يواجه قطاع الصناعة في محافظة حلب شمالي سوريا تحديات ومعوقات تعرقل مسار التعافي الاقتصادي؛ وتكمن في ارتفاع تكاليف موارد الطاقة على الصناعيين، مما يسهم في ارتفاع تكاليف الإنتاج وتخفيض الأرباح، كما أنها تنعكس سلبًا على جذب الاستثمارات الداخلية والخارجية التي من المفترض أن تمهد عودة العاصمة السورية الاقتصادية إلى مكانتها في الأسواق الإقليمية والدولية.
وتبدي الحكومة السورية الجديدة اهتمامًا ملحوظًا، رغم التحديات، بهدف تنشيط قطاع الصناعة، وجذب المستثمرين الصناعيين من خلال اتخاذ إجراءات وحلول شبه مستدامة تهدف لتوفير موارد الطاقة بأسعار مقبولة، حيث عقدت اتفاقية مع الدولة التركية لتوريد الغاز الطبيعي إلى حلب بهدف تشغيل محطات الكهرباء.. فما أثرها على صناعة حلب؟
اتفاقية توريد الغاز والكهرباء
عقدت سوريا وتركيا اتفاقية توريد الغاز الطبيعي بغية تشغيل محطات توليد الكهرباء في مدينة حلب، عبر خط أنابيب غاز يمتد من ولاية كليس إلى حلب، بالإضافة إلى تزويد المحافظة بالكهرباء من أجل زيادة ساعات تشغيل الكهرباء المنزلية والصناعية في إطار جهود تحسين وضع الطاقة الكهربائية.
وكشف وزير الطاقة السوري، محمد البشير، في تغريدة على منصة “إكس”، عن اتفاق مع نظيره التركي، ألب أرسلان بيرقدار، على تزويد سوريا بـ 6 ملايين متر مكعب من الغاز الطبيعي يوميًا، عبر خط نقل كلس – حلب، لتحسين ساعات تشغيل الكهرباء وتحسين واقع الطاقة في سوريا.
وجاءت الاتفاقية على هامش انطلاقة قمة إسطنبول للموارد الطبيعية (منصة دولية رفيعة تجمع صناع القرار والخبراء في مجال الطاقة)، في 3 مايو/أيار الجاري، حيث اجتمع وزير الطاقة السوري، مع وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي، بهدف تعزيز التعاون الثنائي بين البلدين في مجالات الطاقة المختلفة.
اتفقتُ مع نظيري التركي السيد ألب أرسلان بيرقدار على تزويد سوريا بـ6 ملايين متر مكعب من الغاز الطبيعي يومياً عبر خط نقل كلّس–حلب، بما يسهم في زيادة ساعات تشغيل الكهرباء وتحسين واقع الطاقة في سوريا. pic.twitter.com/S20bnrQSoO
— م. محمد البشير (@EMAlbasheir) May 9, 2025
في المقابل، صرح وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي، ألب أرسلان بيرقدار، خلال مقابلة أجراها مع قناة “سي إن إن ترك”، أن الغاز الطبيعي المخطط تصديره إلى سوريا، يتوقع أن يصل إلى ملياري متر مكعب سنويًا بهدف استخدامه في إنتاج الكهرباء.
وأوضح خلال المقابلة، أن أعمال البنية التحتية لخط أنابيب الغاز بدأت في الجانب السوري، وهناك هدف أن يبدأ الضخ بعد ثلاثة أشهر على الأقل، بعدما وصل خط الغاز إلى ولاية كليس قرب الحدود، لافتًا، بأن الغاز سينقل من ولاية كليس التركية إلى محطة كهرباء حلب (المحطة الحرارية).
وأشار، إلى بدء العمل على تزويد سوريا بالتيار الكهربائي، حيث تزود محافظة حلب بنحو 200 ميغاواط من الكهرباء التركية. واعتبر، أنه من أولويات تركيا الإسهام في إعادة الحياة إلى طبيعتها في سوريا، بعدما تعرضت البنية التحتية السورية لأضرار جسيمة نتيجة سنوات الحرب التي استمرت 13 عامًا.
وتزود تركيا مناطق شمال ريف حلب الشمالي والشرقي (درع الفرات، غصن الزيتون) ومحافظة إدلب شمال غربي سوريا، بالكهرباء المنزلية والصناعية، إضافةً إلى الغاز الطبيعي المخصص للاستهلاكات المنزلية، وذلك عبر شركات خاصة مرخصة باتفاقيات مع السلطات المحلية، بينما تُدفع رسوم الاشتراك في الكهرباء سلفًا من المواطنين كونها مرتبطة بساعات كهربائية الكترونية بشريحتين منزلية وصناعية.
ومن المفترض أن يصل خط أنابيب الغاز الطبيعي من ولاية كليس جنوبي تركيا، إلى حلب شمالي سوريا، لتشغيل المحطة الحرارية التي تبعد نحو 25 كيلومترًا عن مركز محافظة حلب إلى الشرق (على طريق حلب – الرقة)، ويعود تاريخ تأسيسها إلى عام 1997.
وتتموضع المحطة الحرارية على أرض تصل مساحتها إلى 50 هكتارًا، وتتألف من خمس مجموعات بخارية، منها يعمل على الفيول، ومنها على الغاز، إضافة إلى عنفة غازية للطوارئ باستطاعة 35 ميغاواط، وتصل الاستطاعة الاجمالية للمحطة 1100 ميغا واط، إلا أنها توقفت عن العمل بسبب تعرضها للتخريب والقصف، خلال السنوات الماضية، ما تسبب في خروجها عن العمل، وتضرر معظم معداتها.
وفي الوقت الحالي، تعمل المحطة الحرارية بعنفّة واحدة فقط من أصل خمس عنفات، رغم أن الاستطاعة الفعلية لكل عنفة تبلغ 250 ميغاواط، والعنفات الأخرى تحتاج إلى صيانة واستبدال جزئي، ويشكل وصول الغاز الطبيعي إلى المحطة الحرارية خطوة مهمة لزيادة ساعات تشغيل الكهرباء على المناطق الصناعية، والتجمعات السكانية.
عودة الحياة لصناعة حلب
يبذل الصناعيون في مدينة حلب، منذ سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، جهودًا مضاعفة بغية تحقيق تغيرات ملموسة عبر توفير بنية تحتية مناسبة في المناطق الصناعية، كما أنهم يسعون إلى دمج المدن والمناطق الصناعية التي كانت ضمن ريف حلب الشمالي والشرقي (المحررة سابقًا) في غرفة تجارة حلب.
ويقدر عدد المنشآت الصناعية العاملة في محافظة حلب بـ 17 ألف منشأة تعمل في قطاعات الغزل والنسيج والصناعات الغذائية والمعدنية والكيميائية والدوائية والزجاج، متوزعة على مناطق ومدن صناعية، أبرزها المدينة الصناعية في حلب، إضافةً إلى مناطق متفرقة في الكلاسة والعرقوب، والقاطرجي، والشيخ نجار القديمة، والراموسة، والليرمون والشيحان والشقيف.
وفي 16 أبريل/نيسان الماضي، زار وفد تركي من وزارة الصناعة والتكنلوجيا التركية المدينة الصناعية في حلب، لدراسة إمكانية دعم المدينة الصناعية بالطاقة الكهربائية والبنية التحتية لإعادة تشغيلها.
وعادت أكثر من 960 منشأة صناعية في منطقة “الشيخ نجار” في مدينة حلب إلى العمل، بحسب أرقام رسمية صادرة عن محافظة حلب في 28 أبريل/نيسان الجاري، في إطار الخطة الحكومية الهادفة إلى تنشيط الاستثمار وتعزيز الاقتصاد المحلي.
عودة الإنتاج إلى 960 منشأة صناعية في الشيخ نجار بحلب بدعم حكومي
شهدت مدينة الشيخ نجار الصناعية في حلب عودة النشاط إلى 960 منشأة، ضمن خطة حكومية تهدف إلى تنشيط الاستثمار وتحفيز الاقتصاد المحلي. pic.twitter.com/p1gijUnRVd
— محافظة حلب (@AleppoGov1) April 28, 2025
ويرى الباحث الاقتصادي، أدهم قضماني، أن توفير موارد الطاقة لتشغيل الكهرباء في حلب، عبر خط أنابيب الغاز الطبيعي من تركيا، يسهم في تخفيف تكاليف الدورة الصناعية وصولًا إلى مرحلة الانتاج، كما أنه ينعكس على كافة مناحي الحياة، وليس الانتاج فقط، وإنما يمكن أن يخفف عن كاهل المواطن لأن انخفاض تكاليف الانتاج يعني انخفاض سعر المنتجات على المواطنين.
وقال قضماني خلال حديثه لـ “نون بوست”: “إن توفير الكهرباء للصناعيين في حلب، بشكل دائم، بأسعار مقبولة يمكنها أن تسهم في تخفيض الانتاج وتشجع الصناعيين على الاستثمار في سوريا، مما يزيد فرص التعافي الاقتصادي لأن حلب لها وزن في الاقتصاد السوري، لكن في الوقت ذاته غير كافية، لأن جذب الاستثمار إلى سوريا يحتاج إلى مقومات مستدامة وليس حلول آنية، وعدم توفرها يخلق قلق مستدام لدى الصناعيين”.
ويضيف، أن مشروع خط أنابيب الغاز الطبيعي يحتاج إلى فترة للتأهيل، إلا أن توفير موارد الطاقة لحلب يعتبر خطوة إسعافية مؤقتة، لأن موارد الغاز الطبيعي المتوفرة في البحر المتوسط لا تستطيع سوريا استخراجه في الوقت الراهن، ما يجعلها تعتمد على استجرار موارد الطاقة من دول الجوار مثل تركيا الحدودية مع سوريا، ما يعني تخفيض تكاليف استجرار الطاقة مقارنة من استجرارها من دول عالمية أو إقليمية أخرى.
وأشار، إلى أن مشروع خط أنابيب الغاز الطبيعي قد يكون جزءًا من مشروع خط غاز إقليمي ودولي يمكن استخدامه في نقل الغاز الطبيعي، مما يعزز دور سوريا في نقل موارد الطاقة عبر أراضيها إلى دول الجوار في المستقبل.
وتواجه الصناعة الحلبية أزمة مركبة، منذ أكثر من 13 عامًا على التوالي، بسبب هجرة الصناعيين السوريين، وإغلاق معاملهم ومصانعهم بسبب اشتعال فتيل الحرب التي أدت إلى تدمير البنية التحتية والخدمية في المناطق والمدن الصناعية جراء القصف والمعارك، إضافةً إلى سرقة محتويات المنشآت الصناعية، ما أدى إلى تهاوي الصناعة إلى حدود متدنية.
معوقات تواجه تعافي صناعة حلب
رغم سيطرة نظام الأسد البائد على معظم مواقع المدن والمناطق الصناعية في حلب، بعد عام 2016، إلا أنه لم يغير شيئًا على صعيد دعم القطاع الصناعي وتأهيل البنية التحتية لإعادة الحياة للصناعة الحلبية، وإنما انتهج سياسات اقتصادية تضييقية تسببت في فرار الصناعيين واحدًا تلو الآخر، كلما شعروا بالتضييق من قبل الأجهزة الأمنية والميليشيات المقربة من الأسد البائد.
وفي الوقت الراهن، تحصل المدينة الصناعية في حلب على 16 ساعة من الكهرباء يوميًا، بينما تعاني باقي التجمعات الصناعية من مشكلة وصول الكهرباء التي تصل إلى 8 ساعات يوميًا، لكن رغم ذلك غير كافية، إذ يضطر الصناعيون إلى شراء الفيول بأسعار مرتفعة إذ يصل سعر الطن منه إلى 630 دولارًا أمريكيًا.
وفي 7 أبريل/نيسان الماضي، أصدرت المؤسسة العامة لنقل وتوزيع الكهرباء، قرارًا في تخفيض سعر الكيلو واط الساعي، للخطوط المعفاة من التقنين جزئيًا أو كليًا، بنسبة وصلت إلى 21% للفئتين الصناعي والتجاري، حيث أصبح سعر الكيلوواط ساعي نحو 1500 ليرة سورية (ما يعادل 14 سنتًا أمريكيًا) بعدما كان 1900 ليرة سورية (ما يعادل 17 سنتًا أمريكيًا)، وبالتالي أصبحت توازي أسعار ريف حلب الشمالي والشرقي (المحررة سابقًا).
لكن رغم تخفيض أسعار الكهرباء الصناعية، إلا أنها تبقى مرتفعة مقارنةً مع دول جوار سوريا، في وقت تعول الحكومة على جذب الاستثمارات الخارجية، حيث يصل سعر الكيلوواط ساعي في تركيا إلى 8 سنت وفي العراق 4 سنت والأردن 6 سنت، بينما في مصر 5 سنتات، ما يجعلها بيئة غير جاذبة للمستثمرين، بسبب ارتفاع الأسعار وزيادة التكاليف نتيجة ساعات قطع الكهرباء.
ورغم ذلك يواجه القطاع الصناعي في حلب إلى جانب ضعف موارد الطاقة مشكلات ومعوقات إضافية، تسهم في الحد من خطوات التعافي الصناعي، كما أنها ترتبط في عدم استقرار الأوضاع الأمنية، ما ينعكس سلبًا على النقل والشحن التجاري، حسب ما يرى الباحث، أدهم قضماني.
ويضيف خلال حديثه لـ “نون بوست”، أن صعوبة نقل الملكيات العقارية (بيع، شراء) وإثبات الملكيات يعيق عودة المستثمرين الراغبين في الاستثمار، إضافةً إلى ضعف خدمات البنية التحتية، الكهرباء، الماء، الطرقات، وتعرضها للانقطاع يقلق الصناعيين.
ويتابع، أن غياب الدعم الحكومي للقطاع الصناعي، من خلال توفير إعفاءات ضريبية يمكن أن تسهل معاملات الصناعيين والتجار في عموم سوريا، إضافةً إلى مشاكل تتعلق في التحويلات المالية عبر القنوات الرسمية، إذ يواجه الصناعيين تحديات في نقل أموالهم بسبب عدم وجود قنوات رسمية آمنة تضمن لهم حقوقهم.
بينما يرى الباحث في مركز عمران للدراسات، مناف قومان، أن التحديات التي تواجه الصناعيين في حلب، تتجلى في ارتفاع تكاليف الانتاج، لا سيما أسعار الكهرباء، والوقود، إضافةً إلى تذبذب أسعار صرف الليرة السورية أمام الدولار الأمريكي.
ويضيف في حديثه لـ “نون بوست”، أن غياب السياسات الجمركية الحمائية الفعالة تشكل عائقًا أمام تعافي القطاع الصناعي، لأن الصناعيون يضعون تكاليف انتاج عالية، بينما يستورد التجار المنتجات بأسعار منخفضة مقارنةً مع تكاليف المنتجات السورية المحلية.
ويؤكد أن تدهور البنية التحتية والصناعية واللوجستية، وضعف المبادرات الحكومية الداعمة للقطاع، تسبب في تآكل القدرة التنافسية للمصانع والورش المحلية.
ختامًا.. تعد خطوة تعزيز موارد الطاقة في حلب مهمة جدًا للقطاع الصناعي، لكنها لا تنهي معوقات التعافي التي يواجهها الصناعيون في ظل تعدد التحديات والأسباب، ما يستدعي اتخاذ إجراءات حكومية أكثر شمولية تسهم في دفع عجلة التنمية الصناعية من خلال خلق بيئة أمنة مستقرة للصناعة ومحفزة للاستثمار، ما يمهد عودة صناعة وتجارة حلب إلى دورها الفاعل في الاقتصاد السوري.