يومًا تلو الأخر تتسع رقعة الفتور السياسي، أو هكذا يبدو، بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، وذلك بعد فترة تناغم حميمي وثقتها الكاميرات واللقطات حيث حفاوة الاستقبال التي وجدها الأخير خلال زيارته للبيت الأبيض فبراير/شباط الماضي، بعد شهر واحد فقط من بداية الولاية الثانية للرئيس الأمريكي.
وشهدت الفترة الماضية تزايدًا ملحوظًا لمؤشرات جفاء العلاقة بين الطرفين، هذا الجفاء الذي يبدو أنه تجاوز حاجز أزمة الثقة بين الشخصين إلى ماهو أبعد من ذلك، حيث تبني الولايات المتحدة نهجًا جديدًا في سياستها الخارجية إزاء منطقة الشرق الأوسط، والتحرك بأريحية واستقلالية أكبر في الملفات الإقليمية بعيدًا عن المقاربة الإسرائيلية التي تهيمن عليها رؤية نتنياهو ويمينه المتطرف.
كشفت إذاعة الجيش الإسرائيلي أن مقربين من الرئيس الأمريكي دونالد #ترامب أبلغوا وزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي "رون ديرمر" أن الرئيس #ترامب قرر قطع الاتصال مع رئيس الوزراء بنيامين #نتنياهو. pic.twitter.com/HejrBQMNs8
— الخليج الجديد (@thenewkhalij) May 9, 2025
بل وصل الأمر إلى قطع ترامب الاتصالات مع نتنياهو بعد اقتناعه بأنه “يتلاعب به” وفق وصف صحيفة “يسرائيل هيوم” العبرية التي أشارت إلى أن العلاقة الشخصية بين الطرفين وصلت إلى أدنى مستوياتها، وأن ترامب يشعر بخيبة أمل متزايدة من رئيس الوزراء الإسرائيلي، بحسب مصادر مقربة منه.
وهنا تساؤل يفرض نفسه: ماذا يُفهم من هذا التوتر المتصاعد بين الرئيس الأمريكي ورئيس حكومة الاحتلال؟ هل يمكن قراءته في سياق الخلاف الشخصي المؤقت جراء تباين الأجندات والمصالح، أم في سياق أكبر وأشمل يتعلق بتحول استراتيجي عميق في العلاقة الأمريكية الإسرائيلية من الممكن أن ينسحب على الملفات الإقليمية الحساسة؟
أمريكا تغرد منفردة
شهد الشهر الأخير تحديدًا تحركات أمريكية مستقلة نسبيًا عن مسار حكومة نتنياهو إزاء الملفات الملتهبة في الشرق الأوسط والتي تتقاطع مع المصالح الإسرائيلية وتشتبك معها من المسافة صفر تقريبًا:
أولًا: الملف الإيراني.. حيث فوجئ الإسرائيليون بانطلاق مباحثات غير مباشرة بين الإدارة الأمريكية وطهران، بوساطة عُمانية، تضمنت 3 جولات كاملة، بين مسقط وروما، مع الحديث عن جولة رابعة، وسط تفاؤل بشأن ما يمكن أن تٌسفر عنه تلك المباحثات من التوصل إلى اتفاق ثنائي يبرد التوتر بين البلدين ومن شأنه إجهاض المساعي الإسرائيلية للتصعيد مع إيران واستهداف منشآتها النووية عسكريًا.
ثانيًا: ملف غزة.. فلأول مرة في التاريخ تٌجري الإدارة الأمريكية مباحثات مباشرة مع قيادات حركة حماس على طاولة واحدة وجها لوجه، في محاولة للتوصل إلى اتفاق تهدئة يُفضي بحلحلة الأزمة في القطاع وإطلاق سراح الأسرى وإدخال المساعدات، وهو ما مثل صدمة كبيرة لحكومة نتنياهو والأوساط الإسرائيلية بصفة عامة.
بل وتحاول إدارة ترامب التغريد بعيدًا عن المقاربة الإسرائيلية بشأن الحصار المفروض على قطاع غزة، حيث أعلنت وزارة الخارجية الأميركية أن “حلًا لإيصال المساعدات إلى غزة بات وشيكًا”، من خلال الحديث عن إنشاء أربع نقاط توزيع تستوعب كل منها 300 ألف شخص، حتى وإن كان هذا التحرك منضبطًا نسبيًا بالرؤية الإسرائيلية وشروطها الصارمة لكنها خطوة عكس عقارب ساعة اليمين المتطرف، هذا بخلاف ما يثار بشأن احتمالية أن تٌطرح مسألة حل الدولتين على طاولة ترامب خلال جولته الخليجية وإن كانت أنباء غير مؤكدة لكنها تحمل الكثير من الرمزيات والدلالات.
ثالثًا: الملف اليمني مع الحوثيين.. رغم تصنيفها كمنظمة إرهابية إلا أن الأمريكان لم يجدوا حرجًا على الإطلاق في التفاوض مع الحوثي بشكل فردي، والتوصل إلى اتفاق أولي بشأن التهدئة، يتضمن وقف استهداف السفن الأمريكية في البحر الأحمر مقابل وقف القصف الأمريكي المتكرر ضد اليمن.
وجاء إعلان ترامب عن هذا الاتفاق -غير الرسمي- تزامنًا مع الضربة الإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت ميناء الحديدة وبعض المرافق العامة في اليمن، وهو ما اعتبر رسالة مباشرة بالانسحاب الأمريكي من هذا الملف وإلقاءه بشكل كامل في الملعب الإسرائيلي يتصرف فيه كيفما شاء، في ظل تأكيد الحركة أن الاتفاق يتعلق بالجانب الأمريكي فقط، ما يعني أن السفن الإسرائيلية والداخل الإسرائيلي أهدافا مشروعة في مرمى الصواريخ والمسيرات الحوثية حتى وقف الحرب في غزة، كما جاء على لسان المتحدث باسم الحوثي.
مبالغة في الأوساط العبرية
قوبل هذا التغريد الأمريكي المستقل نسبيًا عن حكومة الاحتلال بمبالغة شديدة التطرف لدى الوسط الإسرائيلي الذي ذهب إلى منطقة نائية من القطيعة بين ترامب ونتنياهو، وصلت إلى مستويات غير معتادة ولا مألوفة، حيث شبّه بعضهم تعامل ترامب مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بتعامله مع الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي.
فيما خرجت الكثير من التقارير والمقالات التي زخرت بها وسائل الإعلام الإسرائيلية تتحدث عن توتر العلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة وانهيارها بشكل يهدد مستقبل الكيان الذي يشكك تيار ليس بالقليل في الداخل الإسرائيلي من قدرته على الصمود في وجه الضغوط الدولية والتحديات الإقليمية منفردًا بمعزل عن الدعم الأمريكي الذي يشكل حجر الزاوية الأهم في بقاء “إسرائيل”.
المحلل السياسي الإسرائيلي يوسي فيرتر تساءل في مقال نشرته صحيفة “هآرتس” عن مآلات هذا التوتر بين ترامب ونتنياهو، متسائلًا: هل انتهى شهر العسل مبكرًا بين الطرفين؟ معتبرًا أن رئيس الحكومة الإسرائيلية وجد نفسه مؤخرًا في مأزق سياسي كبير، بسب الفتور الذي لاقاه من الرئيس الأمريكي والتسريبات التي تخرج بين الحين والآخر والتي تكشف قطع العلاقات معه وعدم رغبة ترامب في الاتصال به مجددًا.
واستعرض فيرتر العديد من المؤشرات التي تؤكد عمق الخلاف بينهما رغم العلاقات الشخصية الجيدة التي كانت تخيم على المشهد إذ كان نتنياهو أول زعيم أجنبي يدعوه ترامب إلى البيت الأبيض، ولكن تبين أن هذا “الشرف العظيم” لم يكن سوى طُعم ودعاية تسويقية، بحسب تعبير المحلل الإسرائيلي الذي وصف إعلان أمريكا عن وشك إجراء محادثات نووية مع طهران وإشادة ترامب بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأنها ضربة مزدوجة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي.
كما طالب فيرتر بعدم الاستخفاف بخطوة إقالة ترامب لمستشار الأمن القومي الأميركي مايكل والتز، والتي تسببت فيها محادثاته السرية مع نتنياهو، الذي ضغط من أجل القيام بعمل عسكري في إيران، والتي كشفتها صحيفة “واشنطن بوست”، حيث قرأها في سياق الغضب الترامي المتصاعد من نتنياهو وحكومته وسياساته الأخيرة.
أخيرًا، وبرأي الكاتب فإن شهر العسل بين نتنياهو والرئيس الأميركي قد انتهى قبل الموعد المتوقع، إذ وصل ترامب إلى البيت الأبيض في ولايته الثانية وهو يضمر استياء عميقا تجاه رئيس الحكومة الإسرائيلية، لافتا أنه حتى في ولاية ترامب الأولى، فقد اكتشف أن نتنياهو كان يكذب عليه ويتلاعب به وينسب الفضل إليه، وهو ما ظل يحتفظ به سرًا حتى أعاد رئيس الوزراء الإسرائيلي أسلوبه المعتاد مجددًا لتصل الأمور إلى ما وصلت إليه حاليًا.
برغماتية ترامبية.. أمريكا أولا
في حملته الانتخابية أواخر العام الماضي أطلق ترامب قائمة مطولة من الوعود التي حاول من خلالها تصدير صورة مشرقة لولايته الجديدة، مروجًا لشخصية “رجل السلام الإصلاحي” و “حامي حمى العالم” والذي بيده مفاتيح إنهاء كافة الصراعات الدولية، فتعهد بوقف الحرب في غزة، وإنهاء المعركة بين روسيا وأوكرانيا، ووضع حد جذري للأزمة مع إيران، وإنعاش خزائن بلاده بحركة تجارة عالمية تصب في صالح الاقتصاد الأمريكي والعمل على تعزيز شعاره الشعبوي “أمريكا أولًا”.
غير أنه وبعد خمسة أشهر من ولايته لم ينجح في تحقيق أي من تلك الوعود، إذ كانت إدارة حكومة الاحتلال العقبة الأبرز أمام هذا المسار، فكانت السبب في إطالة أمد الحرب في غزة وزيادة توتير الأجواء مع طهران، وتصاعد التوترات في البحر الأحمر، مما أظهر الرئيس الأمريكي في صورة الرجل الضعيف، غير القادر على ترجمة ما يقوله، والعاجز عن تنفيذ ما تعهد به.
ثم زاد الوضع تأزمًا بعد تأجيج صراع النفوذ مع الصين وإشعال فتيل الحرب الاقتصادية عبر سلاح الرسوم الجمركية التي أشهرها في وجه الجميع، الحلفاء قبل الخصوم، وهو ما أدى في النهاية إلى رسم صورة مشوهة عن الولايات المتحدة وتحميل الإدارة الحاكمة مسؤولية الإضرار بالسمعة الخارجية لأمريكا وتعريض مصالحها للخطر، خاصة بعد الانصياع التام للرؤية الإسرائيلية وأهواء نتنياهو واليمين المتطرف.
قال نائب الرئيس الأمريكي "جي دي فانس" إن واشنطن تعتقد أن هناك اتفاقاً من شأنه إعادة دمج #إيران في الاقتصاد العالمي. مضيفاً: "المحادثات مع #طهران جيدة وكنا سعداء بردها على بعض نقاطنا". pic.twitter.com/rd3PjKrr5G
— الخليج الجديد (@thenewkhalij) May 7, 2025
ومن هنا وجد ترامب في نتنياهو عبئًا ثقيلا عليه، وحلقة مترهلة في عجلة التنمية والرخاء والنهوض التي يزعم قيادتها للوصول بشعاره “أمريكا أولا” إلى واقع عملي ومنهج حياة، وعليه كان لابد من الخروج تدريجيًا من تلك العباءة والتحرك بشكل منفرد في الملفات الحساسة التي تهدد سمعة أمريكا وتقوض ثقل وصورة الإدارة الأمريكية.
ومن هذا المنطق يمكن القول إن التوجه الأخير في إدارة ترامب للمشهد الشرق أوسطي تحديدًا والملفات الملتهبة التي يشهدها تعكس رغبة أمريكية واضحة ومعلنة في الانتقال من استراتيجية الشراكات الثابتة التي في الغالب تضع مقاربات الاحتلال في المقدمة، إلى الاستراتيجية البرغماتية العملية التي تنتصر للمصالح الأمريكية أولا بصرف النظر عن أي اعتبارات أو حساسيات إسرائيلية.
خلاف لا طلاق
التضخيم من حجم الخلاف بين ترامب ونتنياهو وتداعياته على العلاقة بين بلديهما في ضوء خطاب المبالغة العبري المنتشر مؤخرًا، لا يعدو كونه دربًا من التهويل الذي يستهدف الضغط على كلا الطرفين، على نتنياهو لإعادة النظر في مقارباته وسياساته بما لا يغرد بعيدًا عن الرؤية الأمريكية لصالح أهداف شخصية، وعلى ترامب لضبط وتلجيم الخروج التدريجي من العباءة الإسرائيلية ووضع مصالح الكيان العبري نصب الأعين في أي تحرك إزاء أي مسار كان بصرف النظر عن الموقف الشخصي من سياسة وإدارة رئيس الحكومة العبرية.
ويبدو أن التاريخ يعيد نفسه، فذات الأصوات هي نفسها التي خُدعت في قراءتها لمقاربة القطيعة التي حكمت العلاقة بين نتنياهو وإدارة الرئيس الأميركي السابق، جو بايدن، وبنت على أنقاضها عشرات السيناريوهات حول توتر العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، ليفاجأ الجميع بدعم غير مسبوق قدمته الإدارة الديمقراطية للمحتل خلال حرب الإبادة ضد غزة وأهلها.
وعليه فالعلاقة بين واشنطن وتل أبيب لا يمكن المراهنة بشأن مستقبلها، فهي علاقات استثنائية، ذات بنية مختلفة، قائمة على مصالح متلاحمة، وأهداف تتجاوز -بسنوات ضوئية- النظرة السياسة والاقتصادية والأمنية المحدودة، أما بشأن الخلاف الحالي فهو أقرب لتباين في الرؤى حول بوصلة تحقيق الأهداف، لا في الأهداف ذاتها، أزمة ثقة في المقام الأول، بالأدق تآكل لبعض جدرانها، خلاف لن يصل أبدًا إلى الطلاق، عمقته الطبيعة النرجسية لكلا الشخصيتين، فكل طرف يحاول تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب التي تخدم مصالحه الشخصية أولا، وهنا مكمن الخلاف، الأضعف من البناء عليه استراتيجيًا.