أثار إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أمس الأحد، عن استعادة رفات جندي إسرائيلي قُتل خلال اجتياح لبنان عام 1982، في عملية نُفذت داخل الأراضي السورية، جدلًا سياسيًا واسعًا، وسط اتهامات وُجّهت إلى الحكومة السورية الجديدة بالتعاون مع تل أبيب، غير أن غياب أي تفاصيل رسمية حول توقيت العملية أو طبيعتها، وعدم الإشارة إلى أي تنسيق مع دمشق، أثار شكوكًا حول صحة هذه الاتهامات.
وتشير الوقائع السابقة إلى أن مثل هذه العمليات نُفذت في عهد النظام السابق، وتحديدًا خلال عامي 2019 و2021، حين تولت روسيا دور الوسيط وساعدت إسرائيل في استعادة رفات جنودها من مناطق قرب دمشق، مستفيدة من نفوذها العسكري داخل الأراضي السورية آنذاك. في ضوء ذلك، تبدو محاولات الربط بين العملية الأخيرة والإدارة الحالية أقرب إلى التأويل السياسي منها إلى الوقائع المؤكدة.
هدية بوتين لنتنياهو
قبل الخوض في تفاصيل العملية الأخيرة لاستعادة رفات الجندي الإسرائيلي، لا بد من استرجاع مشاهد سابقة كشفت عن تنسيق غير معلن بين روسيا وإسرائيل داخل الأراضي السورية، خاصة في السنوات التي أعقبت تدخل موسكو العسكري المباشر عام 2015، فقد شكّل هذا التدخل غطاءً مكّن تل أبيب من تنفيذ عمليات دقيقة بحثًا عن رفات جنودها، مستغلة النفوذ الروسي على الأرض، وصمت النظام السوري السابق.
تلك المرحلة شهدت دخولًا روسيًا إلى مواقع حساسة قرب دمشق، بغطاء “إنساني” أو “عسكري”، لكنها في حقيقتها كانت تحمل طابعًا استخباراتيًا، تم تتويجه في أكثر من مناسبة بإعلان إسرائيلي عن استعادة رفات مفقودين منذ حرب لبنان الأولى.
في مارس/آذار 2019، دخلت قوات روسية إلى مخيم اليرموك جنوب العاصمة دمشق، في مهمة محددة استهدفت نبش قبور داخل مقبرة الشهداء، وذلك بعد استعادة النظام السوري السيطرة على المخيم من تنظيم داعش، بما فيه المقبرتان القديمة والجديدة، حيث يرقد مئات الشهداء الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين، ممن خاضوا معارك ضد “إسرائيل”، قبل أن تضم لاحقًا شهداء وثوار معارضين لنظام الأسد خلال سنوات الثورة.
وبعد خمسة أيام من النشاط العسكري الروسي في الموقع، رُصدت القوات وهي تغادر المخيم حاملة أكياسًا يُعتقد أنها تحوي رفات عدد من الجثامين، ليكشف المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، رونين منليس، لاحقا عن تفاصيل العملية حيث أطلق عليها اسم “زمار نوغا”، أسفرت عن استعادة رفات الجندي زخاري بوميل (زكريا بوميل)، أحد المفقودين في معركة السلطان يعقوب خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وذلك بتنسيق بين “إسرائيل” وروسيا.
ورغم التعتيم الرسمي على تفاصيل الدور الروسي والدعم الذي قدمته قوات النظام البائد حينها، إلا أن الصحفي الإسرائيلي باراك رافيد نقل عن مسؤول حكومي رفيع أن روسيا ساعدت “إسرائيل” في تحديد موقع رفات الجندي واستعادته.

وتوقف محللون إسرائيليون وعرب عند توقيت العملية، معتبرين أن تسليم الجثة جاء كرسالة دعم من موسكو ودمشق إلى نتنياهو، قبل أسابيع فقط من انتخابات الكنيست في أبريل/نيسان 2019، والتي سعى خلالها للفوز بولاية خامسة.
رافق ذلك التصريح اللافت لنتنياهو حين أكد أن “الضربات الإسرائيلية في سوريا ليست موجهة ضد نظام الأسد، بل ضد التمدد العسكري الإيراني”، في إشارة ضمنية إلى موقفه المتساهل مع بقاء الأسد في السلطة.
وفي في عام 2021، عادت القوات الروسية تحت مرأى من أعين نظام الأسد إلى مقبرة مخيم اليرموك جنوب دمشق، ونفذت عملية جديدة لنبش القبور، بحثًا عن رفات المزيد من الجنود الذين فُقدوا مع زخاري بوميل.
ووثّق موقع “تلفزيون سوريا” عبر صور أقمار صناعية قيام القوات بتجريف أجزاء من المقبرة ونبش عشرات القبور، ضمن عملية محكمة فرضت خلالها روسيا طوقًا أمنيًا حول الموقع، ومنعت الوصول إليه، بالتوازي مع نصب شوادر لحجب الرؤية عن بعض المواقع داخل المقبرة وتسهيل عمل الفرق الروسية.
رجحت التقديرات أن البحث كان يتركز على رفات الجنديين تسيفي فيلدمان ويهودا كاتس، اللذين فقدا في نفس المعركة التي قُتل فيها 20 جنديًا إسرائيليًا وأُصيب العشرات، بينما بقي مصير رفات ستة جنود مجهولين حتى إعلان نتنياهو مؤخرًا العثور على جثة فيلدمان، الذي كان يحمل رتبة رقيب أول في وحدة مدرعة.
ونشر الموقع نسخة من الوثيقة، زاعمًا حصوله عليها من مصدر غير إسرائيلي، رغم أنها لا تؤكد بشكل قاطع أن القبور تخص جنودًا قُتلوا في معركة السلطان يعقوب.
ومع ذلك، تضمنت الوثيقة وصفًا تفصيليًا لموقع ثلاثة قبور داخل قسم من المقبرة مخصص لشهداء فصائل منظمة التحرير بعد عام 1980، إضافة إلى تعليمات للتعرف على القبور، منها أنها تحوي جثامين محنطة داخل توابيت “مصفحة”، مع خريطة مرسومة توضح الموقع داخل المقبرة.
لم تسفر العملية عن أي نتيجة فعلية، إذ لم يُعثر على رفات أي جندي إسرائيلي، بينما أقدمت القوات الروسية على نبش عدد كبير من القبور في مقبرة مخيم اليرموك، وانتزعت رفات عشرة شهداء سوريين مجهولي الهوية، دون مراعاة لمشاعر ذويهم أو حرمة الموتى.
ونقلت الجثامين إلى روسيا لإجراء اختبارات حمض نووي، أظهرت لاحقًا أنها لا تعود لجنود إسرائيليين. وأفاد مسؤول إسرائيلي حينها بأن تلك الرفات أُعيدت ودُفنت في موقع آخر.
جرت هذه العمليات تحت أنظار النظام البائد، الذي لم يُصدر أي توضيح أو تعليق، مواصلًا الترويج لانتمائه إلى ما يُعرف بـ”محور الممانعة”، في وقت التزم فيه مؤيدوه الصمت، متجاهلين انتهاك السيادة وتدنيس مقابر الشهداء.
خرق مستمر لسيادة سوريا
أمس الأحد، ذكر بيان مشترك للجيش الإسرائيلي وجهاز الاستخبارات الخارجية (الموساد) أن “عملية خاصة ومعقدة نُفذت في العمق السوري، استندت إلى معلومات استخباراتية دقيقة وقدرات عملياتية متقدمة”، دون أن يوضح البيان توقيت العثور على الرفات أو الموقع الجغرافي الذي جرت فيه العملية.
الإعلان أثار جدلًا واسعًا داخل الأوساط المؤيدة لمحور “الممانعة”، خصوصًا بين بقايا مناصري النظام البائد، الذين شنوا حملة انتقادات على الحكومة السورية الحالية، متهمين إياها بـ”التساهل” أو “التعاون الضمني” مع “إسرائيل”.
لكن إذاعة الجيش الإسرائيلي نفت بشكل مباشر أي دور للحكومة السورية في العملية، مؤكدة أن “الإدارة السورية الجديدة لم تشارك بأي شكل من الأشكال في استعادة رفات الجندي فيلدمان”.
وكان الجيش الإسرائيلي خصص وحدة عسكرية كاملة تعمل منذ عام 1973 على تتبع واستعادة رفات الجنود المفقودين، ممن قضوا في معارك مع مجموعات عربية، بينها فلسطينية وسورية ومصرية. وتشمل جهود البحث المستمرة الطيار رون أراد، الذي أُسر بعد إسقاط طائرته في لبنان عام 1986، والجندي غاي حيفر الذي اختفى في الجولان عام 1997، بالإضافة إلى عشرات الجنود الذين فُقدوا في مواقع مختلفة، من ضمنها قطاع غزة عام 2014.
وفي بيانه الرسمي، أكد نتنياهو أن “إسرائيل لن تتوقف عن العمل لاستعادة جثمان الجندي الثالث يهودا كاتس”، في إشارة إلى زميل فيلدمان وبوميل الذي فُقد معهم في المعركة نفسها. وأضاف أن سلسلة من العمليات السرية جرت على مدار سنوات طويلة بهدف استعادة مفقودي معركة السلطان يعقوب.
يُذكر أن نتنياهو سبق أن أشار في مقابلة مع قناة “i24 News” عام 2021 إلى أن جهودًا استخباراتية جارية أيضًا للعثور على رفات الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين، الذي أُعدم في دمشق عام 1965. وكانت “إسرائيل” قد أعلنت عام 2018 أنها استعادت ساعة يده، في عملية نوعية يرجح أنها تمت أيضًا بالتعاون مع روسيا.
من جانبها قالت صحيفة “يديعوت احرنوت” الإسرائيلية إن استعادة رفات الجندي الإسرائيلي جاءت نتيجة عملية سرية ومعقدة نفذها جهاز الموساد في عمق الأراضي السورية، مستفيداً من فوضى ما بعد انهيار النظام السابق وضعف الرقابة الأمنية.
وحسب الصحيفة فإن فريقا خاصا من العملاء الإسرائيليين دخل إلى مقبرة يُعتقد أنها مقبرة الشهداء القديمة قرب مخيم اليرموك، مزودين بمعدات حفر، مستندين إلى معلومات استخباراتية قديمة تم تدقيقها مجددًا، إلى جانب دعم لوجستي ومعرفي من روسيا.
وتابعت الصحيفة “جرى استخراج الرفات بهدوء ودون لفت الأنظار، ونُقلت إلى إسرائيل حيث تم التأكد من الهوية عبر تحاليل الحمض النووي”.
ختاما.. ما جرى في ملف استعادة رفات الجندي تسفيكا فيلدمان لا يمكن قراءته كحادثة معزولة أو مجرد عملية استخباراتية ناجحة، بل هو امتداد لنهج إسرائيلي طويل يتجاوز حدود القانون والسيادة، ويعتمد على استغلال الثغرات الأمنية والسياسية داخل سوريا، سواء بدعم روسي مباشر في الماضي، أو في ظل فوضى ما بعد انهيار النظام السابق.
في المقابل، فإن الاتهامات الموجهة إلى الحكومة السورية الحالية تظل بلا أدلة واضحة، خاصة في ظل تأكيدات إسرائيلية تنفي أي تنسيق معها، ما يجعل من استحضار “التعاون” الحالي محاولة لتحميل جهة جديدة وزر تركة قديمة، ورميها في ملعب لم تُدعَ أصلاً للعب فيه.