرة كانت حتى وقت قريب مكبًا للقمامة. في ستينيات القرن الماضي؛ عثر أحد الموظفين على كتلة من الحجر الرملي مقطوعة بشكل نظيف تحت القمامة، وبعد المزيد من الحفر اكتشف العديد من المدافن التي كان بعضها يحتوي على توابيت طينية بداخلها، وكشفت التحقيقات عن مقبرة رومانية مهمة، كانت مخفية عن الأنظار لمدة 2000 عام.
يتقاسم رجلان مسؤولية حراسة عمريت ومقبرة عازار، وكالعديد من الأشخاص الذين قابلتهم من أجل هذا التقرير، فضّلا الإفصاح عن هوياتهم الجزئية فقط. التقيت بهما عند بوابة حديدية متهالكة بجانب الطريق الرئيسي، وجلسنا معًا على مقاعد بلاستيكية متشققة.
وصفا الأيام التي تلت سقوط نظام الأسد. بصفتهما موظفين حكوميين في الحكومة القديمة، اضطر الرجلان إلى التخلي عن أسلحتهما عندما أُطيح بالنظام في ديسمبر/ كانو الأول. وكان هذا ينطبق على حراس الأمن في جميع أنحاء البلاد، وقال عابد وهو يشعل سيجارة: “لقد كان الوضع خارجًا عن القانون”. كانت المواقع تتعرض للنهب من قبل مجموعات بالجرافات وأجهزة الكشف عن المعادن. وأخبرني عابد أن الحفر كان يجري على مدار الساعة كل يوم، وقال: “أخبرتهم أن البعثات [الأثرية] في الماضي كانت تبحث عن علامات الحضارات، وليس عن الذهب، لكنهم هددوني وواصلوا تدمير الأشياء”. قال الرجل الآخر، أبو خضر، إن إحدى المجموعات كان معها شيخ ديني. هذه تقنية أخرى شائعة في سوريا وأماكن أخرى في المنطقة. يقدم القادة الدينيون، أو رجال يزعمون أنهم رجال دين، تعليمات حول كيفية ومكان الحفر، وإذا كان هناك أي جن (أرواح) حاضرة، فسوف يخيفونها مقابل أجر مناسب.
قادني عابد على طول طريق عبر بستان من أشجار الزيتون. في البعيد؛ امتزجت أمواج البحر الأبيض المتوسط المتلاطمة مع هدير الطريق الساحلي السريع. وكما هو الحال في العديد من المواقع الأثرية غير المحفورة إلى حد كبير، لم يكن هناك الكثير مما يُرى على السطح. ولكن بينما كنا نسير، بدأت أشكال القبور بالظهور كحفر في الأرض. ثم رأيت بجانبها آثار جرافات؛ عندما نظرت إلى قدميّ مرة أخرى عن كثب، أدركت أنني أقف على فخار محطم؛ حيث كانت الأرض مغطاة بآلاف شظايا الأواني والأباريق التي استخرجها اللصوص ونهبوها. لم أجد قطعة واحدة كاملة. هز عابد رأسه مستنكرًا.
بعد فترة قصيرة؛ جاء خمسة جنود يرتدون الزي العسكري يركضون نحونا عبر المقبرة، وأسلحتهم في أيديهم. كانت شاراتهم تحمل شعار حكومة الإنقاذ – وهو الاسم الذي كان يطلق على السلطات المرتبطة بالمتمردين حكمت أجزاء من شمال غرب سوريا قبل سقوط الأسد – وسادت لحظة من الحيرة قبل أن نظهر تصاريحنا الصحفية. كان الرجل المسؤول هو محمد شيبان، الذي كانت سلطته القضائية تغطي الجانب الساحلي من طرطوس، بما في ذلك عمريت وعازار.
وصل شعبان إلى طرطوس قبل 15 يومًا من إدلب لتولي المنصب، خلال تلك الفترة، اعتقل بالفعل 10 أشخاص بتهمة النهب. في الليلة السابقة فقط، ألقوا القبض على ثلاثة رجال بالقرب من المقبرة. وقال شعبان: “بينما كنا نأسرهم، مرت سيارة أخرى وأطلقت النار علينا”. في الغابة الواقعة على الجانب الآخر من عمريت، بالقرب من معبد فينيقي لا يزال قائمًا في منتصف فناء كبير، أراني شعبان المزيد من آثار الجرافات. عندما تم بناء الطريق السريع إلى طرطوس، عُثر على مقابر مزخرفة في هذه المنطقة نفسها. يبدو أن الباحثين عن الكنوز هنا يعرفون ما يبحثون عنه. لاحقًا، اصطحبني لزيارة مركز الشرطة المركزي في طرطوس؛ حيث كان هناك عشرون رجلًا آخرين محتجزين بتهمة البحث عن الكنوز. قال شعبان إنهم سيُحاكمون عند بدء عمل المحاكم، وإن كان من غير الواضح متى سيحدث ذلك.
القانون السوري صارم فيما يتعلق بالنهب، لكن التحدي يكمن في تطبيقه. يحظر المرسوم التشريعي رقم 222 جميع أعمال التنقيب دون تصريح من المديرية العامة للآثار والمتاحف، وهذا يشمل الممتلكات الخاصة. تتراوح الأحكام بين 10 سنوات للحفر غير القانوني و25 سنة للتهريب. في عهد آل الأسد؛ كان النهب كوسيلة للعيش مقيدًا إلى حد كبير بنفس القبضة الحديدية التي حكمت – ودمرت – بقية البلاد. لكن عصابات الاتجار ازدهرت. ففي مناطق النظام، استغل ذوو النفوذ الفساد المستشري داخل الحكومة، أما في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، فكانت العصابات تتكون عمومًا من أولئك الذين تعلموا حرفتهم في ظل تنظيم الدولة. وكما فعلت في الماضي، تتكيف نفس هذه الجماعات الإجرامية وتتوسع مرة أخرى مع تطور الوضع في سوريا.
لم أتمكن من مقابلة أي شخص من هذه الجماعات المنظمة لأسابيع، لأنهم يعملون ليلًا أو لأن الاقتراب منهم يشكل خطرًا كبيرًا، وقد أخبرني حراس الموقع أنهم نادرًا ما يوقفون أي شخص الآن بسبب احتمال حملهم للأسلحة. قال علماء آثار من المديرية العامة للآثار والمتاحف إنهم لم يخاطروا بالذهاب إلى بعض المناطق. وقد واجهنا بالفعل مخاطر حقيقية. في أفاميا، المدينة الرومانية الواقعة على نهر العاصي، أخبرنا أحد السكان المحليين أن صيادي الكنوز كانوا يطلقون طلقات تحذيرية على أي شخص يقترب، وقد تعرض زميلي وسيم للتهديد هناك سابقًا، فلم نخاطر. في دير علي، بالقرب من دمشق، احتجزتنا مجموعة مسلحة لبضع ساعات بعد أن وجدتنا نُجري مقابلات مع باحثين عن الكنوز في محطة سكة حديد عثمانية.
في مدينة نوى؛ وهي جزء ريفي من محافظة درعا، على بعد 60 ميلًا جنوب دمشق، التقيت أخيرًا بصائد كنوز محترف. على أحد التلال الجرداء؛ بجوار بقايا قاعدة عسكرية مترامية الأطراف تعود إلى عهد الأسد، كان هناك أربعة رجال يراقبون حفّارة تغرز أسنانها بين صخرتين طويلتين مسطحتين وتفصل بينهما ببطء. عندما انتهت، التفتوا إلى رجل طلب مني عدم استخدام اسمه واقترحوا أن يشار إليه ببساطة باسم الرئيس. قال للرجال: “إنه قبر. استخدموا المفكات”.
على مدار الساعة التالية؛ تم إخراج كتل صغيرة من الطين والتربة، وعثر أحد الرجال على مسمار صدئ. أخبرهم الرئيس أنه كان من غطاء تابوت. ظهرت المزيد من المسامير، ثم ظهر سن، وببطء، ظهر النصف السفلي من هيكل عظمي.
لم يكن هذا أول هيكل عظمي أسمع عن عثور الصيادين عليه، على الرغم من أنه كان أول هيكل عظمي أراه بنفسي. في بلد لا يزال فيه أكثر من 130,000 شخص في عداد المفقودين، مع اكتشافات منتظمة لمقابر جماعية، لم يكن ذلك مفاجئًا. قال أحد الرجال أن أسوأ ما في البحث عن الكنوز هو خطر التعثر بمقبرة ضحلة لأشلاء جثث من الصراع.
ومع ذلك، كان هذا الهيكل العظمي أقدم بكثير، وكانت عظامه بنية اللون وباهتة. وعندما حاول أحدهم رفع عظم الفخذ الهش انكسر إلى نصفين. تدحرج خيط من داخل العظم المجوف بينما كان يسحبه بعيدًا؛ كان جذرًا رفيعًا من شجرة بعيدة، بدأ الضوء يخفت، فتركوا الباقي ليوم آخر.
وفقًا للرئيس، لديه 60 شخصًا يعملون في مواقع مختلفة، وهو ينفق 250 دولارًا يوميًا على وقود الحفارات – وهي ثروة صغيرة في هذه المنطقة – وعلى غرار أبو علي في السكة الحديدية، يستخدم قضيبًا للتكهّن، وأوضح كيف يضغط بمرفقه على وركه. كان من الممكن أن يبدو كل هذا غريبًا لو لم أشاهده للتو وهو يتعرف على مقبرة على سفح تل بلا معالم. لقد توقع أن يكون الهيكل العظمي من العصر البيزنطي وتمنى أن يقوده إلى الذهب.
في لحظة ما، تصفح معرض الصور على هاتفه، وأراني 16 عملة ذهبية، كل منها بحجم قاعدة فنجان شاي، مكتوب عليها كتابة لاتينية ووجه إمبراطور، وقال إنه عثر عليها حديثًا. بعد ذلك، عرض فيديو لفسيفساء مثيرة، تُظهر امرأة عارية الصدر تمد يدها إلى السماء بينما يمسك رجل بظهرها المقوس. وُضعت الفسيفساء بشكل مسطح داخل منزل، وظهرت خلفها مدفأة غاز. استخدم شخص ما خارج الكاميرا زجاجة رذاذ على البلاط لإبراز ألوانه. كانت رائعة، ربما تبلغ مساحتها نصف متر مربع، وقال الرئيس مبتسمًا بعد رؤية دهشتي الواضحة: “أنا خبير”.
قال الرئيس إن عوائق التنقيب الآن أقل، ومن المرجح أن تكون طرق التهريب هي نفسها التي كانت سائدة قبل سقوط النظام؛ إما عبر الساحل اللبناني، أو عبر إدلب أو الشمال الشرقي الكردي إلى تركيا، أو أحيانًا جنوبًا عبر الأردن. في هذه الأيام، تبدأ العديد من مبيعاته عبر فيسبوك. باع مؤخرًا مجموعة من العملات المعدنية مقابل 3000 دولار لمشترٍ عبر الإنترنت. كما يستخدم تيك توك، تمامًا مثل أي شخص آخر يحاول جذب الاهتمام إلى أعماله.
يشمل جزء من عمل العظم مع منظمة “آثار” رصد نشاط الاتجار بالآثار عبر الإنترنت، وقال لي: “الاستنتاج الرئيسي الذي وصلنا له في هذه الفترة هو الزيادة الهائلة في المواد والنشاط في سوريا”. وأثناء بحثي في هذا التقرير؛ انضممتُ إلى حوالي اثنتي عشرة مجموعة على فيسبوك للبحث عن الكنوز، بعضها يضم ما يزيد عن 500 ألف عضو من سوريا وأماكن أخرى في المنطقة. ووفقًا لتقرير منظمة “آثار” لعام 2019، تضم هذه المجموعات مزيجًا من “مواطنين عاديين ووسطاء ومتطرفين عنيفين”. ويطلب الهواة المساعدة في الرموز، ويجذب المحترفون المشترين لشراء كل شيء، من العملات المعدنية إلى التوابيت، ويروي بعض المستخدمين قصصًا تحذيرية. وترحمت إحدى المنشورات على ثلاثة رجال لقوا حتفهم عندما قادهم جهاز كشف المعادن إلى حفر لغم أرضي. بينما تضمنت رسائل أخرى تعليمات حول أفضل طريقة لتركيب سلم في نفق، أو طرقًا لتدعيم الجدران لمنع انهيارها.
لفت انتباهي إعلانٌ لمتجرٍ افتُتح حديثًا في دمشق، يبيع أجهزة كشف المعادن وأجهزة رادارٍ لاختراق الأرض. تراوحت أسعار القطع المعروضة بين ألف دولارٍ تقريبًا كحدٍّ أدنى وعشرة أضعاف هذا المبلغ، مما يُفسر لجوء الكثيرين إلى طرقٍ أخرى لاكتشاف الأشياء المدفونة تحت الأرض. عندما زرتُ المتجر، أخبرني صاحبه أنه عاد من دبي بعد سقوط الأسد. لم يواجه أيَّ صعوباتٍ في افتتاح المتجر – فبيع أو شراء الأجهزة ليس مخالفًا للقانون، حتى لو كان استخدامها للبحث عن الكنوز مخالفًا للقانون – وكان عمله مزدهرًا، كما ازدهرت أعمال تأجير الحفارات والجرافات. قال أحدُ الملاك إنَّ الآلات الثلاث التي يملكها محجوزةٌ لشهرين المقبلين.
لقد خرج البحث عن الكنوز من الظل؛ ففي أحد متاجر التحف في دمشق، أراني البائع مرآة رومانية محمولة باليد، حصل عليها مؤخرًا. قال إن ثمنها 5,000 دولار أمريكي، ويمكنه إيصالها إلى أي مكان يريده المشتري. إذا قالوا بيروت على سبيل المثال، فيمكنه إحضارها إلى هناك بعد الظهر. لاحقًا، أرسلت الصور إلى أحد المختصين الذي قال إنها على الأرجح مزيفة، ولكن بغض النظر عن ذلك، فإن عدم التكتم يظهر لا مبالاة بالسلطة.
جزء من حل هذه الأزمة يأتي من تطبيق القانون، لكن هذا سيكون شبه مستحيل حتى تفرض الحكومة سيطرة أكبر على البلاد بشكل عام. وبخلاف محمد شعبان في طرطوس، لم التقِ سوى بعدد قليل من رجال الشرطة الآخرين الذين يقومون بحماية المواقع التراثية في أماكن أخرى. وقد حظيت المنطقة الساحلية بوجود أمني أكثر وضوحًا بشكل عام، وربما كان تشديد الرقابة على المواقع الأثرية هناك من أعراض ذلك. قال مأمون عبد الكريم، الذي كان يشرف على المديرية العامة للآثار والمتاحف خلال فترة حكم تنظيم الدولة، إن دور تلك المؤسسة كان يتمثل في الضغط على الحكومة. وقال إنه لم يكن من السهل عليه القيام بعمله في عهد الأسد، لكنه كان صريحًا، ويشهد آخرون على الشجاعة التي أظهرها خلال فترة ولايته. وقال إن على خلفائه أن يفعلوا الشيء نفسه: “هذا هو الوقت المناسب للقيام بشيء ما. نحن بحاجة إلى التعبئة الآن”.
في إحدى أمسيات شهر رمضان، انضممتُ إلى المدير العام الجديد للمديرية العامة للآثار والمتاحف، أنس الحاج زيدان، لتناول الإفطار في دمشق. كان يشغل منصبًا مشابهًا في إدلب، وقال إنه يُدرك حجم التحدي. وعندما سُئل عن الأمن، أجاب: “سنكون حازمين”. وقد أصدر تكليفًا بإعداد خريطة رقمية تُظهر حالة جميع المواقع التراثية المسجلة في سوريا، استنادًا إلى تقارير جُمعت من زملائه الإقليميين. وسيُخصص استثمارات في المعدات والكوادر، وتدريب الموظفين الجدد. وعلى مدى السنوات الثلاث التالية، سينصب تركيزه على تعزيز العمل وإصلاحه وبناء علاقات جديدة مع البعثات الأجنبية.
قال إنه يحتاج فقط إلى الوقت، لكن الوقت ليس ترفًا متاحًا. سيتطلب نجاح عمل زيدان إستراتيجية ذكية وتواصلًا فعالًا، ولكنه يعتمد أيضًا بشكل كبير على استعداد الحكومة لدعم المديرية العامة للآثار والمتاحف. الحاجة الأكثر إلحاحًا هي أمن المواقع، والذي لم يبدِ تحسنًا يُذكر بحلول وقت مغادرتي في أوائل مارس/ آذار الماضي. يمكن لزيدان وفريقه الدفاع عن ذلك، وعليهم القيام بذلك بصوت عالٍ، كما يقترح عبد الكريم، ولكن الإجراء النهائي يجب أن يأتي من الحكومة. ونظرًا لحجم مشروع إعادة الإعمار في سوريا، وندرة الموارد، فإنه من الصعب حاليًا إعطاء الأولوية لقضية زيدان.
هناك عامل نفسي أيضًا في تخفيف الأزمة، وقال لي العظم: “نحن بحاجة إلى إعادة بناء علاقة الناس بتراثهم وثقافتهم”. وقال عبد الكريم إن المجتمع المحلي كان في الماضي رصيدًا كبيرًا للسلطات. إذا أمكن تذكير السوريين بدورهم كحراس للتاريخ، فسيصبحون شركاء في جهود حمايته. يجب أن يترافق هذا مع حلول أخرى تُخفف من وطأة الوضع المُزري الذي يعيشه الكثير من السوريين، لكنني رأيتُ بعض الأمثلة البسيطة بنفسي. في تدمر، أخبرني بائع حُلي بجانب المسرح اليوناني الروماني أنه كان يقوم بدوريات ليلية في الموقع على دراجة نارية. قال: “نحتاج إلى أن يكون هذا المكان جاهزًا لعودة الزوار”. إنه يرغب في حمايته لأن السياحة تبدو تجارة أكثر استدامة، وأجريت محادثات مع السوريين في جميع أنحاء البلاد، وقد عبروا عن فخرهم الكبير بالعيش بالقرب من المواقع الأثرية.
في أوائل شهر مارس/ آذار، زرتُ خزائن المتحف الوطني، وتحت القاعات الرئيسية، التي لا تزال مغلقة في معظمها أمام الجمهور، عُرضت عليّ غرف مخازن تدمر، وفي داخلها كانت هناك تماثيل نصفية ونقوش بارزة معقدة استعادتها المديرية العامة للآثار والمتاحف من حفريات غير قانونية خلال النزاع. معظمها كان متروكًا دون حفظ، أو لا يزال مُعبأً في صناديق الذخيرة الروسية التي نُقلت فيها. نهب تنظيم الدولة العديد منها، واستُعيدت خلال فترة عبد الكريم، الذي أشرف على نقلها إلى دمشق. ويقدّر عدد القطع التي تم إنقاذها من المهربين بأكثر من 35 ألف قطعة، وهذه القطع الأثرية التي كانت مدفونة تحت الأرض لمئات السنين عادت الآن تحت الأرض، وإن كان في وضع مختلف، في صناديق في أقبية بدلاً من تحت التراب، في انتظار الفصل التالي.
لقد عانى تراث سوريا الثقافي من الحرب، تمامًا كما عانى شعبها؛ فالاثنان مرتبطان وثيقًا ببعضهما البعض، والصراع لم ينتهِ بعد. ولكن على الرغم من كل الدمار والخسائر، فقد تم إنقاذ الكثير أيضاً. لا تزال هناك فرصة للحفاظ على ما تبقى، وتشير الدلائل إلى أنه مع تحسن الظروف والدعم، سيكون هناك دعم أوسع نطاقًا لهذا المجال.
عدت بالذاكرة إلى زيارة قمت بها إلى محطة حجازية منعزلة مكونة من طابقين تدعى جباب، يمكن رؤيتها من الطريق السريع “إم 5” في منتصف الطريق بين دمشق ودرعا. وراءها، اختفت مسارات السكك الحديدية في خليط من الحقول البيج. يعيش مزارع يدعى صبحي جمات داخل المبنى العثماني مع عائلته، والذي قال: “هذا المكان جزء من جسدي. لا أستطيع الاستغناء عنه”. ووصف الصدمة والفرح برؤية النظام قد أُطيح به. والآن، يطارد كل يوم أولئك الذين يأتون للتنقيب عن الذهب. وقال: “لماذا نمر بكل هذا، فقط لكي ندمر البلد مرة أخرى بأنفسنا؟”.
المصدر: نيو لاينز