تكشف الحرب الأخيرة في غزة عن تحولات استراتيجية في قواعد الاشتباك، إذ أصبح الذكاء الاصطناعي جزءًا من غرف العمليات، وتحولت الطائرات المسيّرة الرخيصة إلى أدوات فعالة في التعمية والاستنزاف ضد جيش يتفاخر بتفوقه التقليدي.
أطلقت “إسرائيل” قصفًا واسع النطاق مدعومًا بأنظمة ذكية، في حين ردت كتائب القسام بمسيّرات بدائية لكنها فعالة، مستلهمة تكتيكات حربية من أوكرانيا، تمكنت عبرها من إرباك أنظمة المراقبة وشل القدرات الدفاعية الإسرائيلية.
ساحة حرب موازية
حرفيًا، دخل الذكاء الاصطناعي ونظم الطائرات المسيّرة في كل ركن من أركان المعركة، من جمع المعلومات إلى ضرب الأهداف، فقد استخدمت أجهزة استخبارات إسرائيلية برامج مثل “الغوسبل” و”ليفندر” لتوليد الآلاف من الأهداف المحتملة باعتماد الذكاء الاصطناعي، مما يسرّع من وتيرة تنفيذ العمليات بدرجة لا تتاح معها سوى ثوانٍ معدودة للقرار قبل إطلاق الذخيرة.
أدى برنامج “ليفندر” إلى تكوين قاعدة بيانات ضخمة تضم 37,000 هدف محتمل يُزعم ارتباطه بحماس، فتوالت الهجمات الجوية ليلًا ونهارًا، إلى حد وصفه بـ “أكثر حملة قصف تدميرية في القرن الحادي والعشرين”.
ويوضح أحد الضباط الإسرائيليين هذا الفارق الرقمي قائلًا: “إن ما كان يتطلب في السابق فريقًا من عشرين مخابراتيًا نحو 250 يومًا لإعداد مئتي هدف أصبح بوسع الذكاء الاصطناعي إنجازه في غضون أسبوع واحد”، كما أكّد ضابط في الموساد أنه وجد نفسه يثق في المعدلات الرقمية أكثر من توجيهات زملائه.
لقد كثف الجيش الإسرائيلي انتشاره بطائرات مسيّرة متقدمة للاستطلاع والقصف، ولا سيما طائرات انتحارية استهدفت مخيمات ونقاط تركز المقاومة، ولعل أبرز التطورات التقنية الإسرائيلية كان نشر حساسات فوق طيفية على بعض الطائرات المسيّرة بهدف رصد نفق حماس المشتبه به في شمال غزة، فقد نقلت تقارير عن مطورين إسرائيليين استخدام كاميرات قادرة على التقاط بصمات طيفية غير مرئية، منها انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من أنفاس البشر أو أنشطة الاحتراق داخل الأنفاق.
إضافة إلى ذلك، كشفت مصادر أمريكية أن الولايات المتحدة دعمت العمليات الميدانية في غزة بنشر طائرات مسيّرة فوق القطاع، كما أكّد البنتاغون أن قواته تشغّل “طائرات بدون طيار غير مسلحة فوق غزة لدعم جهود الشريك الإسرائيلي في تحرير الرهائن”.
هذا التحول الرقمي في آلية اتخاذ القرار العسكري لم يكن مجرد تطور تكنولوجي، بل انقلاب مفاهيمي على فكرة “القرار الأخلاقي” في الحروب، كما أشار تقرير صادر عن مركز مكافحة الإرهاب في ويست بوينت، التابع للأكاديمية العسكرية الأمريكية، الذي حذّر من خطورة الاعتماد الزائد على أنظمة لا تراعي السياقات المدنية والاجتماعية للأهداف.
“لافندر”.. آلة الذكاء الاصطناعي التي توجه القصف الإسرائيلي على غزة
حماس وتكتيك أوكرانيا
أما على الجهة المقابلة، فقد استطاعت كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، أن توظّف تكتيكات غير متماثلة بأسلحة منخفضة الكلفة، أبرزها الطائرات المسيّرة الانتحارية التي استخدمت بكثافة ضد أبراج المراقبة ومواقع الرادار، وهو أسلوب مستوحى بوضوح من تجارب الفصائل الأوكرانية ضد الجيش الروسي.
وبحسب خبراء أمريكيين، كانت هذه الطائرات المسيّرة محورًا مبدئيًا رئيسيًا لشن الهجوم الواسع، إذ عملت على “تعمية السمع والبصر” عن طريق تعطيل أجهزة المراقبة وملاحقة الجنود الإسرائيليين.
ولا يقتصر الأمر على المسح الجوي، بل فتح الصراع جبهة معلوماتية وسيبرانية جديدة، فقد سجلت مصادر أمنية إسرائيلية زيادة بنسبة 44% في هجمات القراصنة (الهاكرز) على الشبكات الإسرائيلية منذ بدء الحرب في السابع من أكتوبر 2023، وقد شنّت مجموعات معروفة بتأييدها لحماس هجمات مضادة على المواقع الإسرائيلية وأنظمتها العامة، مستلهمة من تكتيكات الحرب الرقمية في أوكرانيا.
الذكاء الاصطناعي يدخل عصر الروبوتات القاتلة.. تجربة أوكرانيا
ونتيجة لذلك، باتت مهمات الدفاع السيبراني جزءًا أساسيًا من الجبهتين، حيث اضطرت قوات الاحتلال إلى الاعتماد على الذكاء الاصطناعي للتصدي لموجة الهجمات الكثيفة، رغم أن أغلبها كان تقنيًا بسيطًا.
على سبيل المثال، رصدت شركة “كلاودفلير” الأمريكية اختراقًا لتطبيق الهاتف المحمول الإسرائيلي الخاص بالإنذار من الصواريخ، حيث أطلق المهاجمون إنذارات كاذبة بـ”وصول قنبلة نووية” إلى تل أبيب، كما تعرّضت مواقع إعلامية إسرائيلية لموجات من هجمات حجب الخدمة بعد طوفان الأقصى، مما أجبرها أحيانًا على قطع النشر أو التلقي للحيلولة دون نشر أنباء مبكرة.
معادلة “حرب التكاليف”
من جهة المقاومة الفلسطينية، لا توجد دلائل على شن هجمات ضخمة عبر الإنترنت متزامنة مع الهجوم البري؛ ويُذكر أن تحليلًا لشركة غوغل أفاد بأن “المسؤولين لم يرصدوا أي تصعيد في العمليات السيبرانية ضد أهداف إسرائيلية قبل الهجوم، ولا أي دمج لنشاط سيبراني مع العمليات الميدانية لحماس”.
بمعنى آخر، استخدمت حماس وسائلها الإلكترونية أساسًا لأغراض دعائية وإعلامية، ولم تعتمد بعد على هجمات تخريبية واسعة النطاق تمهّد للحرب، على خلاف ما جرى في الصراع الروسي-الأوكراني.
بالمقابل، كان لإيران وحلفائها، حزب الله والحوثيين، دور واضح في الحرب السيبرانية والتقنية، حيث تشير تحليلات غوغل إلى أن نحو 80% من الهجمات السيبرانية ذات الطابع الحكومي التي استهدفت دولة الاحتلال في النصف الأول من 2023 أتت من إيران، ورغم أن هذه الهجمات لم تكن مدمّرة تقنيًا مثل هجمات الدول الكبرى، إلا أن هدفها المعلن كان نشر الخوف والارتباك بين الإسرائيليين، في حين شنّت “إسرائيل” هجمات سيبرانية انتقامية محدودة ضد إيران خلال فترة الحرب.
أما حماس فقد قررت خوض “حرب التكاليف” لا “حرب المعدات”؛ فمن يملك رشقة صاروخ لا تتجاوز كلفتها 600 دولار، يستطيع إجبار منظومة دفاع يكلف صاروخ اعتراضها أكثر من 60 ألف دولار على الإنفاق المستمر، وقد نجحت هذه الاستراتيجية في الضغط على ميزانية القبة الحديدية، من خلال جعلها تخسر المزيد مقابل كل تصدٍّ يحققه.
تجعل هذه المفارقة من غزة اختبارًا عميقًا لتحولات الحروب المستقبلية؛ فكل معطى تقني يُحوّل إلى ورقة ضغط على الخصم، وكل غرفة مراقبة تصبح هدفًا للهجوم السيبراني، وكل طائرة مسيّرة رخيصة تحفر فجوة في جدار التحصينات التقليدية.