ترجمة وتحرير: نون بوست
لم يحدثنا جدي إسماعيل أبو شحادة – المعروف لدى الكثيرين باسم أبو صبحي – عن النكبة قط. كان يتحدث عن كل شيء آخر، لكنه دائمًا ما كان يتجنب وصف ما حدث في عام 1948.
لم نفهم ما يعنيه العيش خلال نكبة عام 1948 في يافا، إحدى أبرز مدن فلسطين آنذاك، إلا من خلال مقابلات أجراها مع وسائل إعلام مختلفة.
لم نعرف كيف توفي والده، حسين أبو شحادة، إلا من خلال مقابلة واحدة فقط أجراها تحديدًا مع قناة الجزيرة.
وُلد حسين خلال الحقبة العثمانية، عندما كانت الأرض تُعتبر في كثير من الأحيان ملكًا لمن يزرعها، وهو مبدأ شكّل أجيالًا من الحياة الزراعية الفلسطينية، حتى مع تغير القوانين الرسمية لملكية الأرض.
في عام 1948، استغلت الميليشيات الصهيونية هذا الشعور العميق بالتجذر والأمان، وباغتت القرويين الفلسطينيين الآمنين، واستخدمت الإرهاب لطردهم من منازلهم والاستيلاء على أراضيهم وممتلكاتهم.
واصل حسين، مثل كثيرين غيره، زراعة بساتينه رغم الواقع الجديد. ولكن في ستينيات القرن الماضي، عندما بدأت السلطات الإسرائيلية باقتلاع أشجار البرتقال التي كان يزرعها، أدرك أنه لم يعد بإمكانه إيقافها. أصيب بجلطة دماغية وتوفي في طريقه إلى المستشفى.
كيف تمكنت عائلتنا من البقاء في يافا، في الوقت الذي طُرد فيه كثيرون غيرنا؟ ذلك أمر لم أعرفه إلا في وقت لاحق. إن مواصلة العيش في المدينة ذاتها التي شهدت النكبة قبل 77 عامًا، هو ما يشكّل ذاكرتي وما أكتبه اليوم.
يافا وغزة: قصص متشابهة
في ذكرى النكبة، وفي ضوء الإبادة الجماعية المستمرة في غزة، أتأمل القصص المتشابهة بين يافا وغزة، وهما مدينتان ساحليتان تربطهما الخسارة والمقاومة.
تم تطهير يافا عرقيًا من سكانها الفلسطينيين وتدميرها وتحويلها إلى ملعب لأثرياء العالم؛ حيث يتنزه الأغنياء الآن على طول شواطئ أحيائها المدمرة، وقد بُنيت الفنادق فوق أنقاض المدينة وفوق مقابرها.
أما في قطاع غزة، فقد تم طمس أحياء بأكملها، ودعا رؤساء دول علنًا إلى “تطهيرها” بطرد سكانها وتحويلها إلى ما يشبه الملعب.
وعندما طرح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رؤيته بتحويل قطاع غزة إلى “ريفييرا الشرق الأوسط“، رفض الكثيرون هذه الرؤية واعتبروها خيالًا سخيفًا.
ولكن مقترحه بشأن غزة حدث بالفعل في يافا، التي كانت ذات يوم مدينة فلسطينية مزدهرة، وتحولت الآن إلى حي هامشي داخل المدينة العبرية التي بُنيت فوقها وابتلعتها بالكامل.
لم يكن حجم نكبة يافا ماديًا وسياسيًا فحسب، بل كان معرفيًا أيضًا.
في ربيع عام 1948، حاصرت القوات الصهيونية المدينة، وقصفت يافا لأسابيع. وفي 14 مايو/ أيار، سقطت يافا. ومن أصل حوالي 120,000 فلسطيني كانوا يعيشون هناك، لم يبقَ سوى حوالي 4,000 فلسطيني فقط.
تم إفراغ أحياء بأكملها من سكانها، وأُجبرت العائلات على النزوح أو تم تجميعها خلف الأسلاك الشائكة، وتم الاستيلاء على المنازل بموجب قانون أملاك الغائبين، وتسليمها للمستوطنين الجدد.
قُصفت المباني العامة، مثل السرايا، مقر بلدية يافا. أُعيدت تسمية الشوارع واختفت المعالم الثقافية، وما تبقى من المدينة أُعيد تشكيله وتوظيفه، وتم تجريدها من هويتها الفلسطينية بشكل منهجي.
هذا هو النموذج الذي يتم تطبيقه الآن في غزة: مكان يتم تفريغه وإعادة بنائه وفتحه للعالم، ولكن دون شعبه.
يافا: مركز مزدهر
كما هو الحال في قطاع غزة اليوم، كانت يافا في يوم من الأيام من بين أكثر الأماكن اكتظاظًا بالسكان في فلسطين. في عام 1945، وثّقت سجلات الانتداب البريطاني حوالي 94,000 نسمة في المدينة نفسها، و30,000 آخرين في القرى المحيطة بها.
كانت يافا قلب فلسطين الثقافي والاقتصادي: خمس صحف، وثلاثة أندية كرة قدم، وأربع دور سينما، ومسرح، ومطابع، ومصانع صابون، وصناعة شحن دولية.
كانت الحافلات تسير من يافا إلى القدس، وكانت القطارات تربطها بالعالم العربي عبر سكة حديد الحجاز. كان في المدينة 47 مؤسسة تعليمية، وأول محطة قطار في فلسطين كانت على بعد كيلومتر واحد فقط من مينائها.
وبالنظر إلى الواقع السياسي، فإن قلة من الناس يدركون الآن أن يافا أقرب إلى دمشق (215 كم) وعمّان (160 كم)، منها إلى مدينة إيلات السياحية الواقعة في أقصى جنوب إسرائيل (275 كم).
هذا التشويه للوعي والذاكرة والجغرافيا يوضح مدى اندثار ومحو روابط المدينة مع العالم العربي.
ومن المثير للاهتمام أن معظم الزائرين اليوم يسعون إلى التجول في البلدة القديمة، وهي بلا شك حي جميل، ولكن جاذبيته تكشف عن النظرة الاستشراقية التي يرى به الغربيون المدينة الفلسطينية.
بمساجدها وكنائسها، تقدم الأزقة صورة رومانسية للحياة العربية المتجمدة في الزمن. يمكن للمرء أن يرى كيف تم تحويل حمام عام إلى مطعم فاخرٍ يحمل الاسم العربي نفسه، رغم أن معناه الأصلي هو ببساطة “دورة مياه”.
تحكي المدينة القديمة بهذا الشكل قصة مصممة لمغازلة الخيال الغربي: أولئك العرب الذي كانوا يعيشون في عصور ما قبل الحداثة، قبل أن يصل الرجل الأبيض لتحديثهم.
مدن فلسطين المُهمّشة
قصة يافا كمركز سياسي وثقافي تقع في الواقع خارج حدود البلدة القديمة.
لن يمشي في شارع جمال باشا إلا ذوو النظرة الثاقبة. سُمّي الشارع على اسم الحاكم العثماني الذي نفّذ حسن بك في عهده خطة تحديث طموحة للمدينة خلال العقود الأخيرة من حكم الإمبراطورية العثمانية.
في ذلك الوقت، أُطلق مشروع تطوير لإعادة تشكيل المشهد الحضري ليافا، تاركًا بصمة معمارية مميزة، أو على الأقل ما تبقى منها.
في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، شُيّدت سينما الحمرا. وعند افتتاحها، رُفع علم الثورة العربية الكبرى عام 1936، وعُلّقت لافتة كبيرة تحمل صورة المطربة والممثلة المصرية الأسطورية أم كلثوم لعرض فيلمها “نشيد الأمل”.
لا يزال المبنى قائمًا، رغم تجديده في السنوات الأخيرة بعد أن اشترته كنيسة السيانتولوجيا.
بينما تكشف هذه المشاهد عن عمق الحياة الحضرية قبل عام 1948، إلا أن تاريخ المدن الفلسطينية الكبرى غالبًا ما يتم تهميشه في السردية الوطنية.
في كتابها “المغيبات: النساء والمدن الفلسطينية حتى سنة 1948” تنتقد عالمة الاجتماع الحضري الدكتورة منار حسن التأريخ الوطني لتركيزه بشكل أساسي على السردية الريفية – مُصوّرًا الفلسطينيين كشعب من الفلاحين الذين طُردوا من قراهم – بينما يُولي اهتمامًا أقل بالمراكز الحضرية مثل يافا وحيفا.
ربما، كشعبٍ مُحتل، أردنا مُواجهة صورة المستوطنات الصهيونية وإثبات ارتباطنا بالأرض، أو ربما سعينا لإبراز حجم الكارثة الوطنية من خلال استحضار صورة العامل في الفلاحة.
لكن بالنظر إلى حجم الدمار الذي لحق بالحياة الحضرية الفلسطينية -في يافا وحيفا وعكا والرملة واللد- علينا الآن أن نسأل: ماذا حدث لهذه المدن وسكانها عام 1948، وما الذي يُنبئنا به ذلك عن مستقبل غزة؟
نكبة 48: “لم يبقَ شيء”
خلال مقابلة مع قناة رؤيا الأردنية، سألت صحفية شابة جدي: “أبو صبحي، أخبرني كيف كانت يافا؟” بدأ يصف الحياة في المدينة قبل عام 1948. ثم سألته: “كيف تُلخّص نكبة 48؟”
بدأ يروي لها كيف أُمطرت يافا بأربعة آلاف صاروخ – أُطلقت من البحر ومن كل الاتجاهات، من اللد وغيرها – وكيف لم يبقَ منها سوى الجثث. قبل أن يُكمل جملته، سألته عن شعوره.
ولأول مرة، رأيت جدي ينهار. قال: “هذه أول مرة أتحدث فيها عن يافا وأبدأ بالبكاء”. طلب منها إيقاف المقابلة ووقف ليغادر.
وجّهت له سؤالا أخيرا: “ماذا تعني لك يافا؟” فأجاب: “بالنسبة لي، هي إرثٌ يربطنا بالمدينة. يمكنكِ سبّ والدي وسأسامحكِ، لكن لا تسبّي يافا لأنني لن أسامحكِ بقية عمري”.
توفي جدي عام 2021 وهو في طريقه إلى المقبرة.
كنت في المقعد الخلفي للسيارة مع ابن عم والدي – وهو رجل في أواخر الأربعينيات من عمره يدير ورشة لتصليح السيارات – بينما كنا نقود السيارة لزيارة قبر جدي. وبينما كنا نقترب منه، أحنى رأسه فجأة وقال: “أبو صبحي، اليوم يمكنك أن ترتاح مع أطفال السرايا”.
كان يشير إلى الهجوم الإرهابي الكبير الذي نفذته ميليشيا ليحي (عصابة شتيرن) في 4 يناير/ كانون الثاني 1948.
كان مقاتلو ليحي الذين وصفهم البريطانيون آنذاك بأنهم منظمة إرهابية قد قصفوا مبنى السرايا – قصر الحاكم السابق، الواقع خارج البلدة القديمة – مما أسفر عن مقتل 14 شخصًا وجرح 98 آخرين.
ووفقًا لمقال نشرته صحيفة هآرتس في اليوم التالي، كانت بلدية يافا تستخدم المبنى لتقديم الخدمات الاجتماعية وتوزيع الطعام على الأطفال المحتاجين.
كان جدي يعمل في شارع سلامة عندما وقع الانفجار.
وبصفته شابًا يافعًا، ركض نحو الموقع للمساعدة. بدأ بإزاحة الأنقاض والبحث عن ناجين، ولكن عندما رأى أشلاء الأطفال تحت الركام، فقد وعيه.
كان أول ما تذكره عند استيقاظه هو رجل يقول له: “لقد رأيت ما يكفي، عد إلى المنزل. هذا أفضل لك”.
طاردته قصة السرايا، وأصبحت في نهاية المطاف جزءًا من قصة عائلتنا. والأهم من ذلك أنها تركت أهالي يافا يتساءلون: “إذا كان بإمكانهم فعل ذلك بالأطفال المحتاجين، فماذا سيفعلون بالبقية؟”
الاستيلاء والتهجير
بموجب خطة التقسيم الأصلية، كان من المقرر أن تكون يافا جزءًا من الدولة الفلسطينية. لكن الميليشيات الصهيونية، بقيادة ديفيد بن غوريون، لم تستطع قبول هذا العدد الكبير من الفلسطينيين في قلب الدولة اليهودية المقترحة.
أصبح من الضروري بالنسبة لهم الاستيلاء على المدينة وطرد سكانها قبل إعلان استقلال إسرائيل وانتهاء الانتداب البريطاني.
طوال شهري مارس/ آذار وأبريل/ نيسان 1948، تعرضت يافا للحصار والقصف لأسابيع. انتشر الذعر في أرجاء المدينة، وسعى الناس ببساطة إلى الأمان.
وعلى عكس اليوم، اعتقد الفلسطينيون آنذاك أنهم سيتمكنون من العودة إلى ديارهم. لكن تحت وطأة الضغط العسكري المتواصل، طُردوا برًا وبحرًا.
في غضون أيام قليلة، انخفض عدد السكان في المدينة وقراها المحيطة إلى أقل من أربعة آلاف فلسطيني، لتصبح هذه الحادثة واحدة من أبرز نماذج التطهير العرقي في القرن العشرين.
حين سألت جدي عن سر بقاء عائلتنا، أخبرني أن والده قد هجر الجيش العثماني قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى وعاد إلى يافا.
استغرقت رحلته ستة أشهر، انطلاقًا من منطقة أنطاليا مرورًا بشمال سوريا، حتى الوصول إلى يافا. كان يتحرك ليلاً فقط وينام نهارًا، خوفًا من الإعدام الذي كان ينتظر الهاربين من الخدمة العسكرية العثمانية.
عندما حذره جدي من الخطر في عام 1948 وحثه على المغادرة، رفض بشدة، إذ كان قد عرف مسبقًا معاناة الحياة كلاجئ، وقال إنه يفضل الموت على أن يعيش تلك التجربة مجددا. وهكذا بقيت عائلتنا متماسكة.
لكن لم يكن الحال كذلك مع غالبية الفلسطينيين، إذ تفرقت العائلات وغادر بعض أفرادها إلى غزة، وذهب آخرون إلى الضفة الغربية أو إلى البلدان العربية المجاورة.
الفلسطينيون الذين بقوا
تنتهي معظم الروايات عن النكبة بالطرد الجماعي: خسرنا الحرب، وسُلبت الأرض، وأُجبر نحو ثمانمائة ألف فلسطيني على اللجوء، بينما شرعت إسرائيل في هدم القرى الفلسطينية بشكل ممنهج. لكن الذين بقوا تعرضوا لمراحل إضافية من التجريد والاقتلاع.
بعد انتهاء الحرب مباشرة، قامت الدولة الجديدة بجمع الفلسطينيين المتبقين في يافا ونقلتهم قسرًا إلى حي العجمي.
أُقيم حول الحي سياج من الأسلاك الشائكة، ولم يُسمح لأحد بمغادرته دون تصريح عسكري.
وفي الوقت نفسه، أصدرت الحكومة الإسرائيلية قانون أملاك الغائبين، الذي عرّف بـ”الغائب” كل من كان في بلد أو إقليم يُعتبر عدوًا بين التاسع والعشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1947 وتاريخ صدور القانون عام 1950، وشمل ذلك الضفة الغربية، وغزة، ولبنان، وسوريا، والأردن.
والأهم أن هذا القانون شمل حتى الفلسطينيين الذين لم يغادروا حدود الدولة الجديدة أبدًا.
في حالة يافا، لم يكن معظم الباقين من سكان حي العجمي الأصليين، بل جاؤوا من الأحياء والقرى المجاورة.
ومع حصرهم في حي العجمي، الذي أُطلق عليه المهاجرون لاحقًا لقب “الغيتو”، في إشارة إلى المناطق المخصصة لهم في أوروبا، فقد الفلسطينيون الباقون كل شيء.
أصبحت المنازل التي أُسندت إليهم عبارة عن عقود إيجار محمية لثلاثة أجيال (وتم تقليصها لاحقًا إلى جيلين)، ولا يزال المئات من أحفاد الجيل الثالث يعيشون حتى اليوم تحت تهديد أوامر الإخلاء الصادرة عن المحاكم.
ينبغي أن نتوقف ونتأمل: ماذا يعني أن يتم إخلاء مدينة كاملة من سكانها، وأن تُسرق ممتلكاتها من البنوك، والمسارح، والمنازل، والأثاث، والذهب، والمتاجر، والمؤسسات العامة؟
يمكن القول بلا مبالغة إن المدن الفلسطينية شهدت أكبر سرقة مسلحة في القرن العشرين.
في أوائل خمسينيات القرن الماضي، وصف الصحفي والكاتب موشيه سميلانسكي يافا بأنها تخضع لعملية “بلغرة” ثقافية واجتماعية. فبعد وصول المهاجرين اليهود من بلغاريا، اكتسبت المدينة طابعًا جديدًا غير فلسطيني، وتم الترويج لها كـ”مدينة بلغارية”.
تُظهر صور تلك الفترة يافا وقد ازدهرت مجددًا –حيث أعيد افتتاح البنوك، وامتلأت المسارح، وازدحمت المتاجر والمطاعم– ولكن دون وجود الفلسطينيين. لقد تم نهب المدينة، وأصبحت تحت الملكية اليهودية.
مراحل النكبة
تحوّل حي العجمي، حيث نُقل الفلسطينيون قسرًا، إلى ما يُعرف ب”غيتو” العجمي، لكن هذا الغيتو لم يدم سوى سنوات قليلة.
في عام 1950، أقر البرلمان الإسرائيلي قانون توحيد يافا وتل أبيب، والذي نقل جميع المؤسسات البلدية في يافا إلى بلدية تل أبيب.
رمزيًا، من يزور شارع القدس 45 سيشاهد مبنى بلدية يافا القديم مملوكًا لبلدية تل أبيب، ويضم اليوم مراكز لخدمات الرعاية الاجتماعية.
مع حل الغيتو، سُمح رسميًا للفلسطينيين، الذين ظلوا تحت الحكم العسكري، بالعمل فقط ضمن حدود بلدية تل أبيب-يافا.
لكن إزالة الأسلاك الشائكة كانت لها تداعيات أخرى.
بعد موجة الهجرة اليهودية عقب الحرب العالمية الثانية، واجه النظام الإسرائيلي الجديد أزمة سكن حادة، فتبنى سياسة تسمح بأن تتشارك عدة عائلات منزلا واحدا، بما في ذلك في حي العجمي، مما مكن المهاجرين اليهود من الاستقرار في المنازل الفلسطينية المصادرة.
في بعض الحالات، اضطر الفلسطينيون إلى مشاركة منازلهم مع المهاجرين اليهود الجدد، ومن بينهم يهود عرب من شمال أفريقيا، كانوا يتحدثون العربية، وغالبًا ما عبّروا علنًا عن ازدرائهم للفلسطينيين الذين باتوا يعيشون معهم تحت سقف واحد.
إذا كانت المرحلة الأولى من النكبة هي فقدان الوطن، فالمرحلة الثانية فقدان المدينة والممتلكات، والمرحلة الثالثة فقدان المنازل.
أما المرحلة الرابعة فكانت فقدان الانتماء، أو نكبة الروح، إذ شهد الفلسطينيون الذين كانوا يعيشون في إحدى أهم مدن العالم العربي انقلاب حياتهم خلال سنوات قليلة، فأصبحوا أقلية صغيرة في مدينة عبرية، يتعرضون للمضايقات من السلطات والمهاجرين اليهود على حد سواء.
بدأت التحولات الاجتماعية تعيد تشكيل المجتمع، فالكثيرون، بعد أن تجردوا من ممتلكاتهم ووجدوا أنفسهم وحيدين في العالم، لم يعودوا يعرفون حتى مصير عائلاتهم.
تم نسيان هذه المجتمعات ومحوها من التاريخ، وعلى مدى عقود، أصبحت يافا ومجتمعها الفلسطيني المتبقي ظلًا باهتًا لذكريات ما كان عليه في السابق.
آثار تمتد طويلًا
لم تستطع الأجيال الجديدة فهم تجارب كبار السن في المجتمع إلا من خلال أحاديثهم، إذا ما وافقوا على الكلام أصلاً. لم تقتصر هذه القصص على أحداث عام 1948، بل شملت أيضاً العقود التي تلتها: انتشار تعاطي المخدرات، وتفشي الكحول، وهي مشكلة متفاقمة اجتاحت المجتمع.
برزت أنماط جديدة من العنف والجريمة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، ما حوّل حي العجمي إلى واحد من أخطر الأحياء في البلاد.
ومن المفارقات أن من يرغب في مشاهدة شكل العجمي آنذاك، يكفيه متابعة فيلم “قوة الدلتا” لتشاك نوريس، الذي تم تصويره في الحي، وقد سُمح لطاقم العمل بهدم بعض المنازل أثناء التصوير.
بعد صدور القرار الأممي 194، الذي أقر حق العودة للاجئين الفلسطينيين، شرعت السلطات الإسرائيلية في تنفيذ خطط واسعة لهدم المنازل الفلسطينية.
في كل مرة ترى فيها صورة لكورنيش شاطئ تل أبيب، تذكّر أن أحد أكبر الأحياء الفلسطينية وأكثرها سكانًا في المدينة – حي المنشية – كان قائمًا هناك.
تم هدم هذا الحي بشكل منهجي خلال النكبة وما بعدها، حيث قامت السلطات الإسرائيلية بتطهير المنطقة لإفساح المجال أمام مشاريع تنموية جديدة.
قليلون يتذكرون اليوم أنه حتى حرب عام 1967، كانت الولايات المتحدة تفرض حظرًا على تصدير الأسلحة إلى إسرائيل بسبب قضية اللاجئين التي لم تُحل، وكان المجتمع الدولي يتحدث عن حق العودة كمسألة عاجلة وقضية عادلة.
مرّت المدينة، مثل المجتمع الفلسطيني الذي بقي هناك، بثلاث مراحل متتابعة: التدمير أولًا، ثم الإهمال، والآن مرحلة التجميل والأساطير الشعبية.
اليوم، تُسوَّق يافا للسياح الباحثين عن التعرف على العمارة العربية، وتفوق الأطعمة التقليدية، وإلقاء نظرة على الحياة “الأصيلة”، لكن دون دون الفلسطينيين الذين بنوها.
تسعى التحولات الأخيرة إلى محو ما سبق. فهي تحوّل التاريخ إلى مجرد مظهر جمالي، ولا تقدم المدينة كموقع للمقاومة أو حفظ الذاكرة، بل كعرض ثقافي، مكان يُعاد فيه تسويق ما تبقى من الحياة العربية كسلعة استهلاكية.
مخطط يافا
غالبًا ما تُعتبر خطط ترامب لغزة أوهامًا بعيدة عن الواقع، لكن بالنسبة للفلسطينيين، هي سردٌ للماضي. التاريخ لا يعيد نفسه حرفيًا، لكن هذه المرة يدرك الفلسطينيون في غزة أنهم إذا غادروا، سيُجبرون على الهجرة خارج وطنهم. وكما في السابق، لن تحميهم الجيوش العربية، بل عليهم أن يقاوموا وحدهم.
اليوم يعيش في يافا نحو عشرين ألف فلسطيني. ورغم سهولة رؤية تاريخنا بمنظور مأساوي، أود أن أقدم رؤية مختلفة: رغم كل شيء، بقينا وواصلنا المقاومة ضد المحاولات المستمرة لمحو وجودنا. لم نكتفِ بالبقاء، بل ناضلنا للحفاظ على حضورنا وذاكرتنا وتاريخنا.
بفضل نضال مستمر، استعدنا فضاءات الحياة المجتمعية، من مساجد وكنائس يافا إلى مدارسها ومؤسساتها الاجتماعية، وأجبرنا السلطات على افتتاح مدارس جديدة.
نجحت جمعية الأرثوذكس المسيحية في استرداد ممتلكاتها، وعادت المدرسة الأرثوذكسية للعمل من جديد في شارع الخلوة بعد أن كانت بيد الجيش.
دمار غزة سيحمل عواقب بعيدة المدى لسنوات طويلة – اجتماعية ونفسية وتاريخية – لم نبدأ بعد في استيعاب حجمها.
لكن كما يذكرنا الناقد الأدبي الألماني-اليهودي والتر بنيامين، فإن واجب الحاضر لا يقتصر على الأجيال القادمة فحسب، بل يمتد إلى ضحايا الماضي أيضًا.
عام 1940، كتب بنيامين في منفاه، في خضم النقاشات النيوماركسية، أن الثورة ليست مجرد فعل من أجل الأجيال القادمة، بل هي رد فعل على الظلم الذي عانى منه السابقون، نضال ليس فقط لتذكر الموتى، بل لفدائهم من خلال العمل الحاضر.
يدعونا بنيامين إلى عدم النظر للتاريخ كمسار خطي نحو مستقبل أفضل، بل كالتزام أخلاقي تجاه من سبقونا، والحق الذي دافعوا عنه.
الإبادة في غزة ليست منقطعة عن التاريخ، بل هي استمرار له، وفصل جديد من فصول النكبة. مواجهة هذا الواقع ستتطلب سنوات طويلة من المحاسبة، بقدر لا يمكن تصوره من الخسائر والدمار.
بينما نواجه المستقبل، علينا أن نكرم من سبقونا، الموتى والمهجرون والمشردون، من يافا وغزة إلى الضفة الغربية وما بعدها.
هذه المرة، قد تنجح الجهود الفلسطينية في إحباط محاولات إعادة كتابة التاريخ.
المصدر: ميدل إيست آي