بدأت ملامح أزمة مائية خطيرة تتكشف في العاصمة السورية دمشق، التي تقف اليوم على حافة كارثة غير مسبوقة مع حلول فصل الصيف، فقد تراجعت غزارة نبع الفيجة — المصدر الرئيسي لمياه الشرب في المدينة وريفها — بشكل مقلق، بالتزامن مع انخفاض كبير في معدلات الهطول المطري مما ينذر بعواقب وخيمة على حياة الملايين ويهدد استقرار العاصمة.
دمشق، التي لطالما عُرفت بأنها “هبة نهر بردى”، تجد نفسها محاصرة بأزمة وجودية. وهنا تطرح أسئلة جوهرية: هل ما نشهده اليوم أزمة طارئة سببها الجفاف والتغير المناخي، أم أنه نتاج عقود من الإهمال، وسوء التخطيط، والسياسات المائية المرتبكة؟ ومع تصاعد حدة الأزمة، ما الإجراءات العاجلة التي يجب اتخاذها لتفادي الوصول إلى مرحلة “الفقر المائي”؟
تراجع حاد في نبع الفيجة
تُعد مدينة دمشق وغوطتها من المناطق التي تعتمد مائيًا على مصدرين رئيسيين: نبع الفيجة ونهر بردى، وينبع الفيجة من سفح جبل القلعة في بلدة عين الفيجة، الواقعة على بُعد نحو 12 كيلومترًا غرب دمشق، وعلى ارتفاع يبلغ حوالي 890 مترًا فوق سطح البحر، حيث يحيط بالنبع جبال مرتفعة، منها جبل الهوّات شرقًا، جبل القلعة شمالًا، وجبل القبلية جنوبًا.
أما بردى النابع من سهل الزبداني والراوي لدمشق وسهل الغوطة المحيط به بما يرفده من وديان وينابيع أهمها وأكبرها عين الفيجة، فيقع على بعد 40 كيلو مترًا من دمشق، ويتجه في مساره من الغرب إلى الشرق بطول 65 كيلو مترًا.
ويضم في منطقة حوض دمشق وريفها (بردى والأعوج) نحو 23% من سكان سورية، يستهلكون ما يقارب 6% فقط من إجمالي الاستخدامات المائية في سورية، فيما يبلغ المتوسط السنوي لقيمة الموارد المائية الطبيعية في الحوضين نحو 881 مليون م 3/السنة، وهو ما ينعكس على كميات المياه.
مع نهاية شهر أبريل/ نيسان الماضي، أعلنت المؤسسة العامة لمياه الشرب رفع حالة الطوارئ في دمشق بسبب شح الموارد المائية لهذا العام، بعد تراجع الهطولات المطرية إلى أقل من 30% من المعدل السنوي، في أدنى مستوى تشهده المدينة منذ عام 1958.
وأكدت المؤسسة أن ضعف غزارة نبع الفيجة واستنزاف الآبار الاحتياطية باتا يهددان بإمدادات مائية ضعيفة خلال الصيف المقبل، مما ينذر بزيادة ساعات التقنين في دمشق والريف القريب.
وشددت المؤسسة على تطبيق غرامات مالية بحق المخالفين لاستخدامات المياه غير الضرورية، وفق المادة 32 من نظام الاستثمار الموحد الصادر بالقرار رقم 3107 لعام 2015، وتتراوح الغرامات بين 25 ألف ليرة لاستخدام مياه الشرب لغير أغراض الشرب، و200 ألف ليرة لاستخدامها في المسابح الخاصة، مع مضاعفة العقوبات عند التكرار.
كما اتخذت المؤسسة بعض الإجراءات الطارئة، إذ أوضحت في منشور على فيسبوك، أنه انطلاقاً من الحرص على استمرار وصول المياه لنحو 1.2 مليون مشترك في دمشق وريفها، في ظل شح الموارد المائية لهذا العام، وانخفاض الهطولات المطرية، وارتفاع الطلب على المياه، سيتم اتخاذ بعض الإجراءات الطارئة وتعديل برنامج التزويد لمدينة دمشق وريفها المحيطي المستفيد من شبكة مياه دمشق حسب التضاريس، والتوزع الجغرافي لكل منطقة.
في حديثه لـ”نون بوست”، فصّل أحمد درويش، مدير المؤسسة العامة لمياه الشرب في محافظتي دمشق وريفها، خطة طوارئ المؤسسة والتي شملت:
- إعادة تأهيل أكبر عدد ممكن من الآبار والمصادر المائية ليتم وضعها بالخدمة من أجل تعويض النقص
- صيانة شبكات نقل وتوزيع المياه، وإعادة توزيع أدوار التزويد بالمياه مع تطبيق التقنين
- وضع خطة توعية لترشيد استهلاك المياه
- تفعيل عمل الضابطة المائية وإزالة التعديات على شبكات مياه الشرب
وحسب درويش فإن المؤسسة تقوم بتنفيذ الإصلاحات اللازمة للمرافق الصحية لبعض المدارس (تركيب حنفيات وخزانات)، إضافة لتوزيع الملصقات والبروشورات التي تهدف للتوعية بأهمية ترشيد استخدام المياه.
وأشار إلى أن الضابطة المائية تجري عدة حملات لقمع المخالفات وقطع خطوط السرقات بما يضمن حقوق المشتركين ويمنع الهدر، حيث يوجد لدى مؤسسة مياه دمشق ٤٢ ضابطة موزعة على مدينة دمشق وكافة الوحدات الاقتصادية بريف دمشق تقوم بمهام الكشف الدوري على خطوط مياه الشرب وضبط المخالفات وقمع التعديات وتنظيم الضبوط اللازمة بحق المخالفين.
بدوره، يرى أحمد حج أسعد باحث في الشؤون المائية، أن الجفاف الذي ضرب المنطقة خلال العام الحالي كان له أثر بالغ في انخفاض تدفق مياه عين الفيجة، مما أدى بدوره إلى تراجع كميات المياه الواردة إلى مدينة دمشق.
ولا يُعد الجفاف السبب الوحيد للمشكلة، فحسب حديث الباحث أسعد لـ”نون بوست”، أن المنطقة بطبيعتها معرّضة لحالات جفاف دورية. إلا أن الأخطر من ذلك يتمثل في سوء إدارة الموارد المائية، وضعف تطبيق القوانين الناظمة لها، إلى جانب غياب الحسّ بالمسؤولية الاجتماعية.
الجفاف أصل المشكلة
تغيرُ المناخ وأنماط الطقس التي صار من الصعب التنبؤ بها ساهما في تصاعد ظاهرة الجفاف، فالدراسات العلمية تشير إلى أن موجات الجفاف التي تمر بها سوريا لم تكن لتحدث لولا ظاهرة التغير المناخي، ومن المتوقع أن يستمر هذا الوضع أو حتى يتفاقم في المستقبل.
تبيّن إحدى الدراسات العلمية أن احتمال وقوع الجفاف في المنطقة كان قبل ظاهرة التغير المناخي مرة كل 250 سنة، ويزداد ليصبح مرة كل عشر سنوات عند ازدياد الحرارة 1.2 درجة مئوية، وقد يصبح احتمال حدوث الجفاف مرة كل خمس سنوات عند وصول ازدياد الحرارة إلى 2 درجة مئوية.
ويوجد عاملان يؤثران على حدوث الجفاف وهما انخفاض الهطولات المطرية وزيادة التبخر. ورغم وجود تغير طفيف في كمية الهطولات المطرية وغزارتها، لكن هناك زيادة ملحوظة في ارتفاع درجة الحرارة، مما يزيد من معدل تبخر المياه، ويؤدي إلى جفاف التربة، وانخفاض مستوى المياه الجوفية، والتقلص المستمر للمسطحات المائية في الأنهار والبحيرات والسدود.
منذ عام 2020، تعاني سوريا من الجفاف الذي بات ظاهرة شبه سنوية، إذ يلاحظ الانخفاض الحاد في معدلات الهطولات المطرية والارتفاع الاستثنائي في درجات الحرارة، ما أثر بشكل خطير على القطاع الزراعي، وقلل من توفر مياه الشرب، وتسبب في تناقص ملحوظ في الأحواض المائية.
ومما زاد في هذا التدهور المائي والهدر الكبير ضعف البنية التحتية وخراب وترهل شبكات الري وخطوط نقل المياه، وغياب الصيانة الدورية ليس فقط في العاصمة وإنما في عموم البلاد.
وأظهر تقرير أصدرته شبكة “زوي” للبيئة، مطلع العام الجاري، أن الجفاف في سوريا يمتد نحو مناطق كانت تشهد عمومًا درجات حرارة معتدلة، وتوقّع أن تزيد درجات الحرارة في دمشق بمقدار 5 درجات مئوية بحلول عام 2070، مما يفقد المدينة طقسها المعتدل المعروفة به.
بالمقابل تشير توقعات الأمن المائي لعام 2050 أن نصيب الفرد من الموارد المائية السورية المتجددة سيبلغ نحو 454 متر مكعب كحد أدنى و667 كحد أقصى.
أما توقعات الإسكوا فكانت أكثر تفاؤلاً، مقدرةً نصيب الفرد السنوي بـ 732 متر مكعب عام 2025، سيتناقص إلى 600 متر مكعب سنوياً بحلول عام 2050.
دمشق تقترب من القدر الحتمي
يشهد نبع الفيجة خلال موسم الأمطار الجيدة فيضانات تسمح بحصول دمشق وريفها على كميات كبيرة من المياه، لكن مع غياب الفيضان هذا العام جرى استجرار المياه من أحواض بديلة تشمل نهر بردى، ووادي مروان، ونبع حاروش، ومنطقة جديدة يابوس، وهو أمر غير معتاد واستثنائي.
ومما زاد في الكارثة تفاقماً وجود 150 مضخة مياه بدمشق بحاجة لإصلاح، بعضها في دير مقرّن وأخرى في مناطق محيطة بنبع الفيجة، كما توجد آبار متوقفة في مناطق متفرقة.
عمليات التقنين الصارم ازدادت في دمشق ليصبح ضخ المياه من 2 إلى 4 ساعات في اليوم في بعض المناطق، في حين تلجأ أغلب المناطق إلى تعبئة المياه عبر الصهاريج، والتي تجاوزت 35 ألف ليرة سورية (3.5 دولار) للخزان الواحد سعة 5 براميل، الأمر الذي أدى لأعباء إضافية على سكان تلك المناطق.
بالمقابل ترتفع الأصوات إلى ضرورة دق ناقوس الخطر المائي، والبدء بترشيد استخدام المياه والذي يخفف من استنزاف حوضي دمشق، إذ يرى الباحث أسعد أن تعزيز حسّ المسؤولية الاجتماعية في التعامل مع المياه أمر بالغ الأهمية، لا سيما لدى المستخدمين في القطاعات المختلفة (السياحي، الصناعي، الزراعي، المنزلي والبلديات)، بهدف الحد من استنزاف هذه الموارد وضمان استخدامها بشكل عقلاني ومستدام.
ويشير الباحث أسعد، إلى أن المخططين في المجالات الإقليمية والبلدية هم من يتحمل المسؤولية، إلى جانب ضرورة كبح التوسع العمراني غير المنضبط، والذي لا يأخذ في الاعتبار القدرة المائية المتاحة لتلبية احتياجات السكان. بمعنى آخر، ينبغي أن يرتبط التوسع الحضري بشكل مباشر بكمية المياه القابلة للتأمين.
مضيفاً إن الأمن المائي لمدينة دمشق يرتبط بشكل وثيق بكفاءة إدارتها للمياه المتاحة، مع ضرورة أخذ التغيرات المناخية بعين الاعتبار في كل السياسات والخطط المستقبلية.
معالجة المشكلة
لعل الحلول باتت معروفة خاصة في ظل انتشار الكثير من الدراسات التي تناولتها بشكل تفصيلي، لكن العائق الأبرز يكمن في خزينة الدولة شبه الفارغة من الأصول المالية التي تمكّنها في البدء بهذه الإجراءات.
وحسب خبراء فإنه يجب في البداية تحديث شبكات وخطوط نقل المياه، إضافة إلى إلغاء الطرق التقليدية في عمليات ري الأراضي، وذلك عبر الاعتماد على التنقيط والرش، إضافة إلى ضبط استنزاف المياه الجوفية وتنظيم حفر الآبار العشوائي.
والأهم تكثيف حملات التوعية والتثقيف لترشيد استهلاك المياه على مستوى الأفراد والقطاعات، وربطها بتشريعات وقوانين ملزمة تحافظ على المياه ومصادرها.
ويشير أحمد درويش، مدير المؤسسة العامة لمياه الشرب في محافظتي دمشق وريفها إلى أن المؤسسة تقوم بشكل دوري بإطلاق عدة برامج توعوية للمستهلك بهدف ترشيد الاستهلاك انطلاقاً من أهمية المياه باعتبارها أساس الحياة، وضرورة تنمية الموارد المائية التي أصبحت مطلبًا حيويًا لضمان التنمية المستدامة في كافة المجالات الصناعية والسياحية والزراعية وذلك عن طريق العمل على تغيير الأنماط والعادات الاستهلاكية اليومية.
حسب دراسة أعدتها الوكالة اليابانية للتعاون الدولي (جايكا) عام 2008 لصالح وزارة التعمير والإسكان (وزارة الأشغال العامة والإسكان منذ العام 2016) فإن سوريا لا تفتقر إلى تشريعات تعطي أولوية قصوى لحماية المياه والبيئة، بل ما يعيب هذه التشريعات هو صرامتها الشديدة وعدم مراعاتها لاختلاف المشاكل البيئية بين منطقة وأخرى ربطاً بواقع التلوث.
مضيفة أن الممارسة الفعلية لمضامينها ضعيفة جداً، وتكاد تنعدم أحياناً في ظل عدم امتلاك سوريا للأجهزة أو الكفاءة أو القدرة على التحقق من تطبيقها بسبب ارتفاع التكاليف والافتقار إلى موارد بشرية مؤهلة للتعامل معها.
ويقول درويش إن من أولويات المؤسسة في خططها المستقبلية التغلب على مشكلة توفر حوامل الطاقة اللازمة لتشغيل مشاريع المؤسسة وذلك يشمل (تركيب مراكز تحويل المصادر المائية- تأمين خطوط معفاة من التقنين- تركيب منظومات طاقة شمسية لتشغيل الآبار) سواء عن طريق موازنة المؤسسة أو بالتعاون مع المنظمات المانحة أو المجتمع المحلي.
وأضاف أن العمل جارٍ على استكمال تنفيذ المشاريع المدرجة ضمن خطة المؤسسة لعام 2025 وفي مقدمتها مشروع تنفيذ خطوط التغذية والإسالة لخزان تل المصطبة الاستراتيجي سعة / 100000 م 3 / ليتم وضعه بالخدمة قريباً، بما يسهم في تحسين التغذية المانية لعدة مناطق، كصحنايا – أشرفية صحنايا – ضاحية 8 آذار – بناية الكويتي – مدينة الكسوة – خان دنون – خيارة دنون.
من جهته، يرى الباحث أسعد، أن الدولة السورية كانت سبّاقة في وضع تشريعات لحماية الوارد المائية منذ عام 1948، وظلّت هذه القوانين تُعدَّل وتُطوّر من قبل مشرعين ومختصين بالشأن المائي بما يتماشى مع التغيرات الحاصلة.
مستدركاً حديثه بالقول، “لكن ما يُطرح هنا الآن هو ضعف تنفيذ أي من تلك القوانين على أرض الواقع، لأسباب كثيرة، في الوقت الذي تزداد فيه الحاجة الملحّة لتفعيل دور الضابطة المائية في الرقابة وحماية الموارد المائية”.
ختاماً.. أمام هذا الواقع المائي المتردي، يبدو أن المشهد في دمشق سيكون قاتماً، بانتظار سياسات حكومية أكثر نجاعة تدير الموارد المائية، وتتوقف عن الحلول الإسعافية، فما تعيشه دمشق اليوم لن يكون مجرد أزمة موسمية، وإنما إنذار مبكر لسنوات قادمة أشد قسوة ستبقى معه رهينة الأزمات والتقنين اليومي