ترجمة وتحرير: نون بوست
لمدة ثلاث سنوات، تشاركتُ منزلًا مع أحد الناجين من غيتو وارسو، وكان منزلًا فلسطينيًا قديمًا جميلًا في غرب القدس، استولى عليه الإسرائيليون في نكبة عام 1948، وقُسِّم إلى قسمين.
كنتُ أسكن في القسم الأمامي، وكان هو يسكن في القسم الخلفي، وكان ينتظرني كل يوم في الحديقة المشتركة بين جانبي المنزل، ويروي لي قصصًا عن الغيتو، وعن مشاهد الدمار، وكيف استطاع تهريب الطعام لعائلته.
أجلس اليوم في غرفته؛ حيث قضى أيامه الأخيرة، وأكتب هذه السطور في تقريري الإخباري، وصور المجاعة المروعة في غزة تتراءى أمام عيني.
اضطر جاري السابق إلى إخفاء هويته اليهودية، وتظاهر بأنه أيرلندي ليحصل على الطعام لعائلته.
ولكن هذا لم يمنعه من الشعور بالذنب. قال لي: “كانت فكرة الجوع والوباء في الغيتو تطاردني ولا تفارقني، بينما كنت أقضي أيامي محاطًا بالعشب الأخضر والسماء الزرقاء”.
مليوني إنسان يتضورون جوعًا
كان لديه حساسية تجاه قضية الطعام، وكان عليّ أن أتعلم بالطريقة الصعبة كيفية التعامل معها.
ذات مرة، ارتكبتُ خطأً عندما أحضرتُ لزوجته، التي كانت أيضًا من الناجين من المحرقة، رغيفًا من خبز خاص طلبته من القدس الشرقية المحتلة. غضب جاري جدًا: “هل تعتقدين أننا لا نستطيع إطعام أنفسنا؟”.
كان لا يزال يحمل جراحًا من الجوع والمجاعة من الغيتو، وكانت لا تزال تؤلمه بعد عقود من الزمن، وتعلمتُ أن أكون حساسةً معه بشأن مسألة الطعام.
لم يكن الأمر جديدًا عليّ؛ فبصفتي ابنة لاثنين من الناجين من النكبة، كنت أعرف أن الطعام يعد مشكلة في عائلتي. فرغم أنه كان لدينا ما يكفي من الطعام في المنزل، كانت أمي تطرح السؤال نفسه كل يوم: “هل كان هناك ما يكفي من الطعام في القدر؟” كانت تحاول التأكد من الجميع قد أكلوا.
كانت أيضًا تأكل بقايا أرغفة الخبز التي جفّت لضمان حصول أطفالها على الأرغفة الطازجة.
ولكن لا شيء مما حدث في الماضي يقارن بما يحدث اليوم في غزة، ويشهد والدي الذي عاصر كلا الحقبتين على ذلك.
يقول والدي إنه على الرغم من أن الفلسطينيين عانوا من الحرب ونقص الغذاء في نكبة عام 1948، إلا أن الأمر لم يصل إلى هذا المستوى، فكما يقول: “كنا على الأقل نحصل على القمح ونصنع الخبز. لا شيء يقارن بالوضع في غزة”.
في غزة اليوم، لا يمكن للمال أن يشتري القمح؛ حتى القمح المخلوط بالرمل والحشرات لم يعد متوفرًا، والعالم يشاهد مليوني إنسان يتضورون جوعًا.
تفرض إسرائيل حصارًا شاملًا على قطاع غزة منذ أكثر من شهرين،. وتمنع دخول جميع المواد الغذائية والإمدادات الإنسانية.
وفي 16 نيسان/ أبريل، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس أنه لن يتم استئناف إدخال المواد الغذائية والمساعدات إلى القطاع، معترفاً بذلك بأن إسرائيل تستخدم التجويع كأسلوب من أساليب الحرب.
إن مشاهد الأطفال والرضع وعظامهم تبرز من جلودهم وهم يموتون من الجوع لم تدفع أي سياسي للإدلاء بتصريح أو الدعوة للسماح بإدخال المساعدات إلى غزة.
في الواقع، يحدث العكس. فكلما ازدادت مقاومة الفلسطينيين بإظهار إصرارهم على البقاء وعدم الرحيل من أرضهم، كلما ازدادت الدعوات من الوزراء في الحكومة الإسرائيلية جنونًا وتطرفًا.
خطاب تحريضي
دعا وزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو يوم الإثنين إلى قصف مخازن الغذاء في غزة، في أحدث تصريح تحريضي إسرائيلي ضد غزة التي تتعرض لإبادة إسرائيلية مستمرة.
وقال: “يجب أن يموتوا جوعًا. إذا كان هناك مدنيون يخشون على حياتهم، فعليهم أن يخضعوا لخطة الهجرة”.
ودعا وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، إلى قصف مخازن الأغذية في غزة. وقالت أيليت شاكيد، وزيرة العدل السابقة: “وقف المساعدات الإنسانية وحصار غزة، هذا ما يجلب النصر”.
إن المجتمع الدولي يقف متفرجًا على ما يحدث وكأنه ليس شيئًا خارجًا عن المألوف.
قال عبد الله قورة، 40 عامًا، وهو أرمل وأب لثلاثة أطفال، ومن سكان مدينة خان يونس: “أطفالي يتوسلون إليّ كي أحضر لهم اللحم أو البيض، وأضطر إلى إخبارهم بأنه لا يوجد شيء وأنني لا أستطيع ذلك. ما الجريمة التي ارتكبها أطفالي؟ لماذا يستحقون الموت جوعًا؟ إن الجوع الذي فُرض علينا الآن مؤلم للغاية”.
أخبرني أحمد ديرملي، وهو صحفي يعمل في ميدل إيست آي، أنه لم يجد ليمونة تخفف عنه الألم الذي يعاني منه في حلقه لأسابيع.
وقال: “نحن دائمًا مرضى ونشرب الماء المالح ونمشي كالأشباح. الأمر ليس سهلاً، خاصة مع الأطفال. يسألونني عن طعم التفاح أو الطماطم أو البطيخ”.
صبي صغير يمسك بعلبة فاصوليا. لا يريد أن يتركها، لأنه يعلم أنه مهما حدث، فهي وسيلة تأمينه.
تجاوز الحدود
ماذا بقي اليوم من الدولة التي بنيت على ذكرى الهولوكوست، على صور الأطفال الجوعى في الغيتوهات اليهودية التي أُجبر جميع مواطني إسرائيل على رؤيتها منذ طفولتهم؟
السياسيون الإسرائيليون يصطفون للحث على استمرار التجويع والموت.
المستوطنون يتلفون أكياس القمح في شاحنات تنتظر على الحدود منذ شهرين، والجنود يطلقون النار على مجموعة من الفلسطينيين الذين يحاولون الحصول على كيس قمح – صورة الدم الممزوج بالقمح الأبيض لا زالت على هاتفي.
الرأي العام في إسرائيل غافل عن مصير الناس الذين يعيشون بجوارهم، المطاعم ممتلئة على بعد ساعة بالسيارة من غزة.
هناك مقولة شهيرة منسوبة إلى الفيلسوف البريطاني الأيرلندي الذي عاش في القرن الثامن عشر إدموند بيرك، والتي أصبحت راسخة في الوعي الإسرائيلي حول الهولوكوست، على الرغم من أنه من غير المرجح أن يكون بيرك قد استخدم الكلمات الفعلية المنسوبة إليه.
يعرف كل إسرائيلي هذه الجملة، ومثلها مثل عبارة “لن يتكرر هذا أبدًا”، فإنها تتكرر بلا انقطاع، خاصة في اليوم الذي شهد ذكرى المحرقة قبل أسبوعين. المقولة هي: “كل ما يتطلبه الأمر لكي ينتصر الشر هو ألا يفعل الأخيار شيئًا”.
طوال مسيرتي المهنية كصحفية، تجنبتُ بحرص عقد مقارنة بين الهولوكوست والنكبة، ولكنني وجدت أنه من المستحيل أن أتجنب مشاهد الأطفال الذين تظهر عظامهم بارزة تحت جلدهم.
لم أكن أتخيل أبدًا أن اليهود الذين عانى أجدادهم من آلام الهولوكوست يمكن أن يتجاوزوا هذا الخط، خط يتاجر بجوهر إنسانيتهم.
أتساءل ما الذي كان سيقوله الناجي من الهولوكوست الذي سكنت بجواره في المنزل الآن، إذا كان لا يزال على قيد الحياة.
المصدر: ميدل إيست آي