بعد أربعة عقود من الصراع بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني (PKK)، قرر الأخير حلّ نفسه وتسليم سلاحه، في خطوة “تاريخيّة” تعكس تحولًا كبيرًا في مسار المسألة الكردية في تركيا والمنطقة.
الخطوة التي أنهت تمردًا داميًّا تسبب بأزمة وطنية كبرى وقلاقل عابرة للحدود، جاءت خلال مؤتمر الحزب الثاني عشر الذي انعقد مطلع أيار/ مايو الجاري، حيث أعلن حلّ هيكله التنظيمي، وإنهاء “الكفاح” المسلح وجميع الأنشطة التي تتمّ باسم الحزب، وذلك استجابة لإعلان حاسم من زعيمه عبد الله أوجلان قبل ثلاثة أشهر.
وكان عبدالله أوجلان، الزعيم المؤسس للحزب قد دعا في بيان له، شباط/فبراير الماضي، إلى إنهاء النزاع، وحلّ الحزب، والدخول في مرحلة جديدة تتسم بالوسائل السلمية والسياسية في النضال من أجل الحقوق الكردية.
ما هو بي كي كي (PKK)؟
حزب العمال الكردستاني هو كردي تركي، تصنّفه تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كمنظمة إرهابية، يتزعمه عبد الله أوجلان القابع حاليًا في محبسه في جزيرة إمرالي ببحر مرمرة، حيث يقضي عقوبة السجن منذ عام 1999. انبثق الحزب أواخر العام 1978، وله قوات تدعى”الغريلا” تنشط في معقله بجبال قنديل في شمال العراق، فيما يضاف لتلك القوات فرعها السوري المسمى حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) الذي تتبع له قوات وحدات الحماية الشعبية الكردية (YPG) ووحدات حماية المرأة .(YPJ)
ويتبنى حزب العمال أيديلوجية “ماركسية-لينينية ثورية وقومية عرقية انفصالية، أما الكتلة الشعبية الأساسية لحزب العمال الكردستاني في سوريا وتركيا، فيدّعي الحزب أنهم المسحوقون والفقراء والمهمشون والأيدي العاملة غير النوعية.
وبدأ حزب العمال الكردستاني تمردًا ضد الدولة التركية عام 1984، وكانت أهدافه في بداية الأمر إنشاء دولة كردية مستقلة، ثم تراجعت إلى زيادة الحقوق الكردية، والحكم الذاتي المحدود في جنوبي شرق تركيا.
وصل الصراع بين الطرفين إلى ذروته أواسط تسعينيات القرن الماضي، حيث هاجمت القوات التركية، بعض قواعد حزب العمال الكردستاني، والتي كانت تسميها أنقرة حينها بـ”الملاذات الآمنة” في إقليم كردستان العراق.
وتركز غالبية القتال في الماضي بالمناطق الريفية جنوبي شرق تركيا الذي تسكنه أغلبية كردية، لكن الحزب شن هجمات أيضًا في المناطق الحضرية.
في يوليو/تموز 2015، انهار وقف إطلاق النار الذي استمر عامين ونصف العام، ودخلت الحرب التركية ضد مسلحي حزب العمال أحد أعنف فصولها منذ ما يقرب من أربعة عقود.
وتطور الصراع عبر عدة مراحل، فبين عامي 2015-2017 تقريبًا، دمّر القتال مجتمعات في بعض المراكز الحضرية في جنوب شرق تركيا ذي الأغلبية الكردية، وامتدّ -في بعض الأحيان- إلى قلب أكبر المراكز الحضرية في البلاد إلى أن انتقل القتال بحلول عام 2019 إلى شمال العراق وشمال سوريا، بعد طرد الجيش التركي المزيد من المسلحين خارج الحدود التركية.
ووفقًا لإحصاء القتلى الذي أجرته مجموعة “الأزمات الدولية”، والذي تم تحديثه آخر مرة في 20 يناير/كانون الثاني الفائت، فقد قُتل على الأقل 7152 شخصًا في اشتباكات أو هجمات إرهابية منذ 20 يوليو/تموز 2015 في تركيا وشمال العراق، بينهم 1494 من أفراد قوة أمن الدولة، و4786 مسلح حزب العمال الكردستاني.
وتفترض مجموعة الأزمات الدولية، أن إجمالي وفيات حزب العمال الكردستاني أعلى من هذا الإحصاء المعلن. فحتى منتصف عام 2023، قالت أنقرة إنه تم “تحييد” ما يقرب من 40 ألف مسلح (إما بالقتل أو الأسر أو الاستسلام) منذ استئناف الأعمال العدائية في يوليو 2015، بما في ذلك في شمال سوريا.
الأثر السياسي والعسكري على قسد
رحب قائد “قوات سوريا الديمقراطية” في سوريا، مظلوم عبدي، بقرار قرار حزب العمال الكردستاني وأعرب عن أمله في أن “تبادر جميع الأطراف المعنية باتخاذ خطوات مهمة”.
وقال عبدي، عبر تغريدة في موقع التواصل الاجتماعي “إكس” أنه: “كان لحزب العمال الكردستاني دور تاريخي في الشرق الأوسط خلال المرحلة المنصرمة، وكلنا ثقة بأن هذه الخطوة ستمهد الطريق أمام مرحلة جديدة من السياسة والسلام في المنطقة”.
وكان عبدي قد رفض في وقت سابق أي إشارة إلى أن حل حزب العمال الكردستاني سيؤثر على قواته، قائلًا: “لنكن واضحين، هذا الأمر يخصّ حزب العمال الكردستاني فقط وليس له علاقة بنا هنا في سوريا”.
ومن المعلوم أن العلاقة بين حزب العمال الكردستاني وذراعه السوري حزب الاتحاد الديمقراطي حيوية لتأثيرهما على المعادلة الأمنية والسياسية شمال شرق سوريا.
وتشكل وحدات حماية الشعب (YPG) ووحدات حماية المرأة (YPJ) الجناحين المسلحين لحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) الذي تأسس 2003. وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) هي جماعة شاملة تضم هذين الجناحين العمود الفقري لها، إضافة إلى العديد من الجماعات غير الكردية.
تلعب قسد على حبلين متناقضين، فلطالما كانت تسعى عبر تصريحات قياداتها لإبراز استقلاليتها عن حزب العمال، لكن بالمقابل لا يمكن إخفاء قلقها من نتائج هذا القرار، والذي يمكن أن يضعف مفاوضاتها مع الحكومة السورية، خاصة إذ ما بدأ المقاتلون الأجانب وكوادر قنديل بالانسحاب من صفوفها، فحسب صحيفة الغارديان، أن قرار حزب العمال حلّ نفسه أدى لزيادة عزلة قوات قسد المتحالفة معه وباتت تتعرض لضغوط متزايدة شمال شرق سوريا.
ومنذ الإطاحة بنظام الأسد في ديسمبر/كانون الأول الماضي، وإعلان القيادة الجديدة عزمها توحيد البلاد، فتحت قسد بوابة التفاوض مع دمشق، لا سيما في ظل استمرار تحليق الطائرات التركية المسيرة في شمال شرق سوريا من جهة، وإشارات الرئيس ترامب بسحب القوات الأمريكية من سوريا من جهة أخرى.
وبناء على ما سبق يمكن رسم ترجيحات باستجابة وحدات حماية الشعب لطلب أوجلان، إذا طلب منهم التصالح مع تركيا، حتى لو نصح بعض القادة في قنديل المجموعة بخلاف ذلك.
في حديثه لنون بوست، يشير مدير ومؤسس مركز رامان، الباحث المتخصص في الشأن الكردي، بدر ملا رشيد، إلى أن قسد أعلنت منذ بداية عملية السلام الحالية موقفًا إيجابيًا منها، وبالمقابل صرحت بأنها كتنظيم سوري بمنأى عن حل نفسها عسكريًا بناءً على قرار حزب العمال، وباعتبار توقيعها اتفاقًا مع الرئيس السوري سابقًا، تكون منخرطة ضمن عملية اندماج وحل في الجيش السوري.
ويتوقع الباحث رشيد، أن القرار من الناحية السياسية سيصب لصالح قسد، في حال استمر الاستقرار الحالي في سوريا، وازدادت سويّته خلال الفترة القادمة، لأنه سيكون لدى قسد ومظلتها السياسية “مسد” وحزب سوريا المستقبل المساحة الكافية للانخراط في العملية السياسية السورية كحزب سوري عابر للقوميات بأغلبية كردية وتركيزٍ في شمال سوريا.
من جهة أخرى، يمكن لأي عملية السلام -حال نجاحها- أن تفتح آفاقًا جديدة للتعاون بين الفصائل الكردية المتنافسة، فحسب مركز الدراسات العربية الأوراسيةـ أن أنقرة لطالما كانت قلقة بشأن مكاسب حزب العمال الكردستاني في شمال سوريا من خلال قوات سوريا الديمقراطية، ولكن إذا ضُمِّنَت الفصائل الموالية للحزب الديمقراطي الكردستاني (البارزاني) في أي إدارة مستقبلية تحكم شمال سوريا إلى جانب العناصر المؤيدة لحزب العمال الكردستاني، فقد يساعد ذلك على تخفيف التوترات بين هذه الجماعات وتركيا.
موقف تركيا من قسد
تَعزّزَ موقف تركيا وتأثيرها في سوريا بعد سقوط النظام، حيث طالبت بحل قوات قسد، وطرد قادة التنظيم من سوريا، وهددت بعملية عسكرية تركية لسحق الجماعة حال عدم تلبية مطالبها، وفق تعبيرها.
لكن الفوائد المباشرة لاتفاق تركيا مع حزب العمال الكردستاني ستكون مباشرة في سوريا، فتفكيك الجماعة قد يُحدث تحولًا جذريًا في علاقات تركيا مع قسد، التي طالما اعتبرتها ذراع العمال الكردستاني.
حسب معهد “وشنطن بوست”، فإنه إذا ما نجحت دعوة أوجلان المتوقعة لنزع السلاح، فستكون أنقرة منفتحة على العمل مع حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، الجناح السياسي لشركاء واشنطن الرئيسيين في مكافحة الإرهاب في سوريا، وحدات حماية الشعب/ قوات سوريا الديمقراطية.
ولتحقيق هذه الغاية، قد تشجع تركيا الحكام الجدد في دمشق على تعزيز مشاركة حزب الاتحاد الديمقراطي في النظام السياسي السوري.
وقد يشمل ذلك دعم مرشحي الحزب في انتخابات رئاسة البلديات وغيرها من المنافسات المحلية، على غرار ما ورد في عرض أردوغان استعادة مقاعد رئاسة البلديات لحزب الديمقراطية في تركيا (مع أنه قد يضغط على حزب الاتحاد الديمقراطي لتغيير اسمه قبل المضي قدمًا، وبالتالي قطع صلاته رسميًا بحزب العمال الكردستاني).
يرى محمود علوش، الباحث في الشأن التركي، أن أنقرة تأمل أن تؤدي عمليات السلام الجديدة مع حزب العمال إلى معالجة كافة الإشكاليات المرتبطة مع الحزب، ولا سيما تلك الموجودة في دول الجوار وعلى الأخص قوات قسد في سوريا.
ويضيف علوش لـ”نون بوست”، أن تركيا تراهن على اتفاقية الاندماج التي أبرمتها قسد مع الحكومة السورية قبل أشهر، وذلك من أجل التوصل إلى تسوية سياسية لمعالجة هذه المعضلة بما يحقق مصالح أمنها القومي، ولا سيما أن الظروف المحيطة بهذا الاتفاق تعظّم من فرص نجاحه، إما على مستوى حاجة قوات سوريا والرئيس الشرع إليها، أو على مستوى الانسجام التركي-الأمريكي في رعاية هذا الاتفاق، أو على مستوى عملية الحل الجديدة بين حزب العمال وتركيا والتي تشكل دفعة قوية لمسار الاندماج.
ويبدو أن تركيا بطبيعة الحال حذرة لدرجة كبيرة في تقييم توقعاتها إزاء اتفاقية دمج قسد، لكنها تراهن بدرجة أساسية على اتفاقية الاندماج لمجموعة من الاعتبارات، عدا عن استعدادها لممارسة ضغوط تدفع باتجاه هذه التسوية في حال وجدت محاولة تنصل من قسد أو سعي لكسب مزيد من الوقت من أجل الرهان على تغير الظروف السورية والدولية.
“أولوية أنقرة في هذه المرحلة هي إتمام اتفاقية اندماج قسد في الدولة السورية الجديدة، وهذه الاتفاقية ليست حاجة لتركيا فقط من أجل تجنب عملية عسكرية في سوريا أو لتجنب تصعيد مع الولايات المتحدة في سوريا أو لتجنب المزيد من الضغوط على دمشق، إنما هي حاجة لأنقرة من أجل إنجاح عمليات الحل والسلام مع العمال الكردستاني”، يقول علوش.
كيف ستستفيد دمشق؟
خطوة حل حزب العمال نفسه، يقوّي موقف الحكومة السورية أمام قسد الراغبة بنموذج حكم ذاتي، وهو ما يجبرها على تسريع قبول شروط دمشق فعليًا ضمن اتفاق آذار/مارس الفائت، والذي ينصّ على دمج المؤسسات المدنية والعسكرية، بما في ذلك حقول النفط والغاز والمعابر الحدودية.
يرى وائل علوان وهو باحث في مركز جسور للدراسات، أن دمشق من المستفيدين الرئيسيين من حل حزب العمال، لذلك فإن هذا القرار سيؤثر بشكل كبير على شمال شرق سوريا وعلى مدى تأثير حزب العمال الذي كان مهيمنًا على قسد، وبالتالي ستكون قسد أكثر طوعًا وسلاسة لإيجاد تفاهمات حقيقة.
ويضيف علوان لـ”نون بوست”، أن قسد ستكون قادرة بقيادتها السورية على إيجاد تفاهمات. كما ستساهم الدولُ الراعيةُ للمبادرة وهي الولايات المتحدة وفرنسا إضافة لتركيا على دعم تقارب أكثر بين دمشق وقسد، وبالتالي من الممكن أن ينفذ الاتفاق، وأن يكون هناك مفاوضات جادة ومثمرة تصل لإدماج حقيقي بين قسد والدولة السورية التي تحاول الابتعاد عن استخدام القوة العسكرية شمال شرق سوريا.
لا شك أن الأيام القادمة ستكون حبلى بتغييرات كبيرة في توازنات القوى شمال سوريا، لكن الثابت أن قوات قسد -إذا ما تمّ الاتفاق بالشكل الذي ترسمه تركيا مع العمال الكردستاني- تكون قد تلقت صفعة قاسية، ولا سيما مع احتمالية كبيرة لانسحاب المقاتلين الأجانب وكوادر قنديل، وتراجع الدعم الأمريكي لصالح الحكومة السورية بعد رفع العقوبات عنها، وهو ما يزيد فرص دمشق لإعادة بسط سيطرتها على كامل البلاد وتعزيز وحدتها.