في الذكرى السنوية للنكبة الفلسطينية، تُرفع رايات الحداد في شوارع المخيمات، بينما تنطلق الألعاب النارية في “إسرائيل” احتفالًا بما تصفه بـ”عيد الاستقلال”. تجسّد هذه المفارقة الفجّة جوهر الصراع الوجودي الذي يمثله الخامس عشر من أيار: بين سردية صهيونية ترى في اليوم “تحقيقًا للوعد التوراتي بالأرض الموعودة”، وسردية فلسطينية تُؤرّخه كيوم مشؤوم وبداية كارثة وطنية ما زالت فصولها مفتوحة، لشعب يعيش بين مطرقة الشتات وسنديان الإبادة.
ورغم كلّ ما قدّمه المؤرّخون، عربًا وغربيين وحتى إسرائيليين، من قراءات نقدية لتاريخ النكبة، فإنّ “إسرائيل” لا تزال ترفض الاعتراف بالأحداث التي نكّلت بالفلسطينيين وهجّرتهم خارج أراضيهم، وتُعيد سرد ما جرى بوصفه “فعلًا دفاعيًا اضطراريًا أمام عداء العرب” لاستقلالها.
اليوم، لا يُطرح موضوع النكبة كجدل تاريخي فحسب، بل كجزء من صراع سياسي مستمر حول الأرض والحق والبقاء. وفي مواجهة هذا الإنكار، يُطرح سؤالان لا يهدآن: كيف تسعى “إسرائيل” إلى تسويق روايتها لأحداث 1948 رغم آلاف الشهادات الفلسطينية الموثّقة؟ وكيف يمكن لرواية هشة، تُكذّبها ملايين من المهجّرين وأحفادهم في الشتات، أن تصمد أمام واقع لا يزال يعيد إنتاج النكبة بشكل يومي؟
تأسيس الدولة مقابل تدمير وطن
تستند الرواية الصهيونية للوجود الإسرائيلي في فلسطين إلى مرتكز ديني–تاريخي يصوّر قيام “إسرائيل” عام 1948 على أنه عودة اليهود إلى أرضهم الأصلية، بعد قرونٍ من الشتات والاضطهاد، كما تُقدَّم هذه العودة بوصفها استردادًا جزئيًا “لأرض الميعاد”، ففي سردية العهد القديم، يُصوّر اليهود كجماعات مضطهدة ومستعبدة: “ومرروا حياتهم بعبودية قاسية في الطين واللبن، وفي كل عمل في الحقل، كل عملهم الذي عملوه بواسطتهم عنفًا” (خروج 14:1).
وبينما يبدأ الوحي التوراتي بإخراجهم من “بيت العبودية”، تُقرن الوصايا العشر بوعد خلاص مشروط، تُكافَأ الجماعة عليه بامتلاك الأرض: “أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر، من بيت العبودية” (خروج 20:1).
شكّل هذا الإطار الديني والتاريخي أثرًا نفسيًا عميقًا في اللاوعي اليهودي الجمعي، المشبع بتصورات الاضطهاد والدونية، ليُنتج مع مرور الوقت حالة من التماهي مع المُعتدي، فما إن وُضِع اليهود بوصفهم جماعة تاريخية في موقع القوة والتمكين، حتى انقلبوا على صورة الذات المضطهدة، وبدأوا ينتقمون رمزيًا من ماضيهم عبر العنف والتدمير المنظّم، كأنهم يسعون جاهدين إلى محو الصورة المهزومة التي طاردتهم طويلًا.
وهكذا، أضحى أمن اليهودي في “أرضه الموعودة” مقدسًا بقدر قداسة الوعد نفسه، لا يُمكن المساس به، خشية الانهيار الرمزي والعودة إلى الذات المهانة الأولى، وهذا ما تجسّد بوضوح في نكبة 1948 وما تلاها من عمليات تطهير عرقي واستعمار استيطاني ممنهج، ارتُكبت باسم “التحرر والعودة” لكنها حملت بصمات غريزية من الرعب القديم والكراهية المضادة.
وفي الخامس عشر من أيار/مايو 1948، أعلن دافيد بن غوريون قيام دولة “إسرائيل”، مقدّمًا إياها للعالم بوصفها تحقيقًا لوعد إلهي طال انتظاره، وانتصارًا عسكريًا ليس فقط على الفلسطينيين والعرب، بل، كما يسوّق الإسرائيليون، على الانتداب البريطاني نفسه، الذي منحهم “استقلالًا انتزعوه”.
في سبيل ترسيخ سردية “الاستقلال” عن بريطانيا والانتصار على “العرب الذين حاولوا إجهاض الدولة الموعودة”، تُشنّ حرب متواصلة على السردية الفلسطينية، ويُهمَّش الاسم الحقيقي للأحداث: النكبة ذكرى الألم الحي، وذاكرة المخيمات واللجوء والمجازر المتناسلة من دير ياسين والطنطورة وكفر قاسم إلى المجازر الجارية اليوم في غزة والضفة الغربية.
سبعة وسبعون عامًا من الألم المتصل لا تجد موضعًا في الوعي الإسرائيلي، ولا في “ضمير” الغرب المتحضر، بل تُحرَق رمزيًا كل عام في “مشاعل الاستقلال” على جبل هرتسل في القدس، حيث يرقد “الزعماء الخالدون” لدولة قامت على أنقاض وطن.
في الشوارع، تُنصب منصات الاحتفال، تُرقص الأجساد على أنغام الانتصار، وتُضاء اللذة باحتلال وطن لم يكن لهم، في مقابل محاولات دؤوبة لإنكار دور الغرب في منحهم الدولة، لصالح أسطورة تقول إنهم “حاربوا وحدهم، وأسّسوا وحدهم، وبنَوا بدمهم”.
لكن، على الضفة الأخرى من المعنى، تُقام مسيرات العودة، وتُرفع المفاتيح القديمة في مخيمات الشتات، وتُنشد الأناشيد الفلسطينية التي تُذكّر بالقرى التي مُسحت من الخرائط، وتُحيى المنتديات الشعرية والثقافية التي تحمل الوجع الفلسطيني المحكوم عليه بالتكرار.
هكذا يتجلّى التناقض القاسي: علم إسرائيلي يُرفع فوق الأرض المسلوبة، مقابل مفتاح صدئ يُرفع في المنافي. إنه تاريخ واحد، ولكن بذاكرتين متوازيتين لا تلتقيان؛ الأولى تتحدث عن ولادة “الخلاص”، والأخرى عن استمرار الكارثة.
النكبة في الخطاب الأمني والقانوني الإسرائيلي
لأنّ النكبة تُذكّر بالمظلومية التاريخية للشعب الفلسطيني، وتُذكي مشاعر العودة وتُلفت إلى الحقوق المسلوبة للاجئين، فإنها في نظر “إسرائيل أداة تعبئة عاطفية خطيرة تقع ضمن ميدان الحرب النفسية. وكلما اقترب الفلسطينيون من إحياء ذكراها عبر مسيرات العودة أو الفعاليات الرمزية، تزداد المخاوف الإسرائيلية من أن يتحول هذا الحضور الرمزي إلى مطلب سياسي دولي: الاعتراف بالنكبة.
وهو ما اعتبره تقرير صادر عن معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي تهديدًا استراتيجيًا، إذ إن اعترافًا دوليًا بالنكبة قد يعيد صياغة الرأي العام العالمي تجاه “إسرائيل”، ومن هنا سع إلى تفكيكها بأي وسيلة من إطلاق الرصاص على الأطراف السفلية، إلى القتل العمد والممنهج.
في المدارس الفلسطينية داخل أراضي 1948، يُمنع تدريس النكبة رسميًا، وتُعدّ الإشارة إليها تحريضًا على الدولة، ويُراقَب المعلمون، ويُهدَّدون بالفصل أو العقوبة إن هم خالفوا السردية الرسمية
وبالتوازي، تنتهج “إسرائيل” سياسة إنكار ممنهجة للنكبة، تبدأ من القمع الرمزي والقانوني، فقد بدأ النظام القضائي بمنع رفع العلم الفلسطيني، وأقرّ الكنيست في مارس/آذار 2011 ما يُعرف بـ”قانون النكبة”، الذي يمنح الحكومة صلاحية حرمان المؤسسات من التمويل في حال تنظيمها أو مشاركتها في فعاليات تشكك بـ”يهودية الدولة”، أو تعتبر “يوم الاستقلال” يوم حداد.
في السياق ذاته، دعا عضو الكنيست “أليكس ميللر” حكومة نتنياهو إلى فتح تحقيق فوري في المنظمات العربية داخل الخط الأخضر التي تنظم فعاليات لإحياء ذكرى النكبة، معتبرًا ذلك تحديًا صريحًا لـ”سيادة الدولة”.
في قلب الصراع على الهوية الجماعية الفلسطينية، تقف “إسرائيل” في مواجهة الحق في العودة باعتباره تهديدًا وجوديًا لسرديتها، وتسعى إلى طمس الذاكرة الفلسطينية بكل الوسائل لا عبر القوانين القمعية فحسب، بل عبر السيطرة على الإعلام والتعليم والمجال العام.
في المدارس الفلسطينية داخل أراضي 1948، يُمنع تدريس النكبة رسميًا، وتُعدّ الإشارة إليها تحريضًا على الدولة، ويُراقَب المعلمون، ويُهدَّدون بالفصل أو العقوبة إن هم خالفوا السردية الرسمية، أما الأنشطة الطلابية التي تُنظَّم في ذكرى النكبة، فتُواجَه غالبًا بالمنع، أو بالعنف الأمني المباشر.
وتتجلّى فجاجة هذا القمع في تصريحات مثل ما قاله رئيس جهاز الأمن الداخلي الأسبق آفي ديختر، مهددًا: “من يبكي على نكبته عام 1948، ستلحق به نكبة جديدة في نهاية المطاف”.
كسر السردية من الداخل: أصوات يهودية معارضة
تصدح في الداخل الإسرائيلي بعض الأصوات اليهودية التي تتحدى تتحدى الرواية الرسمية للدولة، معترفةً بالنكبة ورافضةً للصيغة الصهيونية للصراع، من أبرزها: المؤرخون الجدد، ومثقفو اليسار، وناشطو السلام، لكن هذه الأصوات تُواجَه عادةً بـالإقصاء والتخوين، وتُستهدف بحملات تشويه ممنهجة، رغم أن “الهوية اليهودية” نفسها تحميهم من الاتهام الأخطر في إسرائيل والعالم: معاداة السامية.
من بين هؤلاء، يبرز المؤرخ وأستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب شلومو ساند، الذي يتبنى موقفًا حادًا من الرواية الإسرائيلية ويصف ما جرى عام 1948 بـ”التطهير العرقي”، بل وكرّس ساند أعماله لتفنيد الأسس التاريخية والدينية التي تستند إليها الصهيونية، وفي كتابه الشهير “اختراع الشعب اليهودي” فجّر جدلًا واسعًا داخل المجتمع الإسرائيلي وخارجه.
في هذا الكتاب، يفكّك ساند أسطورة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، ويشكك في شرعية الادعاء اليهودي بأرض الميعاد، مؤكدًا أن اليهود لم يكونوا يومًا شعبًا واحدًا، بل مزيج من أعراق وأصول متفرقة، انتشرت ديانتهم بفعل التبشير لا الهجرة الجماعية أو الشتات، ويؤكد أن مفهوم “الشعب اليهودي” لم يظهر إلا في القرن التاسع عشر، كأداة سياسية لصناعة قومية حديثة، وليس كحقيقة تاريخية.
أما يهود فلسطين القدماء، بحسب ساند، فليسوا هم يهود “إسرائيل” اليوم، وبالتالي لا شرعية لأي ادعاء صهيوني بالعودة مبني على سردية دينية أو تاريخية مزعومة. وفي تفسيره للدافع الغربي وراء دعم مشروع الاستيطان اليهودي في فلسطين، يكتب المؤرخ الإسرائيلي شلومو ساند:
“في عام 1947، قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة، بأغلبية الأصوات، إقامة دولة يهودية في المنطقة التي سُميت سابقًا فلسطين أو “أرض إسرائيل” كما بات يُطلق عليها لاحقًا. كانت الولايات المتحدة التي استوعبت حتى عام 1924 عددًا كبيرًا من يهود اليديش من أوائل من أغلقوا أبوابهم في وجه الناجين من المحرقة النازية. وكذلك فعلت بقية الدول الغنية. وبالمحصلة، كان أسهل عليهم اقتراح بقعة نائية لا تخصهم، لحل “المشكلة اليهودية المزعجة”.
لكن ثمن هذا الخطاب المرتد كان باهظًا، فبسبب مواقفه اليسارية وكتبه التي تنتقد التاريخ الرسمي الإسرائيلي وتفكك أسس المشروع الصهيوني، تعرّض شلومو ساند لحملات تخوين وتشويه ممنهجة، واتهامات بتزييف التاريخ ومعاداة السامية رغم كونه يهوديًا، بلغ الأمر ذروته في عام 2002، حين نشرت صحيفة “هآرتس” خبرًا عن مغلف أُرسل إلى مكتبه يحتوي بودرة بيضاء انفجرت في وجهه، مرفقة برسالة تقول: “لن تعيش طويلًا”.
كذلك طالب المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابه المعادي للصهيونية بالاعتراف بأنّ النكبة الفلسطينية كانت عملية تطهير عرقي وليست نتيجة عرضية للحرب، وفي كتابه الجريء “التطهير العرقي في فلسطين”، يوثّق بابيه بالتفصيل المجازر والعمليات القسرية التي نفذتها القوات الصهيونية لتفريغ البلاد من سكانها الفلسطينيين عام 1948، بناء على خطط عسكرية مسبقة أقرّتها القيادة الصهيونية بقيادة دافيد بن غوريون.
من دير ياسين وصفد والطنطورة، إلى عكا وبيسان والمئات من القرى، يستعرض بابيه الوقائع الميدانية وأساليب التطهير المرعبة التي مورست لهدم البيوت، وطرد السكان، وتحطيم نسيج الحياة الفلسطينية. وفي فصلٍ بعنوان “الدافع الصهيوني الأيديولوجي”، يُحلّل بابيه جذور الفكرة الصهيونية قائلًا:
“إنّ الصهيونية جعلت اليهودية علمانية وقومية، ومن أجل أن يحقق المفكرون الصهيونيون مشروعهم طالبوا بالأرض التوراتية واستحضروها، أو بالأحرى اخترعوها مهدًا لحركتهم القومية. وبحسب رؤيتهم أصبحت فلسطين بلدًا يحتله (غرباء) ويجب استرداده منهم. أمّا الفلسطينيون، السكان الأصليون، فكانوا في نظرهم كائنات غير مرئية؛ عقبات الطبيعة التي يجب التغلب عليها أو إزالتها”.
وكما تفعل الأنظمة الاستعمارية حين تحاول طمس أدلة جرائمها لا الدفاع عنها، شنّت “إسرائيل” حملة شرسة على المؤرخ إيلان بابيه، متهمةً إياه بـ”الخيانة” و”العمل ضد الدولة”، وسط دعوات متكررة لطرده من الجامعات، بل ومنعه من التدريس في بلاده.
حتى زملاؤه الأكاديميون لم يسلموا من موجة التحريض ضده، وعلى رأسهم المؤرخ يوآف جيلبر، الذي رفض توثيق النكبة من خلال شهادات الضحايا، واصفًا إياها بأنها “ثرثرة لا يُعتد بها في التأريخ”. ردّ بابيه على هذا الطعن بقوة، قائلًا: “إذا كانت الشهادات الشفوية ثرثرة، فكيف بُنِي تصورنا عن المحرقة؟ أليست هي أيضًا موثّقة بالطريقة نفسها؟”.
الموقف من بابيه لم يكن استثناءً. فكل من يتحدّى الرواية الصهيونية يتعرّض للمصير ذاته: اتهامات بالعمالة، وتخوين، وتشويه إعلامي. من شلومو ساند إلى آفي شلايم، مرورًا بمنظمات حقوقية إسرائيلية كـ”بتسيلم”، التي توثق الانتهاكات الإسرائيلية اليومية ضد الفلسطينيين، وتُحمّل الدولة مسؤولية العنف الممنهج، وتدعو بوضوح إلى إنهاء الاحتلال احترامًا للحرية والسلام.
لكن هذه الدعوات لا تجد صدى داخل عقل الدولة الصهيونية، الذي لا يرى في الوجود الفلسطيني سوى تهديد بنيوي يجب إدارته لا التفاهم معه، فكيف يمكن الحديث عن “السلام” في ظل إنكارٍ كاملٍ لأصل الجريمة؟ وكيف يمكن للسلام أن يولد، و”إسرائيل” لا تزال ترفض حتى الاعتراف بالنكبة، أساس المأساة الفلسطينية المستمرة منذ 77 عامًا؟