تشهد السياسة الدولية “تعبئة جماعية” من أجل دعم استقرار سوريا، على حد تعبير وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو، بلغت ذروتها بإعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب رفع العقوبات المفروضة على دمشق، ولقائه بالرئيس أحمد الشرع، بدعم ووساطة تركي سعودي قطري.
وطوال أربعة عقود، فرضت الولايات المتحدة عشرات العقوبات على سوريا، استهدفت أحيانًا بشكل خاص شخصيات نافذة في نظام الأسد، فيما استهدف أخرى مؤسسات الدولة وأجهزتها وسمعتها والمتعاملين معها. وقد عبّر الرئيس ترامب عن دهشته من قدم وحجم هذه العقوبات التي وصفها بـ”المُشلّة”، فيما هُرع المسؤولون في إدارته لمحاولة استيعاب كيفية إلغاء العقوبات الكثيرة والتي سُجل أولها عام 1979 وما يزال نافذًا حتى اليوم.
يستعرض هذا التقرير طبيعة العقوبات الأميركية التي كانت مفروضة على سوريا، والتي طالت قطاعات حيوية مثل الاقتصاد والمال والتجارة والسياسة، وتسببت في إضعاف البنية التحتية ومفاقمة الأزمات الاجتماعية والمعيشية. كما يناقش الآليات التي ستعتمدها واشنطن في اتخاذ قرار الرفع، سواء على مستوى الإجراءات القانونية والمؤسسية، أو عبر التفاهمات السياسية مع الحلفاء الإقليميين.
العقوبات بين التنفيذي والتشريعي
قبل أن تبدأ العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا بأوامر تنفيذية رئاسية، كان تصنيفها منذ عام 1979 كدولة راعية للإرهاب هو الأساس القانوني الأول الذي فُرضت بموجبه قيود صارمة استمرت لعقود، وقد نتج عن هذا التصنيف مجموعة من العقوبات التلقائية تُفرض تلقائيًا بموجب القانون الأميركي على أي دولة تُدرَج في هذه القائمة، أبرزها: حظر تصدير الأسلحة والمعدات العسكرية، وقف المساعدات الاقتصادية والإنمائية، وفرض قيود على التعاملات المالية والمصرفية، بما في ذلك استهداف البنك المركزي السوري.
أثّر هذا التصنيف بشكل مباشر على مكانة سوريا الدولية، وحدّ من قدرتها على الوصول إلى الأسواق والمؤسسات المالية العالمية، ورغم مرور أكثر من أربعة عقود على صدوره، لا يزال هذا التصنيف ساريًا حتى اليوم، ويُعد من أقدم وأثقل القيود القانونية التي تعرقل إعادة تطبيع العلاقات الرسمية بين واشنطن ودمشق.
وتتسم العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا بتعقيد بنيوي يعكس تعدد مصادرها القانونية واختلاف آليات إصدارها ورفعها، إذ تنقسم هذه العقوبات إلى نوعين رئيسيين: عقوبات صادرة بأوامر تنفيذية رئاسية، وأخرى مستندة إلى تشريعات أقرها الكونغرس.
ويحمل هذا التمييز دلالات جوهرية في ما يتعلق بمرونة تعديل العقوبات أو إلغائها؛ فبينما تتيح الأوامر التنفيذية للرئيس سلطة فرض العقوبات أو تعديلها دون الرجوع إلى الكونغرس، تمثل العقوبات التشريعية التزامًا قانونيًا لا يمكن رفعه إلا من خلال عملية تصويت تستوجب موافقة الأغلبية في مجلسي النواب والشيوخ.
ومنذ عام 2004، صدرت ثمانية أوامر تنفيذية رئيسية استُخدمت لفرض أو توسيع العقوبات على سوريا، وتوزعت على فترتين: ما قبل اندلاع الثورة السورية في مارس/ آذار 2011، وما بعدها. وفيما يلي تفصيل لهذه الأوامر وفق تسلسلها الزمني:
1. الأمر التنفيذي 13338 – مايو/أيار 2004
أصدره الرئيس جورج بوش الابن بموجب “قانون السلطات الاقتصادية الطارئة الدولية” (IEEPA)، وأعلن فيه حالة طوارئ وطنية في العلاقات مع سوريا. جاء هذا الأمر تنفيذًا لـ”قانون محاسبة سوريا”، وفرض عقوبات على كيانات وأفراد متورطين في دعم الإرهاب، زعزعة الاستقرار الإقليمي، وامتلاك أسلحة دمار شامل. تضمن حظر تصدير سلع معينة، وتجميد أصول أفراد ومؤسسات.
2. الأمر التنفيذي 13399 – أبريل/نيسان 2005
صدر بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، ووسّع العقوبات لتشمل شخصيات سورية رفيعة اعتُبرت مسؤولة عن زعزعة استقرار لبنان. الهدف منه كان زيادة الضغط على دمشق بسبب تدخلها في الشأن اللبناني.
3. الأمر التنفيذي 13460 – فبراير/شباط 2008
استهدف هذا القرار أفرادًا ضالعين في أعمال فساد في مؤسسات الدولة السورية، وركّز على تجميد الأصول وحظر التعاملات المالية مع شخصيات تعتبرها واشنطن مساهمة في تمكين النظام السوري من مواصلة سياساته القمعية.
4. الأمر التنفيذي 13572 – أبريل/نيسان 2011
شكّل بداية موجة جديدة من العقوبات المرتبطة بالقمع الداخلي، أصدره الرئيس باراك أوباما في أعقاب اندلاع الاحتجاجات، ووسع من نطاق حالة الطوارئ لتشمل “انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان”، ما سمح باستهداف المسؤولين الأمنيين المتورطين في العنف ضد السوريين.
دموع الفرح تغلب وزير الاقتصاد السوري أنثاء حديثه عن تأثير رفع العقوبات عن سوريا pic.twitter.com/vmXan76Bca
— نون بوست (@NoonPost) May 14, 2025
5. الأمر التنفيذي 13573 – مايو/أيار 2011
استكمل المسار العقابي السابق، واستهدف بشكل مباشر شخصيات عليا في نظام الأسد، من بينهم بشار الأسد شخصيًا، عبر تجميد ممتلكاتهم ومنع التعامل معهم، في رسالة سياسية واضحة بتحميل القيادة السورية مسؤولية القمع.
6. الأمر التنفيذي 13582 – أغسطس/آب 2011
يُعتبر من أوسع الأوامر التنفيذية تأثيرًا. إذ فرض تجميدًا شاملًا على جميع أصول الحكومة السورية داخل الولايات المتحدة، ومنع المواطنين والشركات الأميركية من الاستثمار في سوريا أو تصدير الخدمات إليها، كما حظر استيراد النفط السوري ومشتقاته.
7. الأمر التنفيذي 13606 – أبريل/نيسان 2012
استهدف الأدوات التكنولوجية المستخدمة في عمليات القمع والمراقبة الرقمية، وفرض عقوبات على شركات وأشخاص يزودون النظام السوري والإيراني بتقنيات تسهّل انتهاكات حقوق الإنسان، مثل مراقبة الاتصالات والإنترنت.
8. الأمر التنفيذي 13608 – مايو/أيار 2012
ركّز على مكافحة التهرب من العقوبات، واستهدف أفرادًا وكيانات أجنبية ساهمت في التحايل على العقوبات المفروضة على سوريا وإيران، مما منح صلاحيات واسعة لوزارة الخزانة لتوسيع قوائم العقوبات وفق معايير تتعلق بمساعدة الأطراف الخاضعة للعقاب.
يُتوقّع أن تكون هذه الأوامر التنفيذية هي أول ما يشمله قرار الرئيس دونالد ترامب الأخير برفع العقوبات عن سوريا، نظرًا لكونها تقع بالكامل ضمن صلاحيات السلطة التنفيذية، ولا تتطلب أي تدخل من الكونغرس. وتشمل هذه العقوبات تجميد الأصول، وحظر التعاملات المالية والتجارية، وقيودًا على الاستثمار، وبذلك، فإن قرار ترامب يمهّد فعليًا لرفع جزء كبير من العبء الاقتصادي.
العقوبات التشريعية
على خلاف الأوامر التنفيذية التي يمكن للرئيس الأميركي تعديلها أو إلغاؤها بمرسوم رئاسي، ثمّة مجموعة من العقوبات المفروضة على سوريا تنبع من قوانين أقرها الكونغرس الأميركي، ما يجعل إلغاءها أو تعديلها غير ممكن من الناحية القانونية إلا عبر مسار تشريعي كامل. هذه القوانين تُعد أكثر رسوخًا وتأثيرًا، لأنها تمثّل إرادة تشريعية ثنائية بين مجلسي النواب والشيوخ، وتتطلب لأي تغيير إعادة التصويت والموافقة من الأغلبية في كلا المجلسين.
من أبرز هذه القوانين التي تشكّل العمود الفقري للعقوبات التشريعية على سوريا ما بعد عام 2011، يبرز “قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين”، و “قانون مكافحة الكبتاغون 1 و 2” كأشد التشريعات الأميركية صرامة وشمولًا ضد النظام السابق وداعميه.
دخل قانون قيصر حيّز التنفيذ في يونيو/حزيران 2020، بعد أن تم تمريره ضمن موازنة وزارة الدفاع الأميركية لعام 2020، بالاستناد إلى مبررات تتعلق بحقوق الإنسان والمساءلة الدولية. وتتجلى فعالية القانون في بنيته العقابية الموسعة التي تطال “الأطراف الثالثة”، أي الدول أو الشركات أو الأفراد الذين تعاملوا مع داعمي النظام، ما عمّق من عزلة سوريا السياسية والاقتصادية، وخلق بيئة قانونية رادعة حالت دون انخراط أي جهة دولية في الاستثمار.
كلمة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول اللقاء مع الرئيس أحمد الشرع pic.twitter.com/of0x58YT00
— Qasem (@Qasemqt) May 14, 2025
أما “قانون مكافحة الكبتاغون”، الذي صدر على مرحلتين: الأولى في ديسمبر/كانون الأول 2022، والثانية في أبريل/نيسان 2024، تحت اسم “الكبتاغون 2” لتوسيع صلاحيات التنفيذ ورفع فاعلية العقوبات. فيركّز بشكل خاص على تجفيف منابع تمويل النظام السوري السابق من خلال استهداف صناعة وتهريب الكبتاغون التي تحوّلت إلى مصدر دخل رئيسي للنظام وشبكاته. وهو ما دفع الكونغرس إلى تعطيل هذه الشبكات، ومعاقبة كل من يشارك في تمويلها أو تسهيلها أو غضّ الطرف عنها.
يشكل هذين القانونين جزءًا من المنظومة التشريعية الملزمة التي لا يمكن للرئيس إلغاؤها أو تعديلها بقرار تنفيذي منفرد، إذ يتطلب أي تغيير في هذه القوانين تقديم مشروع قانون جديد يحظى بموافقة الأغلبية في مجلسي النواب والشيوخ، وهو ما يستدعي مسارًا تشريعيًا دقيقًا، يتطلب حشد دعم سياسي واسع وتراكم في العمل الدبلوماسي.
عقوبات الطوارئ الوطنية
من بين الأدوات القانونية التي تعتمدها الولايات المتحدة في فرض العقوبات على الدول والكيانات، تبرز حالات الطوارئ الوطنية باعتبارها إطارًا قانونيًا يمنح الرئيس سلطات استثنائية، يسمح له من خلالها باتخاذ تدابير عقابية دون الحاجة إلى تصويت الكونغرس. في السياق السوري، أُعلنت أول حالة طوارئ وطنية تتعلق بسوريا في 11 مايو/أيار 2004، بقرار من الرئيس جورج بوش الابن، الذي اعتبر أن ممارسات النظام السوري تمثل تهديدًا استثنائيًا وغير عادي للمصالح الأميركية.
ومنذ ذلك الحين، تُجدَّد حالة الطوارئ المرتبطة بسوريا سنويًا من دون انقطاع، لتبقى بمثابة الأساس القانوني الذي تستند إليه معظم الأوامر التنفيذية التي فُرضت لاحقًا.
ولذا فإن إلغاء حالة الطوارئ المرتبطة بسوريا، أو حتى الامتناع عن تجديدها في موعدها السنوي، يمكن أن يؤدي تلقائيًا إلى تعليق بعض العقوبات التي تعتمد عليها قانونيًا. وبحسب النظام المعمول به، فإن عدم التجديد يُطلق العدّ التنازلي لتجميد مفعول بعض الإجراءات العقابية خلال فترة لا تتجاوز 6 أشهر، ما يخلق هامشًا حقيقيًا لتخفيف العبء الاقتصادي، حتى دون إلغاء الطوارئ رسميًا.
في خطوة جديدة نحو إعادة الإعمار، أعلن الرئيس #أحمد_الشرع التزام الدولة بتعزيز البيئة الاستثمارية وتقديم التسهيلات للمستثمرين من السوريين والعرب والأجانب.#سوريا pic.twitter.com/4rO7lnRC0h
— نون بوست (@NoonPost) May 14, 2025
بشكل عام، يتّجه المشهد القانوني والسياسي نحو اختبار دقيق لتوازنات القرار الأميركي، إذ تحمل إنهاء حالة الطوارئ أو الامتناع عن تجديدها بُعدًا سياسيًا ضخمًا يُفهم في واشنطن والعواصم الإقليمية والدولية كتحول استراتيجي في موقف الولايات المتحدة من النظام السوري الجديد، إلى جانب رسائل ضمنية تشير لإعادة ترتيب الأولويات والتعامل مع وقائع ميدانية وسياسية جديدة.
ويأتي خبر وكالة “رويترز” يوم أمس، ليؤكد حجم هذا التحول، حيث نقلت عن مصادر مطلعة في وزارتي الخارجية والخزانة أن المسؤولين الأميركيين “يحاولون فهم كيفية إلغاء عقوبات يعود بعضها إلى عقود ماضية”، ما يؤكد على تعقيد المنظومة القانونية التي جرى اختراقها، وحجم الإنجاز الذي حققته الإدارية السورية الجديدة في غضون أشهر قليلة.