تشكّل العواصف الترابية هاجسًا يؤرق حياة العراقيين بعد أن اتسعت وتيرتها خلال العقود الثلاثة الماضية، إذ تؤدي هذه الظاهرة لخسائر اقتصادية هائلة وترهق الكوادر الطبية التي تضطر لمعالجة مئات حالات الاختناق وصعوبات الجهاز التنفسي في الأيام العاصفة.
ولا تقف أضرار العواصف الترابية عند حد معين، إذ يشير تقرير صدر مؤخرًا عن “مرصد العراق الأخضر” أن البلاد تتكبد خسائر يومية تقدر بـ1.5 مليار دينار عراقي (نحو مليون دولار أمريكي)، فضلًا عن إهدار كميات هائلة من المياه النظيفة لإزالة تأثيرات هذه العواصف سواء في المؤسسات العامة أو الخاصة.
خسائر هائلة
وأكد تقرير للمرصد -وهو منظمة غير حكومية- أن العراق يتكبد خسائر لا تقل عن مليون دولار يوميًا بسبب هذه العواصف الترابية وفي مختلف القطاعات الصحية والزراعية والنقل والمواصلات وغيرها.
وبين المرصد أن القطاع الأكثر تضررًا هو القطاع الصحي بسبب الزخم الحاصل في المستشفيات لمعالجة حالات الاختناق ومرضى الجهاز التنفسي، فضلًا عن الأضرار الأخرى التي تتسبب بها هذه العواصف مثل الحوادث المرورية وتوقف حركة الملاحة الجوية والطيران المدني وتضرر المحاصيل الزراعية واستنفاذ المياه وغيرها.
في السياق، يقول عضو مرصد العراق الأخضر عمر عبد اللطيف أن المرصد أعد دراسة تقديرية للخسائر، حيث جرى تقسيم العواصف لثلاثة أنواع ترابية وغبارية ورملية، إذ أن احتساب حجم الأضرار اعتمد على الحد الأدنى من الخسائر اليومية المسجلة، وفق قوله.
سجل العراق 158 يومًا من العواصف الترابية
أما الدكتور ماجد شنكالي وهو رئيس لجنة الصحة والبيئة في البرلمان العراقي، فقد أكد أن العراق سجّل عام 2023 قرابة 158 يومًا من العواصف الترابية، وهو ما أدى لارتفاع أعداد الراقدين في المستشفيات، فضلًا عن تأثيرات كبيرة على تأثير كبير على الحركة الاقتصادية في البلاد.
اقتصاديًا، يشير الباحث في الشأن الاقتصادي محمود أحمد إلى أن الخسائر التي تتسبب بها العواصف الترابية أكبر بكثير مما أعلنه مرصد العراق الأخضر في تقريره، لافتًا إلى أن هذه العواصف تؤدي لخسائر مالية كبيرة غير مباشرة، غالبًا ما تكون بعيدة عن أعين المراقبين، موضحًا أن توقف الملاحة الجوية في بعض الأحيان وتوقف عمل الكثير من المرافق النفطية ومحطات توليد الكهرباء وخطوط النقل والتوزيع للطاقة الكهربائية تسبب إهدارا للوقت والمال والموارد، على حد قوله.
وضرب الباحث مثلًا حول الخسائر غير المنظورة، بكميات المياه الهائلة المستخدمة في عمليات تنظيف المرافق العامة والمؤسسات الحكومية والدور السكنية، بما يؤدي لإهدار ملايين الأمتار المكعبة من المياه التي يعاني العراق من شحة في توفيرها للمواطنين في محافظات الوسط والجنوب، على حد قوله.
أسباب عديدة
وفي حديثه لـ “نون بوست”، يتابع أحمد أن هناك العديد من الأسباب التي تؤدي لزيادة وتيرة هذه العواصف، معلقًا بالقول: “رغم أن العراق يعد بيئة صحراوية في كثير من مناطقه، إلا أن تراجع الغطاء النباتي واتساع التصحر للأراضي الزراعية وعدم وجود أحزمة خضراء حول المدن وتوسع المدن باتجاه المناطق الخضراء حول المدن أدى بمجمله لزيادة هذه الظاهرة وتأثيرها على ملايين العراقيين”.
ووفق وزارة البيئة العراقية، فإن الإحصائيات المسجلة من قبل الهيئة العامة للأنواء الجوية تشير لارتفاع عدد الأيام المغبرة من 243 يومًا إلى 272 يومًا في العام الواحد للعقدين الآخيرين، وأنه ومن المتوقع أن يصل عدد الأيام المغبرة لنحو 300 يوم سنويًا بحلول عام 2050.
ارتفاع عدد الأيام المغبرة من 243 يومًا إلى 272 يومًا في العام الواحد للعقدين الآخيرين
كما أشارت وزارة البيئة إلى أن نحو 70% من الأراضي الزراعية في العراق مهددة نتيجة التغيرات المناخية، وبالتالي فقدان الغطاء النباتي الذي يعتبر العامل الرئيس لتثبيت التربة وعدم مساهمتها في تصاعد العواصف الترابية.
أما الباحث البيئي أسعد كاظم فيؤكد من جانبه أن العواصف الترابية لم تعد تقتصر على فصل الصيف، وباتت تمتد لفصل الشتاء كذلك، مبينًا مدى الأضرار التي تتسبب بها من خلال انجراف التربة السطحية الخصبة، بما يؤدي لتقليص قدرة الأراضي الزراعية على الإنتاج من خلال فقدان الطبقات العلوية للتربة التي تضم العناصر الغذائية الضرورية للزراعة وهو ما يؤثر سلبًا على الأمن الغذائي.
عام 2040 سيكون العراق بحاجة لانفاق 233 مليار دولار كاستثمارات في مجال البيئة
وقال البنك الدولي عام 2022 إن العراق يواجه تحديات مناخية طارئة، وأنه يتوجب على الحكومة العراقية العمل على تنمية المشاريع البيئية، كما أشار تقرير المنظمة الدولية إلى أنه وبحلول عام 2040 ستكون البلاد بحاجة لانفاق نحو 233 مليار دولار كاستثمارات للاستجابة للاحتياجات التنموية في مجال البيئة.
حلول غائبة
ورغم جهود الحكومة العراقية وإطلاق عشرات حملات التشجير في مختلف المحافظات العراقية، إلا أن رئيس لجنة الصحة والبيئة في البرلمان العراقي الدكتور ماجد شنكالي يرى أن الخطوات الحكومية لا تزال نظرية دون أثر على أرض الواقع.
وكشف شنكالي عن تعثر مشاريع مهمة، في إشارة لمشروع زراعة 5 ملايين شجرة، مبينًا أن المشروع لم يشهد تقدمًا ملحوظًا بعد عام كامل على إقراره، مؤكدًا في الوقت ذاته أن لجنته البرلمانية كانت قد قدمت قبل أشهر مسودة مشروع قانون “حماية وتحسين البيئة” وأن عدم إقراره رسميًا يرجع لتعطل جلسات البرلمان في الأشهر الماضية بسبب الخلافات السياسية، وفق قوله.
بعد أن قطعت إيران عشرات الروافد عن البلاد، باتت العديد من المحافظات العراقية مثل ديالى وواسط والعمارة والأنبار تواجه موجات جفاف هائلة
وتتصدر أزمة المياه التي تضرب العراق منذ سنوات كأحد أبرز الأسباب التي تؤدي لتراجع الغطاء النباتي وتقليص الخطة الزراعية ويزادة العواصف الترابية بأنواعها، إذ وبعد أن قطعت إيران عشرات الروافد عن البلاد، باتت العديد من المحافظات العراقية مثل ديالى وواسط والعمارة والأنبار تواجه موجات جفاف هائلة مع فقدان مئات آلاف الدوانم الزراعية ونزوح عشرات الآف السكان من الأرياف تجاه مراكز المدن.
كما أن تقليص تركيا لمعدلات تدفق المياه من نهري دجلة والفرات أسهم في تراجع مستويات المياه المتدفقة عبر النهرين الرئيسيين اللذين يشكلان رئة البلاد المائية.
ويرى الخبير المختص في شؤون البيئة والثروة المائية رضوان خليل أنه ورغم أن الحكومات العراقية المتعاقبة كانت قد أشرت وأدركت مدى الخطورة الناجمة عن تراجع حصة العراق من المياه المتدفقة عبر دول الجوار، إلا أن جميع المباحثات مع تركيا وإيران لم تسفر حتى الآن عن تحسين الوضع المائي للبلاد، بما أسهم في تراجع مساحة الأراضي الزراعية.
وفي حديثه لـ “نون بوست”، يشير خليل إلى أن هناك عوامل داخلية أسهمت كذلك في ما وصلت إليه البلاد، مبينًا أن غياب التخطيط الحضري والتعدي على الأراضي والحقول الزراعية حول المدن وتحول المدن إلى كتل خرسانية غابت معها المساحات الخضراء الشاسعة التي كانت تتمتع بها جميع المدن الرئيسة في البلاد أدى لأضرار مباشرة وتأثيرات كبيرة للعواصف الترابية التي تهب على البلاد، وفق قوله.
هي خسائر هائلة تسجلها البلاد سنويًا بسبب العواصف الترابية، فيما يشير مراقبون إلى أن تزايد معدلات العواصف الترابية لا يتناسب مع جهود الحكومة العراقية في وضع الحلول والمعالجات البيئية التي تحمي البلاد.