شهدت الساعات الماضية تطورًا لافتًا بإعلان حركة حماس عزمها إطلاق سراح الجندي الأمريكي الإسرائيلي، عيدان ألكسندر، كبادرة حسن نية تتوج بها الاتصالات التي أجرتها مع الإدارة الأمريكية خلال الأيام الماضية في إطار اتفاق لوقف إطلاق النار.
الحركة في بيان لها قالت إنه “في إطار الجهود التي يبذلها الإخوة الوسطاء لوقف إطلاق النار، أجرت حركة حماس اتصالات مع الإدارة الأمريكية خلال الأيام الماضية، حيث أبدت الحركة إيجابية عالية، وسوف يتم إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي مزدوج الجنسية الأمريكية عيدان ألكسندر، ضمن الخطوات المبذولة لوقف إطلاق النار، وفتح المعابر، وإدخال المساعدات والإغاثة لأهلنا وشعبنا في قطاع غزة”.
الخطوة قوبلت بإشادة بالغة من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي كتب في منشور له على منصته للتواصل الاجتماعي “تروث سوشيال”، في وقت متأخر من مساء الأحد 11 مايو/أيار الجاري، قائلًا إن الإفراج عن ألكسندر “خطوة حسنة النية تجاه الولايات المتحدة وجهود الوسطاء قطر ومصر لإنهاء الحرب الوحشية وإعادة جميع الرهائن الأحياء ورفات من توفوا إلى أحبائهم”.
ترامب: حمـ.ــــاس ستطلق سراح الرهينة الأمريكي عيدان ألكسندر الذي كان يعتقد أنه توفي. pic.twitter.com/KSMHGDr9du
— مجلة ميم.. مِرآتنا (@Meemmag) May 12, 2025
وأعرب الرئيس الأمريكي عن سعادته بإعلان عودة ألكسندر إلى عائلته، والتي من المحتمل أن تكون بعد ظهر الاثنين 12 مايو/أيار الجاري، موجها الشكر لكل من ساهم في الوصول إلى هذه “اللحظة التاريخية” وفق تعبيره، مؤملًا أن تكون هذه هي أولى الخطوات لإنهاء ما وصفه بـ”الصراع الوحشي”، وقال إنه يتطلع إلى يوم الاحتفال بنهاية تلك الحرب.
تتزامن تلك المفاوضات، التي جرت بشكل فردي بمعزل عن الحكومة الإسرائيلية، مع توتر ملحوظ في العلاقات بين الإدارة الأمريكية ورئيس حكومة الاحتلال، هذا التوتر الذي بلغت ذروته بقطع ترامب الاتصال بنتنياهو على خلفية اتهامه بالتلاعب به وفق ما نقلته وسائل إعلام إسرائيلية، ليبقى السؤال: أي دلالات ورسائل تعكسها تلك الصفقة الثنائية بين حماس وواشنطن بعيدًا عن الحضور الإسرائيلي؟
انفراجة محتملة
يُزيد هذا التطور، رغم تزامنه مع استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية في القطاع، من فرص حدوث انفراجة في المشهد الغزي المعقد إنسانيًا، فكما جاء على لسان المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، في رسالة نقلتها وكالة “أسوشيتد برس”، فإن الهدف من وراء هذه الخطوة هو استئناف المحادثات بشأن وقف إطلاق النار وزيادة المساعدات الإنسانية إلى غزة ووضع قدم ثابت فوق أرضية مشتركة يمكن الوقوف عليها نحو إنهاء تلك الحرب.
وهذا ما أكدته حماس بشكل رسمي حين أشارت في بيانها إنها “أبدت إيجابية عالية، وأخذت هذا القرار ضمن الخطوات المبذولة لوقف إطلاق النار، وفتح المعابر، وإدخال المساعدات والإغاثة لأهلنا وشعبنا في قطاع غزة”، وهو الهدف المحوري الأن الذي تركز عليه الحركة بعدما وصلت الأمور في القطاع إلى أوضاع كارثية حيث الجوع والحصار المطبق ووضع حياة مليوني فلسطيني على قوائم الموت، قصفًا أو جوعًا.
ومن المقرر أن يتوجه ويتكوف اليوم الثلاثاء إلى تل أبيب لترتيب الاستعدادات الخاصة للإفراج المتوقع عن ألكسندر، مع إجراء مباحثات مع الحكومة الإسرائيلية لإطلاعها على تفاصيل المباحثات الأخيرة التي جرت مع حماس وتبادل الرؤى بشأن إعادة ترتيب المشهد وفق التطورات الجديدة، يتزامن ذلك مع انطلاق جولة ترامب الخليجية التي تشمل كل من السعودية والإمارات وقطر وتستمر من 13 حتى 15 مايو/ أيار الحالي.
المبعوث الأميركي للشرق الأوسط: حكومة نتنياهو تطيل أمد الحرب في غزة بلا هدف #غزة#ويتكوف #العربية pic.twitter.com/X3TAn0KzcS
— العربية (@AlArabiya) May 12, 2025
وفي ذات السياق سيتوجه المبعوث الأميركي الخاص لشؤون الرهائن آدم بولر، إلى “إسرائيل” برفقة والدي ألكسندر، غدًا الثلاثاء، لاستقبال ابنهما، فيما نقل موقع “أكسيوس” عن مسؤول أميركي قوله إنّ إطلاق سراح المحتجزين أصبح ممكنًا “بفضل قوة الرئيس (دونالد) ترامب وعمل وزير الخارجية (ماركو) روبيو والمبعوث الأميركي الخاص (ستيف) ويتكوف”.
بولر وفي حديث صحفي له أشار إلى جهود تبذلها واشنطن مع المقاومة لاستعادة جثامين أربعة محتجزين إضافيين يحملون الجنسية الأميركية، يُعتقد أنهم قُتلوا أثناء الأسر في قطاع غزة، وفق ما نقلت صحيفة “جيروزاليم بوست” العبرية، مضيفًا أن “التحركات تتم بالتنسيق مع وسطاء دوليين، وسط ضغوط متزايدة على واشنطن لإعادة رفات مواطنيها المحتجزين في غزة”، معتبرًا أن زيارة الرئيس الأمريكي إلى الشرق الأوسط هذا الأسبوع ساهمت في تحفيز هذه الخطوة.
مقاربات ترامب الخمسة
ينطلق ترامب من خلال التحرك الفردي في التفاوض مع حماس من خلال خمسة مقاربات رئيسية:
أولها: فشل الخيار العسكري الإسرائيلي في حسم المعركة في قطاع غزة أجبر الأميركيين على مراجعة حساباتهم، خاصة في ظل الانتقادات الحقوقية التي تتعرض لها إدارة ترامب بسبب دعمها الكبير لجيش الاحتلال في حرب الإبادة التي تٌشن ضد المدنيين في غزة.
ثانيها: إدراك الإدارة الأمريكية أن استمرار الحرب، في غزة ولبنان وسوريا واليمن، والتي باتت لا رؤية ولا هدف، أصبحت عبئًا إستراتيجيًا على واشنطن في المنطقة، وتُعرض مصالحها في الشرق الأوسط للخطر، ومن ثم كان لابد من إعادة النظر في المشهد بأكمله.
ثالثها: الانتهاكات الوحشية التي ترتكبها قوات الاحتلال في غزة وتوسعة التوترات الإقليمية كان لها صداها على سمعة ترامب التي تعرضت للكثير من التشويه لأمرين، الأول يتعلق بعجزه عن إنهاء تلك الحرب كما تعهد خلال حملته الانتخابية الرئاسية نهاية العام الماضي، والثاني خاص بالاتهامات الموجهة له كشريك متورط في تلك الحرب وسط تصاعد الانتقادات الحقوقية الدولية والمطالبة بمحاسبة الضالعين فيها.
رابعها: محاولة تبريد الساحة الدولية بعد درجة الغليان التي شهدتها– اقتصاديًا جراء الحرب التجارية مع الصين ومعركة الرسوم الجمركية، وسياسيًا من خلال توتير الأجواء مع الحليف الأوروبي، وأمنيًا عبر المشهد الساخن في الشرق الأوسط ومخاوف استهداف المصالح الأمريكية في تلك المنطقة- دفعت ترامب للعمل على تهدئة الأجواء وامتصاص حالة الاحتقان المتصاعدة ضده وسياساته الحمائية.
خامسها: مساعي ترامب لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب، لا سيمّا الاقتصادية، خلال جولته الخليجية -المقرر لها خلال الفترة بين 13 – 15 من الشهر الجاري-، تتطلب مغازلة المنطقة وأنظمتها ببعض الملفات على رأسها ملف غزة وإيصال رسائل إيجابية قبيل قدومه، وهو ما سيكون له أثره على مخرجات تلك الجولة وحجم حقيبة الصفقات التي سيعود بها من الخليج.
مأزق نتنياهو
التحرك الأمريكي المنفرد، سواء في القطاع أو على المستوى اليمني والإيراني، وضع نتنياهو وفريقه المتطرف في مأزق حقيقي، إذ أن أي تراجع في مخرجات هذا التحرك، الاتفاق مع الحوثي والحديث عن انفراجة في تهدئة الأمور في غزة، من شأنه أن يلحق ضررًا كبيرًا بمصداقية ترامب الساعي وبقوة للتأكيد على استقلاله عن التبعية الإسرائيلية، وهو الاتهام الذي تعرض له كثيرًا خلال الأونة الأخيرة.
تُكرس إدارة ترامب بهذه الخطوة نهجًا جديدًا -من حيث الشكل على الأقل- في تعاطيها مع القضية الفلسطينية في العموم والوضع في غزة على وجه الخصوص، وذلك بمعزل عن الرؤية الإسرائيلية التي تهيمن عليها النظرة الضيقة المتشددة، ما يبرهن على المضي قدمًا في تعزيز شعار “أمريكا أولا” والانتصار لمصالح الدولة حتى لو تطلب ذلك التغريد بعيدًا عن موقف نتنياهو وحكومته.
"إسرائيل تفقد صبرها مع الضغوط الأمريكية"..
أعلاه عنوان "معاريف" هذا المساء، بعد الكشف عن مفاوضات مباشرة بين "حماس" وبين الأمريكان، أسفرت عن الموافقة على الإفراج عن الجندي الأمريكي الإسرائيلي الأسير (عيدان ألكسندر) مقابل تسريع إدخال المساعدات الإنسانية، ومعها مفاوضات وقف إطلاق… pic.twitter.com/K6EymsBIs2
— ياسر الزعاترة (@YZaatreh) May 11, 2025
وتعكس ردود فعل نتنياهو وحديثه عما أسماه “أيام مصيرية” تواجهها العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، حجم الضغوط الممارسة على حكومته للتعاطي مع التحرك الأمريكي المستقل، وذلك بعد الفشل الواضح في فرض تل أبيب رؤيتها بالعمل العسكري فقط، بعد أكثر من 17 شهرًا من الحرب التي وظفت فيها دولة الاحتلال كل ما لديها من قدرات وإمكانيات، وسط جسور الدعم الأمريكي التي ما انقطعت يومًا واحدًا.
ومما زاد من عمق الأزمة تعليقات المعارضة الإسرائيلية، فكما جاء على لسان زعيمها يائير لابيد فإن”التقارير حول اتصالات مباشرة بين حماس وأمريكا تمثل فشلًا دبلوماسيًا مُخزيًا لحكومة “إسرائيل” ورئيسها. المخطوفون مسؤوليتنا، وإعادتهم مسؤولية الحكومة”، هذا بخلاف الخطاب الشعبي الناقم على نتنياهو وإدارته للمشهد بأكمله.
ومن ثم يجد نتنياهو نفسه في مأزق لا يُحسد عليه، حيث الحصار الداخلي والخارجي، فهو مٌلزم بطبيعة الحال بإبداء المرونة في التعاطي مع الجهود الأمريكية، وفي ذات الوقت فإن أي اتفاق تهدئة سيتم إبرامه لا يلبي طموحات وأحلام اليمين المتطرف قد يحمل بين ثناياه انهيار مفاجئ للائتلاف الحكومي عبر انسحابات عاجلة، ليقع رئيس حكومة الاحتلال بين فكي كماشة، اليمين المتطرف وترامب.
ما السيناريوهات؟
حقق ترامب مع حماس في غضون أيام قليلة ما لم تحققه المفاوضات الإسرائيلية عبر الوسطاء على مدار أكثر من عام ونصف، وهو خرق استثنائي لهذا الجدار الصلب، من الممكن أن يكون له ما بعده، وإن كان الأمر متوقفًا على كيفية التعاطي الثنائي مع تلك التطورات وموقف كل طرف في مواجهة التحديات والعقبات المحتملة، والتي في الغالب سيتم تأجيجها إسرائيليًا، عبر حكومة نتنياهو تحديدًا.
بطبيعة الحال، لا تنظر حماس لهذا الحراك كـ “خطوة منعزلة” وبادرة حسن نوايا مجانية تمنحها للرئيس الذي يتباهى بأنه الأكثر دعمًا لدولة الاحتلال، بل تأتي في سياق مسار برغماتي طويل يُفضي في النهاية إلى إنهاء الحرب والتوصل لاتفاق نهائي، يسفر عن وقف حرب الإبادة وانسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع.
وتتبنى المقاومة منذ بداية المفاوضات المباشرة الاستثنائية مع إدارة ترامب استراتيجية “الكرة المتدحرجة”، وهي التي انتقلت بها من الخصومة الكاملة إلى الجلوس على طاولة المفاوضات، ثم تباين وجهات النظر، أعقبها محاولة تبريد عاجلة لتجريد هذا التباين من مضمونه، ألحقتها سريعًا ببادرة حسن نوايا بإطلاق سراح الأسير الأمريكي الحي الوحيد المتبقي لدى حماس، كخطوة قبل أخيرة نحو الاتفاق الشامل، تلك الخطوة التي جاءت في توقيت سياسي حساس، حيث زيارة الرئيس الأمريكي الخليجية والتي يعول عليها في تحقيق العديد من المكاسب الاقتصادية والسياسية.
وتسير الأمور وفق ما خططت له حماس، على الأقل حتى كتابة تلك السطور، إذ أعلن ترامب رغبته في إنهاء تلك الحرب التي وصفها ولأول مرة بـ “الوحشية”، فيما نقلت شبكة “سي إن إن” عن مصدر أمريكي قوله إنه بعد إطلاق سراح ألكسندر ستدخل الولايات المتحدة في مفاوضات فورية بشأن اتفاق شامل.
الكرة الأن باتت في ملعب كلا الطرفين، العربي والإسرائيلي، وبنسب متساوية لأول مرة منذ بداية الحرب، فالفرصة قد تكون مواتية حال الانخراط العربي المباشر واستغلال زيارة ويتكوف ومن بعدها ترامب من أجل البناء على ما اتم إنجازه واستكمال المساعي لتثبيت أركان الوقف الكامل لإطلاق النار والدخول في مفاوضات مباشرة وكسر الجمود في كافة الملفات الجدلية والخلافية بين مختلف الأطراف، والتي على رأسها تفاهمات اليوم التالي للحرب.
وفي ذات السياق فإنه من الخطورة بمكان الإفراط في التفاؤل بشأن هذا التطور اللافت، إذ أن وجود شخصية نرجسية متقلبة المزاج مثل ترامب على رأس الإدارة الأمريكية من شأنه أن يسحب البساط من تحت أي معايير أمان واستقرار وثبات على الموقف، فالرجل لديه سجل حافل في قلب عشرات الطاولات في اللحظات الأخيرة.
غير أن شخصية كتلك مهووسة بالمجد الشخصي، من الممكن ترويضها بالقراءة الجيدة والإعداد الممنهج لفك شفراتها، تارة بإسالة لعابها بورقة الاقتصاد والمكاسب المادية المتوقع تحقيقها من وراء تحقيق هذا الإنجاز، وأخرى بالعزف على وتر دخول التاريخ من أوسع الأبواب بوضع قدم أولى على درب جائزة نوبل للسلام التي تداعب خيال ترامب منذ فترة.
أخيرًا.. فالساعات القليلة المقبلة، يمكن أن تشهد تحولًا محوريًا في مسار الحرب في غزة، يقودها من مخطط التوسع العملياتي إلى التهدئة التامة، إذ إن الأمر بات مرهونًا ببعض الاعتبارات الخاصة باحتمالات رضوخ نتنياهو وحكومته وقدرة الإدارة الأمريكية على فرض إرادتها على الجانب الإسرائيلي.. فهل يستغل العرب هذه الفرصة التي قد تكون الأخيرة لإنهاء تلك المأساة الإنسانية في القطاع المحاصر؟