ترجمة وتحرير: نون بوست
يصبح وهج الشغف جليًّا لأولئك الذين يعملون عن كثب مع أشخاص شغوفين. عندما يلاحظ الموظفون شغف المؤسِّسين، فإنهم يصبحون بدورهم أكثر حماسا وحيوية في العمل، وتتعزز الرؤية الواضحة لمسؤولياتهم وأهدافهم.
هذا الشغف يُؤتي ثماره، فالمؤسِّسون الشغوفون بتطوير مؤسساتهم – المتحمسون للعثور على الأشخاص المناسبين للعمل، وإقناع المستثمرين، ودفع الموظفين وأنفسهم نحو النمو وتحسين أداء الشركة – يصبحون أكثر التزامًا بأهدافهم، وهو ما ينعكس إيجابًا على أداء مشروعاتهم من حيث نمو عدد الموظفين والمبيعات.
الشغف يُنعشنا ويمنحنا دفعة إضافية من الطاقة عندما تصبح المهام الإبداعية شاقة. وغالبًا ما يُترجم هذا الواقع إلى نصيحة (أو حتى توجيه!) مفادها: “ابحث عن شغفك”. تبدو هذه النصيحة معقولة، فإذا كنا نطمح إلى الإبداع، ولدينا شغف، فلا بد إذًا من أن نجد شغفنا ونتبعه. أليس كذلك؟
المشكلة أن فكرة “العثور على الشغف” توحي بأنه موجود مسبقًا بداخلنا، ربما في حالة خمول، بحيث لا نعلم ما هو على وجه التحديد. ويُفترض أن الشغف يشبه السمة الثابتة، وعندما نحاول اكتشافه، يُخيَّل إلينا أننا سنوقظ هذه السمة داخليًا.
لكن الطريقة التي نفكر بها في الشغف لها تأثير بالغ. النظر إلى الشغف كأنه سمة ثابتة له عواقب غير مفيدة. فقد وجد باحثون من جامعة ستانفورد أن هذا التصور يجعل الناس يحصرون اهتماماتهم.
أولئك الذين رأوا الشغف سمة داخلية وكانوا شغوفين بالتكنولوجيا والعلوم، لم يُبدوا اهتمامًا بتعلم الفنون والعلوم الإنسانية، واعتقدوا أنه لا صلة بين هذه المجالات. والأمر نفسه انطبق على من كانوا شغوفين بالفنون والعلوم الإنسانية، إذ لم يهتموا بالتكنولوجيا والعلوم، ورأوا أنها بعيدة عن اهتماماتهم.
لكن الإبداع يستفيد من اتساع دائرة الاهتمامات. على سبيل المثال، الحائزون على جائزة نوبل في العلوم، لديهم شغف الفنون والحرف اليدوية، مثل الفنون البصرية، الموسيقى، النجارة، نفخ الزجاج أو فنون الأداء، أكثر بثلاث مرات مقارنة بعامة الناس. أما حصر الاهتمامات بناء على فكرة أن الشغف سمة ثابتة، فيؤدي في النهاية إلى تقييد الإبداع.
كما يميل من ينظرون إلى الشغف على أنه سمة ثابتة إلى توقّع دافع لا ينضب ولا يتزعزع تجاه عملهم، وغالبًا لا يدركون أن ملاحقة الشغف ليست دائمًا ممتعة أو سلسة، ولذلك فعندما يواجهون صعوبات، سرعان ما يتراجع شغفهم.
بدلًا من حثّ الناس على اكتشاف شغفهم، علينا أن نُلهمهم من أجل تطوير الشغف.
لقد بدأت مسيرتي الأكاديمية كباحث في مجال الإبداع، وكنت شغوفًا بالبحوث العلمية الأساسية. لكن بعد أن حصلت على منحة لتصميم برامج تُعلّم مهارات الإبداع والانفعالات، ورأيت أثرها في الناس، تطوّر لديّ شغف جديد يتمثل في استخدام دروس علم الإبداع لتنمية قدرات الأفراد على ممارسة تلك الإبداعات.
كان ستيف جوبز شغوفًا بالإلكترونيات عندما ترك كلية ريد بعد الفصل الدراسي الأول. بدافع الفضول، وبعد أن رأى إعلانًا في الحرم الجامعي، قرر حضور درس في الخط. هناك تعلّم أنماط الخطوط والمسافات بين تركيبات الحروف المختلفة، وأصبح شغوفًا بالتفاصيل الجمالية والتاريخية التي اكتشفها.
وفي خطاب التخرج الذي ألقاه عام 2005 في جامعة ستانفورد، ذكر أنه لم يكن يرى أي فائدة مباشرة من هذا الدرس في ذلك الوقت. مع ذلك، عندما بدأ مع ستيف ووزنياك تأسيس شركة “آبل”، قام بتوظيف ما تعلمه في تصميم الحواسيب الشخصية. واليوم، نحن مدينون لانفتاح جوبز على تنمية شغف جديد بفضل تنوع الخطوط المتاح في أجهزتنا.
ما تعنيه هذه الأبحاث هو أننا لسنا بحاجة إلى أن نضع أنفسنا، أو من نشرف عليهم، أو حتى أطفالنا، تحت ضغط “البحث عن الشغف”. بل يمكننا أن نُطوِّر شغفنا من خلال تتبّع اهتماماتنا ومعرفة إلى أين تقودنا، شرط أن نتعامل معها بعقلية: “ولِمَ لا؟”.
هل تشعر بالفضول تجاه هندسة المحفّزات في الذكاء الاصطناعي؟ احضر تلك الندوة الإلكترونية.
هل دعاك أحد أقاربك لمراقبة الطيور؟ حتى لو لم يخطر ببالك فعل شيء كهذا من قبل، جربه.
لستَ محصورًا في شغف واحد طوال حياتك، فالإلهام يمكن أن يأتي من أكثر الأماكن غير المتوقعة.
وعلى عكس ما توحي به نصائح “ابحث عن شغفك”، يمكنك أن تطوّر أكثر من شغف في مراحل مختلفة من حياتك.
يمكنك أيضا تنمية أكثر من شغف في وقت واحد، كما هو الحال مع المبدعين متعددي المواهب، مثل ليوناردو دافنشي (رسام ومهندس وعالم)، وبنيامين فرانكلين (دبلوماسي وكاتب وطابع ومخترع)، وبريان ماي (عازف غيتار في فرقة كوين وعالم فلك مرموق)، وجيلين براون (لاعب كرة سلة مبدع مع فريق بوسطن سلتكس، وناشط اجتماعي ومدافع عن التعليم).
إذا فعلت ذلك، فإنك لا تُضعف أي شغف، بل تُثري جميع اهتمامتك، تمامًا كما فعل ستيف جوبز حينما مزج حبه للخطوط بتصميم أجهزة “آبل”.
تنبيه أخير حول الشغف: قد يبدو الأمر غير بديهي، لكن من الممكن أن تملك قدرًا مفرطًا من الشغف.
أظهر روبرت فاليران من جامعة كيبيك أن الشغف قد يتحوّل إلى هوس. وهذا النوع من الشغف الهوسي يعني أن الدافع لممارسة نشاط ما يصبح قويًا إلى درجة أن الشخص لا يستطيع مقاومته، ويصعب عليه تخيّل حياته من دونه، ويصبح معتمدًا عليه عاطفيًا، وتتأثر حالته النفسية بمدى قدرته على ممارسته.
عندما تُصبح مهووسًا بشيء ما، قد تستمر في الأداء بمستوى عالٍ، لكن ذلك يأتي على حساب صحتك الجسدية والنفسية.
النشاط المستمر والدائم الذي يغذّيه الشغف الهوسي — خارج ساعات العمل، وفي عطلات نهاية الأسبوع، وحتى أثناء الإجازات — قد يؤدي إلى صراعات متزايدة واحتراق نفسي، مما يضر على المدى الطويل بالإبداع نفسه الذي كان الشغف يعززه في البداية.
قد تكون هناك لحظات تتطلب قدرًا من الهوس في العمل الإبداعي، كإطلاق منتج، أو إنهاء كتاب، أو الوصول إلى خط النهاية في مشروع ما.
لكن لتجنّب الجانب المظلم من الشغف، عليك أن توازن بين فترات النشاط المحموم، وفترات من الهدوء والراحة. الاستراحة تغذي منبع الإبداع من جديد.
المصدر: بيغ ثينك