منذ النكبة، لم تغِب فكرة العودة عن الوعي الفلسطيني، ورغم التهجير والتشريد، والأسلاك التي فصلت اللاجئين عن أرضهم، بقيت العودة حاضرة، لا كشعار فحسب، بل بوصفها مشروعَ فعل مستمر يتجدد مع كل جيل، ويتخذ في كل مرحلة شكلاً جديدًا من أشكال المقاومة.
من التسلل الفردي بعد النكبة إلى دوريات الفدائيين العابرة للحدود، ومن المسِيرات الجماهيرية السلمية على حدود الأراضي المحتلة إلى العبور المسلح الذي فجَّر “طوفان الأقصى”، ظلَّ الفلسطيني يطرق أبواب الوطن بكل ما استطاع إليه سبيلًا، متجاوزًا الجغرافيا والسياسة وموازين القوة.
من النكبة… محاولات العودة الأولى
منذ اللحظة الأولى لنكبة العام 1948، لم يستسلم اللاجئون الفلسطينيون لفكرة الاقتلاع والشتات، فعلى الرغم من المجازر الوحشية التي ارتكبتها العصابات الصهيونية، وما تلاها من تهجير قسري لمئات الآلاف من الفلسطينيين وتدمير منظم لمدنهم وقراهم، لم يُسقِط الفلسطينيُّ حقَّه في العودة، بل بادر إليه بقراره الفردي والجماعي، متجاوزًا وقعَ الكارثة النفسية والجغرافية التي لحقت به.
بين العامين 1948 و1956، سجَّل التاريخ موجاتٍ متواصلةً من محاولات عبور الحدود، خاصةً في الشمال والجنوب، ضمن ما عُرف بظاهرة “التسلل”، وهي التسمية التي أطلقتها سلطات الاحتلال على هذه العودة الذاتية. وعلى الرغم من أن الخطاب السياسي الفلسطيني لم يكن قد تبلوَر بعد حول حق العودة، فإن هذه المحاولات كانت أول أشكال ممارسته على الأرض.
كما يوضح الباحث علي حبيب الله، كان الاقتلاع وما رافقه من فقر وتجويع الدافعَ المباشرَ لبدء هذه المحاولات، إذ كانت غايات “المتسللين” في الغالب إنسانيةً وشخصية: استعادة بعض ما تركوه خلفهم، أو زيارة قراهم، أو جني محاصيلهم من أراضيهم، أو حتى استرجاع ممتلكات بسيطة من بيوتهم المدمرة. وعلى الرغم من بساطة الدوافع، عدَّتها الدولة العبرية تهديدًا أمنيًّا وجوديًّا، وواجهتها بمنظومة صارمة من الضبط والردع، ظلت تتوسع حتى يومنا هذا.
تشير بعض التقديرات إلى أن ما بين 30 و 90 ألف لاجئ فلسطيني عادوا إلى داخل الأراضي المحتلة خلال السنوات الأولى بعد النكبة، ولو لفترات محدودة. لكن هذه الأعداد أثارت قلق سلطات الاحتلال، التي كانت ترى في هذا المسار خرقًا لمعادلتَي “الأغلبية اليهودية” و”الاستيطان”، خصوصًا إذا أدى إلى تكاثر التجمعات الفلسطينية أو عودة دائمة للاجئين إلى أراضيهم.
ويعلِّق المؤرخ الإسرائيلي، ميرون بنڤنِستي، على هذه الظاهرة بالقول إن سلطات الاحتلال مارست قمعًا شديدًا ضد المتسللين خشية أن يُنظر إليهم بوصفهم أصحاب حق، مدفوعين بدوافع إنسانية واقتصادية ووطنية، ما من شأنه أن يُكسِب أفعالَهم شرعيةً رمزيةً وسياسية.
الخوف من عكس نتائج النكبة: المواجَهة الإسرائيلية المبكرة
في مواجَهة المحاولات الفلسطينية المتواصلة للعودة، تعاملت “إسرائيل” مع المسألة بوصفها تهديدًا وجوديًّا قد ينسف أحد أبرز “منجزات” النكبة: خلق أغلبية يهودية على حساب السكان الأصليين، والسيطرة على الأرض دون عودة أصحابها.
منذ يونيو/ حزيران 1948، صاغ دافيد بن غوريون ويوسف فايتس السياسة الرسمية لرفض عودة اللاجئين، وأُقرِّت حكوميًّا في واحدة من أُولى الخطوات الاستراتيجية لتثبيت نتائج النكبة بالقوة.
وجاء ذلك على الرغم من تبنِّي المجتمع الدولي، ممثَّلًا بالجمعية العامة للأمم المتحدة، للقرار 194 الصادر في ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه، والذي نصَّ صراحةً على “حق اللاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش في سلام مع جيرانهم في أقرب وقت ممكن عمليًّا”، مع تعويض من لا يرغب في العودة عن ممتلكاته المتضررة أو المصادرة.
شكَّل القرار الأممي من وجهة نظر القانون الدولي وثيقةً مرجعيةً واضحةً تكرِّس حق العودة بوصفه حقًّا شخصيًّا وفرديًّا لا يجوز التنازل عنه أو مصادرته، ولا يُمكن لأي طرف آخر –بما في ذلك الدول أو المنظمات– أن يقرره نيابةً عن اللاجئين أنفسهم. كما أن منع العودة، كما مارسته “إسرائيل”، يُعدُّ خرقًا سافرًا لأحكام القانون الدولي، ويقع في دائرة الأفعال العدوانية.
ومع توقيع اتفاقيات الهدنة تباعًا في العام 1949 مع مصر، ولبنان، والأردن، وسوريا، كانت “الفرصة الممكنة” التي يشير إليها القرار 194 متاحة، وكان يفترض أن تُنفَّذ خلالها عودة اللاجئين إلى ديارهم. إلا أن “إسرائيل” استمرت في رفضها، بل عمدت إلى سنِّ تشريعات تمنع عودتهم وتضفي صبغةً قانونيةً داخليةً على الاستيلاء على ممتلكاتهم.
ولم تكتفِ الدولة العبرية بهذا الرفض، بل ظلت على مدار عقود تمارس سياسةً قمعيةً تجاه كل محاولات العودة الفردية أو الجماعية، وتضعها في خانة “الخطر الأمني”، على الرغم من أن معظم من حاولوا العبور كانوا من أصحاب الأرض، تحرِّكهم دوافع إنسانية وعاطفية تتعلق بالمكان والذكريات والملكية.
وفي كل عام، تجدد الجمعيةُ العامةُ للأمم المتحدة قراراتِها الداعيةَ إلى احترام حقوق اللاجئين في العودة، أو –على الأقل– في استغلال ممتلكاتهم، سواءٌ بالإيجار أو الزراعة أو الانتفاع. إلا أن الاحتلال يواصل تجاهل هذه القرارات ورفض تطبيقها، في استمرار مباشر لما يمكن وصفه بالإنكار القانوني والسياسي لحق العودة، بل والسعي إلى تحويل النكبة إلى حالة دائمة.
لكن ما غفلت عنه السياسات الصهيونية أن هذا الإصرار على نفي العودة لم يُلغِ الفكرةَ من وعي الفلسطينيين، بل رسَّخها أكثر بوصفها جوهرًا للصراع.
دوريات الفدائيين: العبور إلى فلسطين بالمقاومة
بعد أن واجه الاحتلال محاولاتِ العودة الفردية بالقمع والقتل، برز شكل جديد من أشكال العبور إلى فلسطين، لم يكن لاسترداد المتعلقات أو المحاصيل، بل لاسترداد الوطن بالسلاح. كانت هذه زمن دوريات الفدائيين، وهي محاولات عسكرية منظَّمة لاجتياز الحدود نحو الداخل الفلسطيني المحتل، تنفيذًا لعمليات نوعية تَحمل توقيعَ الثورة الفلسطينية ومقاومتها.
جاء التصاعد النوعي لهذه العمليات عقب نكسة العام 1967، حين انهارت الآمال المعلَّقة على الجيوش العربية، واحتُل ما تبقَّى من فلسطين. ومع هذه الخيبة، بدأ الفلسطينيون في إدراك أن التحرير لا يكون إلا بمبادرتهم الذاتية، فتصاعدت عمليات العبور العسكري، من غزة وسيناء ونهر الأردن وجنوبي لبنان، في اتجاه العمق المحتل، في ما بات يعرف بـ”الدوريات”.
تحولت هذه الدوريات إلى نمط مركزي في عمل الفصائل الفلسطينية، وتكثفت ما بين 1967 و1970، وخلقت حالةً من الاستنزاف الأمني والعسكري للاحتلال، وأسهمت في زعزعة شعور المستوطنين بالأمان، بل أوقفت مؤقتًا تدفُّق موجات الهجرة الصهيونية، التي رأت في هذه العمليات دليلاً على أن “النكبة لم تُحسم”.
وواجهت “إسرائيل” هذه الظاهرةَ بوصفها أولوية عسكرية عاجلة، خاصةً مع تحوُّل المناطق الحدودية، وخصوصًا الأغوار الأردنية، إلى قواعد انطلاق لهذه الدوريات. وفي هذا السياق، أطلقت في 21 مارس/آذار 1968 حملة عسكرية كبرى لاجتياح بلدة الكرامة الأردنية بهدف القضاء على قواعد الفدائيين ومقراتهم التنظيمية، واغتيال عدد من قادة الثورة الفلسطينية.
إلا أن الفدائيين، بدعم تكتيكي من الجيش الأردني، خاضوا معركة الكرامة ببسالة فاجأت الاحتلال، وأوقعوا في صفوفه خسائر فادحة، شملت مقتل ما يزيد على 28 جنديًّا، وتدمير نحو 30 آلية عسكرية، بينها دبابات ومجنزرات.
وكانت الهزيمة الإسرائيلية في الكرامة ضربة رمزية شديدة الوطأة، لأنها وقعت بعد أقل من عام على النشوة التي سادت المؤسسة الإسرائيلية عقب “الانتصار الخاطف” في حرب الأيام الستة، فظهر العدو مجددًا كقوة قابلة للهزيمة، حين يواجِه مقاومةً ذات تصميم وإرادة.
ولم تكن الكرامة استثناءً، بل تتابعت بعدها عمليات العبور الفدائي إلى داخل الأراضي المحتلة، ومن أبرز نماذجها معركتا وادي شوباش ووادي القلط في الأغوار، واللتان شكَّلتا امتدادًا للدوريات المسلحة نحو العمق الفلسطيني.
ففي وادي شوباش، قُتل قائد كتيبة المظليين موشي بيليس مع عدد من مقاتليه في كمين نفَّذه الفدائيون، تبعته معركة وادي القلط البطولية في ديسمبر/كانون الأول 1968، حين اجتازت مجموعة فدائية مكونة من ثمانية مقاتلين نهر الأردن، واشتبكت مع قوات الاحتلال في تضاريس وعرة غرب أريحا. وعلى الرغم من القصف الجوي والمدفعي المكثف، نجح الفدائيون في قتل اللفتنانت كولونيل تسفي عوفر، قائد وحدة “هاروف”، الذي سقط في أثناء محاولته اقتحام مغارة تحصَّن فيها المقاومون.
لقد مثَّلت هذه النماذج الميدانية صورةً حيةً لحق العودة بالمقاومة، لا بوصفه شعارًا فحسب، بل ممارسة عملية دفع فيها الفلسطينيون أرواحهم، وأربكوا فيها العدو، وأكدوا أن العودة إلى الوطن ممكنة ولو عبر بوابة النار والاشتباك المباشر.
ومع اتساع هذه الظاهرة، لم تقتصر الجغرافيا الفدائية على الضفة الشرقية للأردن أو قطاع غزة، بل امتدت إلى الجنوب اللبناني، الذي تحوَّل منذ أوائل السبعينيات إلى قاعدة انطلاق مركزية لعمليات فصائل المقاومة، خاصةً بعد خروج منظمة التحرير من الأردن عقب أحداث أيلول الأسود.
وردَّ الاحتلال على ذلك بسلسلة من الحملات العسكرية المتتالية، استهدَفت قطعَ طرقِ التسلل الفدائي، وتدمير البنية التحتية للمخيمات والمعسكرات الفدائية في الجنوب اللبناني. وصولًا في النهاية إلى اجتياح لبنان في العام 1982، حين اجتاح جيش الاحتلال العاصمة بيروت للمرة الأولى، وفرض خروج منظمة التحرير ومقاتليها من لبنان، في واحدة من أكبر عمليات الإبعاد القسري للمقاومة الفلسطينية عن حدود فلسطين منذ النكبة.
وعلى الرغم من أن انسحاب المقاومة من لبنان قلَّص من نطاق تنفيذ الدوريات عبر الحدود، فإن هذه المرحلة ظلت محفورة في الوعي الفلسطيني بوصفها العبور الثاني إلى فلسطين، بعد النكبة، لكنها هذه المرة عبر البندقية لا الهجرة.
مسِيرات العودة الكبرى: الجماهير تَعرف طريقها
بعد محاولات التسلل الفردي ودوريات الفدائيين المسلحة، جاءت اللحظة التي قررت فيها الجماهير ذاتها أن تتقدَّم إلى خط التماس، بأجسادها العارية وحقها الموروث. هكذا وُلدت فكرة مسِيرات العودة الشعبية، التي أعادت الاعتبار إلى العودة بوصفها فعلًا شعبيًّا جماهيريًّا، في مواجهة الاحتلال والخذلان الدولي، والجمود السياسي الداخلي.
بدأت أولى هذه المحاولات في 15 أيار/مايو 2011، حين انطلقت “مسِيرة العودة إلى الأراضي المحتلة عام 1948″ بمشاركة آلاف اللاجئين الفلسطينيين من لبنان وسوريا والأردن، إضافةً إلى مسِيرات داخل الضفة وغزة.
وجاء هذا الحراك متأثرًا بموجة الثورات العربية في ذلك العام، وحمل معه أملًا بأن تتحول مشاهد الميادين إلى مشهد عودة جماهيرية لفلسطين. ونجح بعض المتظاهرين فعلاً في اختراق الحدود في مجدل شمس بالجولان السوري، والدخول إلى الأرض المحتلة، محقِّقين بذلك نصرًا رمزيًّا أعاد القضية إلى جذورها الأولى: اللاجئون والعودة.
وعلى الرغم من أن المبادرة لم تكتمل كخيار استراتيجي، نظرًا إلى غياب القرار الوطني الموحد، وضعف دعم القوى السياسية ومحاصرة الدول العربية للنموذج، فإنها شكلت إنذارًا مبكرًا بقدرة الجماهير على إعادة فرض حق العودة، حتى ولو بشكل رمزي، على الأجندة الإقليمية والدولية.
بعد سبع سنوات، وفي ظل انسداد سياسي واقتصادي غير مسبوق، واندفاعة إقليمية للتطبيع مع الاحتلال، تحولت الفكرة من مبادرة شبابية إلى مشروع وطني واسع. ففي 30 آذار/مارس 2018، ومع ذكرى يوم الأرض الفلسطيني، انطلقت في قطاع غزة واحدة من أوسع موجات الانتفاض الشعبي منذ الانتفاضة الثانية، حملت اسم “مسِيرات العودة وكسر الحصار“، تحت قيادة “الهيئة الوطنية العليا لمسِيرات العودة”.
تدفقت الجماهير الفلسطينية إلى مشارف السياج الفاصل شرق القطاع، في مشهد لم تشهده غزة منذ سنوات، وبلغ عدد المشاركين في يوم الانطلاق قرابة 100 ألف متظاهر، على الرغم من علمهم المسبق أن الاحتلال لن يتردد في استخدام الرصاص الحي.
وكانت جمعة 14 أيار/مايو 2018 من أعنف محطات هذه المسِيرات، خاصةً مع تزامنها مع نقل السفارة الأميركية إلى القدس، إذ ارتقى أكثر من 65 شهيدًا في ذلك اليوم وحده.
أنشأت الهيئةُ خمسة مخيمات شعبية قرب السياج الحدودي في محافظات القطاع الخمس، نُصبت فيها “خيام العودة”، وتحولت تلك المناطق إلى ساحات تحشيد وتعبئة سياسية وثقافية، تُروى فيها حكايات اللجوء، وتُغنَّى فيها الأهازيج الوطنية، ويتحول فيها الحنين إلى فعل نضالي متجدد.
لم تكن المسِيرات فعلاً احتجاجيًّا فحسب، بل شكَّلت أكبر تحرك وحدوي شعبي في قطاع غزة منذ سنوات، وأعادت ترتيب أولويات الخطاب السياسي الفلسطيني، الذي كان يُدفَع حينها نحو الهامش، بفعل صفقة القرن والهرولة العربية نحو الاحتلال. كما أظهرت المسِيرات إبداعًا شعبيًّا في أدوات النضال، من البالونات الطائرة، إلى وحدات الإرباك الليلي، والحراك البحري على شاطئ غزة.
وعلى الرغم من سلمية التحرك، واجهه الاحتلال بعنف مفرط، وأسرف في استخدام القوة، فسقط في خلال عامين أكثر من 215 شهيدًا، بينهم 47 طفلًا، و4 مسعفين، وصحافيين، وذوي إعاقة، كما أصيب قرابة 19 ألفًا، كثير منهم بإعاقات دائمة. ووثَّقت المنظمات الحقوقية هذه المجازر، لكن دون أن تلقى ردعًا حقيقيًّا للمحتل.
وعلى الرغم من الثمن الباهظ الذي دفعه الفلسطينيون من دماء الشهداء والآلاف من الجرحى والإصابات المعطِّلة، فإن مسِيرات العودة الكبرى نجحت في إعادة وضع حق العودة في واجهة النضال الفلسطيني، لا بوصفه كشعار نظري يُردَّد في المناسبات، بل بوصفه حراكًا ميدانيًّا جماهيري قابلًا للتنظيم والتراكم والتجدد.
مثَّلت المسِيرات فعلًا مباشرًا يستند إلى الإرادة الشعبية، ويستنهض طاقات المجتمع بكافة فئاته، الأمر الذي أعاد الاعتبار إلى مركزية قضية اللاجئين، وربطها بمشهد سياسي متحول محليًّا وإقليميًّا.
وفي موازاة ذلك، ساهمت المسِيرات في كسر المعادلات السياسية التي سعى الاحتلال إلى ترسيخها تجاه قطاع غزة، باعتباره كيانًا هامشيًّا منزوع السياسة ومحاصرًا بحسابات “الأمن الإنساني” فحسب. فقد أرغمت المسِيرات الاحتلال على التعامل مع غزة بوصفها فاعلًا سياسيًّا وشعبيًّا لا يمكن تجاهله، وأعادت القطاع إلى قلب المعادلة الوطنية، ليس فقط كجغرافيا محاصرة، بل بوصفه منصة اشتباك جماهيري وسياسي وأمني وإعلامي، تُربك الاحتلال وتُعيد تعريف قواعد اللعبة.
العبور الكبير: “طوفان الأقصى” وحلم التحرير
في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، دوَّت لحظة العبور الكبرى، حين قررت المقاومة الفلسطينية أن تَفتَح آخرَ أبواب العودة، لا بالتظاهر السلمي، ولا بالتسلل الفردي، بل بالقوة المنظَّمة والاشتباك المباشر، في عمليةٍ فاجأت العالم، وأسقطت المنظوماتِ التي طالما عُدَّت حصونًا منيعةً لـ”إسرائيل”: الردع، والإنذار المبكر، وهيمنة التقنية، والسيطرة الجوية، والاستعلاء الأمني.
جاء “طوفان الأقصى” بوصفه التعبير الأعنف والأوضح عن أن الفلسطيني لم يغادر أرضه روحيًّا ولا سياسيًّا، وأنه قادر على اختراق الجغرافيا المصطنعة، وكسر واقع العزل والفصل، متى قرر، وأن يداهم الأرض التي سُلبت منه تحت راية “العودة”، لكن هذه المرة بالبندقية وبالإرادة الجمعية المدروسة.
لم يكن “طوفان الأقصى” فعلًا عابرًا ولا مغامرةً منفصلة، بل كان تتويجًا لمسار تاريخي متراكم، امتد من النكبة ومحاولات العودة الفردية، مرورًا بدوريات الفدائيين ومسِيرات العودة، وصولًا إلى لحظة الانفجار الكبير، حيث داست أقدام آلاف المقاومين الأرض المحتلة، وأزالت في ساعات ما بناه الاحتلال في سبعة عقود من استثمار في الردع وبناء الحدود.
كان العبور الفدائي في 7 أكتوبر/تشرين الأول الأوسع والأعمق منذ العام 1948. لم تشهد “إسرائيل” في تاريخها عمليةً بريةً بهذه الجرأة والاتساع. فُتحت عشرات الثغرات على طول السياج الفاصل، وتدفقت الوحدات من البر والجو والبحر في وقتٍ واحد، وتمَّت السيطرة على قواعد عسكرية ومواقع حساسة، وأُسِر أكثر من مِائتَي جندي ومستوطن، وقتل المئات، في مشهد أقرب إلى صدمة وجودية للاحتلال.
الجيش الذي يُقدِّم نفسه واحدًا من أقوى جيوش العالم شُلَّت حركته لنحو ست ساعات، وفُقِدت السيطرة على جنوبي الأراضي الفلسطينية المحتلة، ما أدى إلى تحييد فرقة غزة العسكرية بالكامل، وسقوط هيبة المنظومة الأمنية الإسرائيلية، وسقوط معها أوهام “الاستقرار”.
بالنسبة إلى الفلسطينيين، لم يكن هذا الهجوم عملية نوعية فقط، بل كان فعلًا تحرريًّا رمزيًّا. لقد جسَّد حلمَ العودة كما لم يحدث من قبل، وفتح جغرافيًّا ما كان يُعتقد أنه بات مغلقًا، ليقول بصوتٍ مدوٍّ: إن حق العودة ليس أمنية، بل احتمال واقعي، وإن الفلسطيني يستطيع أن يقلب المعادلة متى قرر، ويفرض الفعل بدلًا من انتظار الفرج.
جاء “طوفان الأقصى” في لحظة بدا فيها أن القضية الفلسطينية تتعرض للتصفية النهائية. صفقة القرن، والتطبيع العربي، واختناق غزة، وتقسيم الضفة، وتهميش القدس، كل ذلك تراكم في لحظة شعور بالخذلان العربي والتواطؤ الدولي. وعندها، لم يَعُد أمام المقاومة من خيار سوى أن تَقرع جدرانَ العالم بالرصاص والنار، لتقول: نحن هنا، لم نغادر، وسنعود.
قَطعَت المقاومةُ بهذا الفعل الطريقَ على وهم “نهاية الصراع”، وفتحت مسارًا جديدًا في تاريخ المواجَهة، مسارًا لن يتوقف عند حدود غزة، ولن يمكن حصر موجاته. فقد أصبح “طوفان الأقصى” علامةً فارقةً في الوعي العربي والعالمي، وأعاد القضية الفلسطينية إلى مركز التفاعل الدولي، لا بوصفها قضيةً إنسانيةً فقط، بل قضية تحرر حيٍّ ومفتوح.
وهكذا، لم يعد “طوفان الأقصى” مجرد هجوم، بل فعل عودة بالسلاح، أعاد تعريف مفهوم “العودة” نفسه: من الحنين إلى الأرض، إلى استعادتها بالقوة المنظمة. وإذا كانت محاولات التسلل، ودوريات الفدائيين، ومسِيرات العودة قد فَتحت كل واحدة منها ثغرةً في جدار النكبة، فقد فَتحَ “الطوفانُ” البابَ الكبير، ليطل الفلسطيني على أرضه، ليس فقط كشاهدٍ على ضياعها، بل كمشروعٍ عملي لاستعادتها.
من شتات النكبة إلى “الطوفان” وكسر المعادلات
منذ لحظة الاقتلاع الأولى في النكبة، لم يتوقف الفلسطيني عن السعي إلى العودة، وإن تعددت السبل وتشكلت الأدوات وفقًا للسياق والتحديات، ظلَّ جوهر الفعل الفلسطيني واحدًا: استعادة الأرض وكسر المعادلة التي فُرضت عليه بالقوة.
لقد انتقل الفلسطيني، في هذا المسار الطويل، من موقع الشاهد المقهور إلى موقع الفاعل المقتحم، ومن الشتات المتناثر إلى العبور المتكامل، ليُعيد تعريفَ المعركة، وليثبت أن القضية الفلسطينية لا تموت، وأن زمن الحسم الصهيوني وهم، وأن المعادلات يمكن كسرها.. إذا امتلك الشعب إرادته.