وصل الرئيس الأميركي دونالد ترامب، صباح اليوم الثلاثاء 13 مايو/ أيار الجاري إلى المملكة العربية السعودية في مستهل جولته الخليجية المقرر أن تستمر أربعة أيام وتشمل إلى جانب المملكة كل من قطر والإمارات العربية المتحدة، وكان في استقباله في مطار الملك خالد بالرياض ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
من السجادة البنفسجية في مطار الملك خالد إلى قصر اليمامة بالعاصمة السعودية حيث عقد ولي العهد والرئيس الأمريكي جلسة مباحثات قصيرة، قبل الذهاب للمشاركة في منتدى الاستثمار السعودي – الأميركي الذي عقد بالتزامن مع وصول ترامب، بحضور وزراء سعوديين ورجال أعمال بارزين من البلدين.
الزيارة وإن لم تكن الأولى خارجيًا للرئيس الأمريكي في ولايته الثانية، إذ سبقها زيارة اضطرارية إلى روما للمشاركة في جنازة البابا فرنسيس في الفاتيكان، لكنها اكتسبت زخمًا كبيرًا كونها تتزامن مع حزمة من التغيرات الجيوسياسية التي أشعلت الساحة الإقليمية والدولية، ويُعول عليها في تبريد تلك الأجواء نسبيًا.
#فيديو | فخامة رئيس الولايات المتحدة الأمريكية يصل المملكة في زيارة دولة، وسمو #ولي_العهد في مقدمة مستقبليه.#الرئيس_الأمريكي_في_المملكة#٩٢_عامًا_من_الشراكة_والازدهار#TrumpInKSA#واس pic.twitter.com/HahArABbLK
— واس الأخبار الملكية (@spagov) May 13, 2025
رغم توقع حضور ملفات سياسية ساخنة على طاولة اجتماعات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع قادة دول الخليج، إلا أن الملف الاقتصادي وتعزيز الشراكات الاستثمارية بين واشنطن والعواصم الخليجية الثلاث، الرياض والدوحة وأبو ظبي، يشكّل المحور الأبرز في هذه الجولة، التي وصفها موقع “أكسيوس” الأمريكي بعنوان لافت: “جولة ترامب التريليونية الدولارية“.
وحمل الرئيس الأمريكي أثناء مغادرته الولايات المتحدة على متن الطائرة الرئاسية “إير فورس وان” حقيبة متخمة بالملفات المغلفة بقائمة مطولة من الأهداف التي يسعى لتحقيقها من خلال الجولة الخليجية، وعلى الجانب الأخر يأمل الخليجيون وربما أبناء المنطقة العربية والشرق أوسطية أنفسهم بقائمة موازية من الأهداف.. فأي مكاسب محتملة يمكن جنيها من وراء تلك الجولة؟
ماذا يريد ترامب من تلك الجولة؟
يرافق الرئيس الأمريكي في جولته العربية، العديد من أباطرة المال والأعمال في الولايات المتحدة على رأسهم الرئيس التنفيذي لشركة تسلا ومستشار ترامب إيلون ماسك، فيما سبقه للمملكة العشرات من رجال الأعمال في مقدمتهم الرئيس التنفيذي لـ BlackRoc، لاري فينك، والرئيس التنفيذي لـ Blackstone، ستيفن شوارزمان.
وبينما كانت طائرة ترامب تهبط في مطار الملك خالد بالعاصمة السعودية كان منتدى الاستثمار الأمريكي السعودي يعقد أولى جلساته بحضور كوكبة من كبار رجال الأعمال والمستثمرين في البلدين، وخلال جلسة النقاش الأولية قال الرئيس التنفيذي للعملاق الأمريكي BlackRoc، لاري فينك، إنه زار السعودية أكثر من 65 مرة خلال 20 سنة.
وأضاف أن المملكة كانت في السابق “تابعة”، لكنها الآن “أصبحت تقود” وتتوسع اقتصاديًا خارج إطار النفط.
وبحسب وكالة “رويترز” فإن الولايات المتحدة والسعودية تحافظان على علاقات قوية منذ عقود، تستند إلى اتفاق ثابت: المملكة توفر النفط، والولايات المتحدة توفر الحماية الأمنية، وهو الاتفاق المتعارف عليه ضمنيًا بصرف النظر عن هوية الحكومات والأنظمة المتعاقبة على حكم البلدين.
ورغم أن الجولة تأتي في وقت تشهد فيه المنطقة توترات جيوسياسية متزايدة، وبروز العديد من الملفات الساخنة، في اليمن ولبنان وسوريا وغزة وإيران، واحتمالية أن يسافر الرئيس الأمريكي إلى تركيا الخميس للمشاركة في محادثات وجهاً لوجه بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي حول الحرب في أوكرانيا، لكن كل تلك الملفات ليست محور التركيز الأساسي في جولة ترامب، وفق الجدول المعلن، ليتصدر الاقتصاد المشهد الأساسي.
ولي العهد السعودي #الأمير_محمد_بن_سلمان يستقبل عمالقة #التكنولوجيا بصدارة الملياردير #إيلون_ماسك أغنى رجل بالعالم خلال الزيارة التاريخية التي يقوم بها الرئيس الأميركي #دونالد_ترمب#ترمب_في_الرياض #العربية_Business pic.twitter.com/bme0FDJelv
— العربية Business (@AlArabiya_Bn) May 13, 2025
وفق ما تم الإعلان عنه قبيل الجولة فمن المتوقع إبرام العديد من الصفقات بين العواصم الخليجية الثلاثة والولايات المتحدة تقدر قيمتها بما يقترب 3 تريليونات دولار في غضون السنوات العشرة المقبلة مقسمة كالتالي:
السعودية.. أعلنت المملكة عن استثمارات بقيمة 600 مليار دولار في الولايات المتحدة، مع توقعات بزيادة هذا الرقم إلى تريليون دولار بناء على طلب ترامب، هذا بجانب صفقة أسلحة تتجاوز قيمتها 100 مليار دولار، تشمل معدات عسكرية متقدمة مثل طائرات النقل C-130.
قطر.. تم الإعلان عن استثمارات قطرية تتراوح بين 200 و300 مليار دولار، تشمل صفقة كبيرة لشراء طائرات من شركة Boeing، بالإضافة إلى شراء طائرات مسيّرة من طراز MQ-9 Reaper بقيمة ملياري دولار، هذا بخلاف ما أثير حول تقديم قطر هدية لترامب عبارة عن طائرة فاخرة من طراز Boeing 747-8 تُستخدم كطائرة رئاسية بديلة وتقدر قيمتها بنحو 400 مليون دولار.
الإمارات.. تعهدات إماراتية باستثمارات تصل إلى 1.4 تريليون دولار على مدى العقد المقبل، تركز على مجالات الذكاء الاصطناعي، الطاقة، الدفاع، والتصنيع.
إلى جانب المكاسب الاقتصادية يحاول ترامب تعزيز النفوذ الأمريكي في منطقة الخليج، سياسيًا وعسكريًا، بعد تصاعد دورها الإقليمي وتحولها إلى لاعب مهم في العديد من الملفات الحساسة، لعل أخرها الملف الأوكراني حيث لعبت دور الوساطة بين كييف وموسكو، مما جعلها محط أنظار منافسي أمريكا التاريخيين، الصين وروسيا.
ولم يغب عن بال ترامب أثناء تلك الجولة، الوضع الملتهب بالشرق الأوسط في أكثر من منطقة، في غزة ولبنان وسوريا وإيران واليمن والسودان، حيث تلعب السعودية والإمارات دورًا محوريًا في تلك الملفات، وهو ذاتها التي تشتبك مع السياسة الخارجية الأمريكية، مما يجعل من تعزيز العلاقات مع بلدان الخليج هدفًا محوريًا للإدارة الأمريكية.
هذا بخلاف أحلام توسيع دائرة اتفاقات “أبراهام” التطبيعية مع الكيان المحتل، حيث تسعى واشنطن لإدخال السعودية حظيرة التطبيع إلى جوار السداسي العربي ( مصر والأردن والإمارات والبحرين والمغرب والسودان)، وهي الخطوة التي ربما تضع أقدام ترامب على أعتاب جائزة نوبل التي يؤمل نفسه بالحصول عليها هذا العام.
ماذا يريد الخليجيون؟
تحاول بلدان الخليج من خلال استضافة الرئيس الأمريكي، وبمنطق برغماتي بحت وبعيدًا عن الجدل المسار حول شخصيته وتصريحاته الصدامية، تحقيق العديد من المكاسب يمكن حصرها في 5 مجالات رئيسية:
أولا: تعزيز النفوذ السياسي والإقليمي لبلدان الخليج، فبواقعية مطلقة، يؤمن الخليجيون أن نفوذهم مرتبط بشكل كبير بطبيعة العلاقات مع الإدارة الأمريكية الحاكمة، وعليه فإن استمالة شخصية مثل ترامب وبناء علاقات قوية معها من شأنه أن يمنحها أفضلية دبلوماسية واستراتيجية في ظل صراع النفوذ الإقليمي المحتدم.
ثانيًا: تعميق الشراكات الاقتصادية والاستثمارية بين بلدان الخليج والولايات المتحدة، حيث إبرام الصفقات الكبرى في المجالات التي تحتاجها منطقة الخليج خاصة في الذكاء الاصطناعي، البنية التحتية، الدفاع، والطاقة، ودعم بيئة الأعمال الخليجية وجذب الشركات الأمريكية العملاقة.
ويقدَّر إجمالي استثمارات السعودية في أمريكا بأكثر من 800 مليار دولار (معظمها عبر صناديق سيادية واستثمارات غير مباشرة)، فيما تُقدَّر استثمارات الإمارات بـ 250 – 300 مليار دولار، بينما بلغت استثمارات قطر في الاقتصاد الأمريكي بأكثر من 45 مليار دولار حتى 2023.
ثالثًا: التسليح وتعزيز القدرات العسكرية الخليجية، في ظل الاضطرابات الإقليمية وتصاعد التحديات الأمنية التي تواجهها بلدان الخليج، إيران والحوثيين، فإن ضمان التفوق العسكري عبر صفقات التسليح المتطورة مسألة استراتيجية لا يمكن الاستغناء عنها، وهو ما قد يتحقق في ظل العلاقات الجيدة مع الولايات المتحدة.
هذا بخلاف أحلام البرنامج النووي التي تداعب الرياض وولي العهد، وهي الأحلام المتوقع أن تكون حاضرة على طاولة النقاش، حيث يؤمل السعوديون أنفسهم بدخول النادي النووي ولو عبر باب الاستخدامات السلمية في ظل صراع النفوذ مع الجار الإيراني، وهو الملف المعقد والذي يحتاج إلى وقت ليس بالقصير لحسمه، قبولا أو رفضًا في ظل التحفظات الإسرائيلية المتوقعة بشأنه.
رابعًا: تحييد الموقف الأمريكي إزاء الملفات الحساسة، والتي قد تشكل تهديدًا على مستقبل الأنظمة الحاكمة في بلدان الخليج، وعلى رأسها الملف الحقوقي والإصلاحات الداخلية والتي ظلت لسنوات ورقة الضغط الأبرز التي تشهرها واشنطن في وجه الحكومات الخليجية، وهو ما يعطي السلطات هناك أريحية مطلقة في إدارة الشأن الداخلي دون أي ضغوط أو مقاربات، وذلك استنادا إلى قاعدة المال مقابل الصمت.
خامسَا: دعم الطموح والأحلام الخليجية.. في ظل تعدد المبادرات الحالمة والمشروعات القومية الضخمة التي تتبناها العواصم الخليجية، فإن الحاجة إلى دعم الولايات المتحدة خطوة مهمة في تحقيق تلك الطموحات، مثل مشروع “نيوم” ومبادرات اقتصادية وبيئية في الإمارات وقطر والتي تهدف من خلالها إلى جذب الشراكات الدولية، علاوة على رؤية السعودية 2030 أو خطة قطر الوطنية 2030.
مكاسب تفوق الزيارة الأولى
المؤشرات الأولية تذهب باتجاه تحقيق الجولة الحالية مكاسب أقوى من تلك التي حققتها الجولة الأولى التي قام بها ترامب في مايو/أيار 2017 في ظل العديد من الفوارق والاختلافات التي تعزز تلك الفرضية أبرزها:
- اقتصرت الزيارة الأولى على السعودية فقط دون أي من بلدان المنطقة، مقارنة بالجولة الحالية التي تتضمن 3 دول خليجية.
- إجمالي ما أبرمه ترامب من صفقات في الجولة الأولى لم يتعد حاجز الـ 460 مليار دولار، مقارنة بحوالي 3 تريليون دولار (6 أضعاف تقريبًا) متوقع تحقيقها خلال الجولة الحالية.
- الجولة الأولى تضمنت حضورًا عربيًا خليجيًا، ممثلا في القمة العربية الخليجية التي دُعي إليها بعض قادة البلدان العربية، فيما اقتصرت الزيارة الحالية على الحضور الخليجي فقط وهو ما يجعل أهدافها أكثر خصوصية وأدق تحديدًا.
- انطلقت الجولة الأولى في وقت كانت تعاني فيه العلاقات الخليجية الإيرانية توتيرًا متصاعدًا، فيما تبنى ترامب خطابًا هجوميًا وقتها ضد طهران لمغازلة الخليجيين، لكن هذه المرة العلاقات أكثر هدوءً، إذ استبق وزير خارجية إيران تلك الجولة بزيارة للرياض والدوحة، كما تزامنت مع انعقاد جولات عدة من المباحثات الأمريكية الإيرانية ما بين مسقط وروما بهدف التوصل إلى صيغة مشتركة حول الاتفاق النووي الإيراني.
- عززت الزيارة الأولى من الخلاف الخليجي الخليجي إذ منحت الضوء الأخضر – وفق ما ذهب محللون- لكل من السعودية والإمارات والبحرين ومعهم مصر لمقاطعة قطر دبلوماسيًا وفرض حصار اقتصادي عليها، لكن الجولة الحالية تأتي في ظل علاقات متنامية بين العواصم الخليجية.
الواقعية السياسية تحكم المشهد
يتعامل ترامب والخليجيون انطلاقا من استراتيجية الواقعية السياسية في كافة التحركات، بعيدًا عن أي خلافات من شأنها تأجيج وتوسيع الهوّة بين الطرفين، فكلا منهما يعرف جيدًا ما يريده من الأخر، وما هو مخزون الأهداف المستهدف، وهو ما يجعل كل طرف يكشف أوراقه بمنتهى الشفافية أمام الطرف الأخر دون أي مواربة أو مقاربة أو حساسية.
ومما يساعد على تعزيز هذه الاستراتيجية شفافية ترامب وصراحته المطلقة في التعبير عن توجهاته دون أي حسابات أو اعتبارات، فالرجل لا يجد حرجا في الإعلان صراحة عن أهدافه من وراء تلك الجولة حين قال إنه على استعداد أن السعودية محطته الأولى خارجيًا – كما كانت في الولاية الأولى- شرط أن تقدم حزم استثمارية تبلغ تريليون دولار.
وكان ترامب قد وضع –بتصريحاته المتطرفة- الكثير من الأنظمة الخليجية في حرج كبير حين ربط بين استمرارها وحمايته لها، وهي الحماية التي اعتبرها مشروطة بما يحصل عليه من مقابل، فهي ليست مجانية على حد قوله، ليكشف الرجل عن وجهه الحقيقي كسمسار وتاجر لا يقدم شيئًا دون مقابل.
ورغم فجاجة تلك السياسة وقبحها أحيانًا وما يترتب عليها من أزمات لكنها بالنسبة للخليجيين أكثر قبولًا واستساغة من مواربة الديمقراطيين مثلًا، فطالما كان الأمر محصورًا في معادلة المال مقابل الحماية والصمت والدعم، فلا مشكلة في ذلك، إعمالا للمثل المصري “اللي تعرف ديته اقتله”.
وعبر عباءة الاقتصاد يؤمل الخليجيون أنفسهم اختراق أكثر من ملف يعزز حضورهم ونفوذهم الإقليمي، أبرزها الملف الغزي والتوصل لاتفاق لإنهاء الحرب وسط مؤشرات إيجابية في هذا الشأن، كذلك التدخل السعودي لرفع العقوبات الأمريكية والغربية المفروضة على سوريا إبان نظام الأسد البائد، هذا بخلاف تبريد الأجواء على الساحة اللبنانية وتجنيب المنطقة ويلات أي تصعيد يهدد طموحات الخليج الاقتصادية.
وفي الأخير وأيًا كانت المخرجات المتوقعة بشأن الملفات الملتهبة التي تٌشعل المنطقة، وبصرف النظر عن حجم الاختلاف بين الجولة الأولى والثانية، شكلا ومضمونًا، من حيث الدوافع والنتائج، فإن الثابت الوحيد في هذا الأمر هيمنة البعد الاقتصادي على مجريات الساحة، حيث الرقم التريليوني الكبير المتوقع أن يعود به الرئيس الأمريكي لبلاده في مقابل المكاسب التي يؤمل الخليجيون أنفسهم بها مقابل هذا الرقم غير المسبوق تاريخيًا.