في ظل التحديات الاقتصادية الراهنة، تبرز المشاريع الصغيرة والمتوسطة كأحد أهم دعائم الاقتصاد السوري، حيث توفر فرصاً لتنمية الأعمال وخلق الوظائف في مختلف القطاعات، فحسب وزير الاقتصاد محمد نضال الشعار فإن هذه المشاريع تمتلك ميزة نسبية لم يتم استثمارها بالشكل المطلوب سابقًا، وأن الظروف الحالية تتطلب التركيز على المشروعات الصغيرة كبداية لإرساء قاعدة اقتصادية أكثر صلابة.
لا شك أن المشاريع الصغيرة والمتوسطة تلعب دورًا محوريًا في تحفيز النمو الاقتصادي، فهي ليست مجرد مصدر للدخل والتوظيف، بل تمثل قاطرة الابتكار والتطور في مختلف القطاعات، وتوفر فرصًا جديدة للشباب ورواد الأعمال، وتسهم في دعم الاقتصاد المحلي من خلال خلق وظائف مستدامة وتحقيق تنمية اقتصادية مرنة، خاصة في ظل التحديات العالمية، ولكن هل حقاً استطاعت هذه المشاريع تحقيق هذه الميزات في إطار الاقتصاد السوري؟
كان التصدي للبطالة هو الدافع الأساسي وراء توجه الحكومات في عهد النظام البائد إلى اعتماد استراتيجية المشاريع الصغيرة والمتوسطة، حيث شكل تأسيس هيئة مكافحة البطالة عام 2001 الخطوة الأولى في هذا المسار، إلا أن هذه الهيئة أُلغيت لاحقًا بسبب عدم التناسب بين القروض المقدمة وفرص العمل المستحدثة.
في عام 2006، تم إنشاء الهيئة العامة للتشغيل وتنمية المشروعات، والتي استمرت بالعمل نحو تسع سنوات قبل أن تلقى نفس مصير هيئة مكافحة البطالة.
كما صدر في عام 2007 القانون رقم 15، الذي نصّ على إحداث مؤسسات مالية ومصرفية اجتماعية تقدم خدمات التمويل الصغير والمتناهي الصغر، ليتم في عام 2016 إنشاء هيئة تنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة، ورغم ذلك، فإنه حتى عام 2017، لم تتمكن الهيئة الجديدة من وضع تعريف محدد للمشاريع الصغيرة أو تقديم خطة واضحة لتنميتها.
غياب استراتيجية واضحة لتنمية المشاريع الصغيرة
ترى العديد من الدراسات أنا ما يعيب التجربة السورية في مجال المشاريع الصغيرة والمتوسطية هو غياب بعض أجزاء منظومة الدعم الشامل من جهة وعدم تكامل أجزاء المنظومة المتوفرة ضمن إطار عام، وغياب الاتفاق على تعريف موحد للمشاريع الصغيرة والمتوسطة، حيث تبنت وزارة الاقتصاد سابقاً تعريفاً قائماً على معيار إجمالي الموجودات، بينما حددت الهيئة العامة للتشغيل وتنمية المشروعات تعريفاً يقوم على رأس المال، ولا يمكن إغفال أنه لا يوجد حتى الآن مرجعية مؤسساتية للمشاريع الصغيرة والمتوسطة.
من حيث اعتماد معايير هذه المشاريع فهي تختلف اختلافاً كبيراً بين الدول، فمثلاً: البنك الدولي للإنشاء والتعمير سمّى المشاريع التي يعمل بها من 10 وحتى 50 عاملاً بالمشاريع الصغيرة، وفي الولايات المتحدة الأمريكية تُعرّف المشاريع الصغيرة بأنها مشاريع تملك ما لا يقل عن 500 عامل.
أما في سوريا، فهي تعتمد على معياري رأس المال وعدد العمال، حيث عًرّف المشروع الصغير بموجب المرسوم التشريعي رقم 39 لعام 2006 بأنه مشروع يمارس نشاطاً إنتاجياً أو خدمياً أو تجاريا ولا يتجاوز رأسماله خمسة ملايين ليرة ولا يقل عن مليون وخمسائة ألف ليرة ولا يقل عدد العاملين فيه عن ستة عمال.
في عام 2022، عدلت حكومة النظام البائد، الحدود الدنيا والقصوى لمعايير تصنيف المشروعات متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة على أساس أربعة قطاعات: صناعي وزراعي وخدمي وسياحي، ويميز أيضاً المشاريع بين هذه القطاعات (متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة)، ويستخدم لهذا التمييز ثلاثة معايير أساسية هي، عدد العمال وحجم المبيعات السنوية والموجودات، فمثلاً: في القطاع الزراعي، المشروع من 1 إلى 5 عمال: متناهي الصغر، ومن 6 إلى 20 عاملاً: صغير، ومن 21 إلى 100 عامل: متوسط.
أما المبيعات، فأقل من 20 مليون ليرة: متناهي الصغر، وأكثر من 20 وأقل من 200 مليون صغير، وأكثر من 200 وأقل من 2000 مليون ليرة متوسط، أما الموجودات، أقل من 15 مليون ليرة متناهي الصغر، ومن 15 إلى 175 مليوناً صغير، ومن 175 إلى 2000 مليون: متوسط، ويوجد مثل هذه التصنيفات للقطاع الصناعي والخدمي أيضاً.
ومن خلال المعايير السابقة، نجد أنه يطغى على الاقتصاد السوري نمط المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر، حيث بلغت نسبتها عام 2010 حوالي 97% من إجمال المشروعات في سوريا، كما يوجد عدد كبير من المشروعات العاملة غير المرخصة والتي تقع في خانة اقتصاد الظل.
وبناء على ما سبق فإن هذا القطاع عانى من عدم التنظيم، حيث شهد إنشاء هيئات ثم استبدالها بأخرى جديدة، إلى جانب الصعوبات والمشكلات الناتجة عن التغييرات المتتالية للقوانين، مما جعل المشاريع مجرد تجارب عملية دون أن تحظى بفرصة التبلور ضمن منظومة قانونية موحدة تمتد عبر فترات زمنية طويلة.
التحديات تواجه نمو المشاريع الصغيرة
ويبقى السؤال كيف يرى أصحاب الاختصاص والخبرة في هذا المجال الحلول الممكنة؟ وما هي توصياتهم؟ وكيف يمكن معالجة العقبات التي تواجه هذا القطاع الاقتصادي الهام؟
منير هارون، الرئيس التنفيذي لبنك بيمو السعودي الفرنسي للتمويل الأصغر، أكد أن المشاريع الصغيرة رغم أهميتها الاقتصادية تواجه تحديات جوهرية، أبرزها شح السيولة وعدم توفر التمويل الكافي.
وأوضح في تصريح لـ”نون بوست” أن مصارف التمويل الأصغر تحتاج إلى تمويل مباشر من المصرف المركزي والمصارف التقليدية لضمان قدرتها على دعم أصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة.
واعتبر أن نقص السيولة النقدية أدى إلى إصرار مقدمي الخدمات على الدفع النقدي فقط، مما يُضعف استفادة رواد الأعمال من القروض. بالإضافة إلى ذلك، فإن ارتفاع أسعار الفائدة يحد من المنافسة، إلى جانب عدم توفر خدمات مصرفية إلكترونية متكاملة، وهو ما تعمل عليه مصارف التمويل الأصغر لمعالجة هذه الفجوة وتحقيق تحول رقمي شامل في القطاع.
من جانبه أكد عامر خربوطلي، مدير غرفة تجارة دمشق والمتخصص في ريادة الأعمال، على أن هذه المشاريع تواجه عقبات متعددة، تشمل التمويل والإدارة والاستشارات والتكنولوجيا.
واعتبر في تصريح لـ”نون بوست” أن معالجة هذه التحديات تبدأ بوضع استراتيجية وطنية واضحة تحدد أهداف مستقبلية وبرامج مستدامة من الناحية الإدارية والمالية والتدريبية والاستشارية، كما اعتبر أن الإجراءات القانونية والتشريعية المجتزأة لا توفر حلولًا حقيقية، بل تحتاج إلى رؤية إصلاحية شاملة لضمان دعم مستدام للمشاريع الصغيرة والمتوسطة، ما يسهم في تعزيز دورها كمحرك اقتصادي حيوي.
مرحلة جديد تحتاج للدعم
تلعب مصارف التمويل الأصغر اليوم دوراً محورياً في دعم المشاريع الصغيرة، حسب هارون، نظراً لارتفاع نسبة الفقر في المجتمع السوري، حيث تواجه المصارف التقليدية والإسلامية صعوبات في تقديم القروض لهذه الفئات.
وشدد على أن الانفتاح الاقتصادي بعد التحرير، خاصة فيما يتعلق بالاستيراد وتوفر المشتقات النفطية، أسهم في تحسين بيئة الأعمال وتسهيل انطلاق المشاريع، إلى جانب جهود منظمات المجتمع المدني والدولية التي تسعى لدعم المواطنين وتوفير سبل الاعتماد على الذات وسط التحديات المالية.
وأوضح أن غالبية المشاريع التي حصلت على التمويل المصرفي خلال الفترة الماضية كانت زراعية، لا سيما في المناطق الريفية، حيث تعتمد هذه المشاريع على نظام العمل الأسري، مما أدى إلى غياب إحصائيات دقيقة حول عدد اليد العاملة فيها، كما أشار إلى تمويل بعض المشاريع الخدمية والمهنية، التي تسهم في دعم الأنشطة الاقتصادية المحلية.
من جهته، أشار الدكتور خربوطلي، إلى أن الجهود المبذولة لدعم المشاريع الصغيرة لا تزال بحاجة إلى مزيد من التمويل والبرامج والمساعدات لضمان إعادة إقلاع هذه المشاريع، عبر توفير البنية التحتية، الطاقة، المواد الصناعية، والمناطق الحرفية.
وأكد أن الحكومة الحالية تولي اهتماماً متزايداً بهذا القطاع، بهدف إعادة تموضعه ضمن الاقتصاد الوطني، خصوصاً بعد رفع العقوبات، مما يفتح المجال أمام مرحلة جديدة من النمو الاقتصادي، وأوضح أن المشاريع الصغيرة، التي تشكّل جزءاً أساسياً من نسيج المجتمع السوري وتعتمد على الملكية الفردية، تتميز بمرونة أكبر مقارنة بالمشاريع الكبرى التي تتطلب رؤوس أموال ضخمة، معتبرًا أن صيغة الشركات المساهمة تمثل النموذج الأمثل لدعم هذا القطاع وضمان استدامته.
وأوضح أن المشاريع الصغيرة والمتوسطة قد تكون مسجلة ضمن الاقتصاد الرسمي، حيث تنتمي إلى الغرف التجارية والاتحادات، فيما تنشط بعض المشاريع الأخرى ضمن اقتصاد الظل، نتيجة عدم قدرتها على الحصول على الموافقات الرسمية من الجهات المعنية.
ولفت إلى أن هذه المشاريع غير المسجلة شهدت زيادة كبيرة خلال مرحلة النظام السابق، حيث باتت تمثل نحو 50% من مشاريع القطاع الخاص السوري، ما أدى إلى حالة من التنافس غير العادل مع الاقتصاد الرسمي، كونها لا تخضع للضرائب أو الالتزامات القانونية، مما يطرح تحديات كبيرة أمام تنظيم السوق وضمان عدالة المنافسة.
التوصيات لتعزيز قطاع المشاريع الصغيرة
تشكل المشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر 95% من القطاع الخاص السوري، لكنها لم تحظَ بالدعم المطلوب لضمان نجاحها واستدامتها، حسب خربوطلي، الذي أوضح أن 60% من هذه المشاريع تنتمي إلى الفئة المتناهية الصغر، لكنها تفتقر إلى استراتيجية وطنية واضحة وبرامج داعمة تشمل كافة القطاعات، سواء الصناعية أو الخدمية أو التجارية أو الرقمية، وفق التصنيف الوطني في سوريا.
وأشار إلى ضرورة أن تكون هذه المشاريع معلنة بوضوح مع تبسيط إجراءات التسجيل، إلى جانب اعتماد آليات تمويل تعتمد على قوة الفكرة وليس الضمانات العقارية التي تشكّل عبئاً على رواد الأعمال. كما شدد على أهمية دعم هذه المشاريع من قبل البلديات والمؤسسات المحلية والغرف التجارية، بالإضافة إلى توفير إجراءات تمويلية مرنة وحوافز تشجيعية عبر حاضنات الأعمالز
وأكد أن الدعم الحكومي يجب أن يرتكز على تسهيل بيئة الأعمال عبر تبسيط الإجراءات وإزالة العقبات البيروقراطية التي تعيق النمو، معتبراً أن هذه المشاريع تمثّل الركيزة الأساسية للاقتصاد السوري، حيث يساهم القطاع الخاص السوري بثلثي الناتج المحلي الإجمالي، إلا أن هذا الناتج لا يزال ضعيفًا ويحتاج إلى استثمارات محلية وأجنبية لتحقيق نمو مستدام، إلى جانب تحفيز الشركات الناشئة ذات المحتوى التقني والحرفي وفق نماذج عالمية جديدة.
أما التوصيات من وجهة نظر منير هارون، الرئيس التنفيذي لبنك بيمو السعودي الفرنسي للتمويل الأصغر فهي ضرورة معالجة مخاطر التعثر في سداد القروض، والتي شهدت ارتفاعاً ملحوظاً بعد التحرير نتيجة التحديات الأمنية والاقتصادية.
وكشف أن مصرف بيمو السعودي الفرنسي للتمويل الأصغر كان الوحيد الذي أتاح للمقترضين خيار تأجيل السداد لمدة ثلاثة أشهر، لكن العديد منهم ما زالوا يواجهون صعوبات كبيرة في الوفاء بالتزاماتهم المالية، مما دفع المصرف إلى ترميم المحفظة المالية ومساعدة المتعثرين الذين يعانون لأسباب خارجة عن إرادتهم.
وشدد هارون على ضرورة أن تعمل مصارف التمويل الأصغر ضمن نطاق اختصاصها، محذراً من اتجاه بعض المصارف إلى تقديم خدمات مشابهة للمصارف التقليدية، مما يؤدي إلى رفع سقف التمويل بطريقة غير مدروسة، ويضعف قدرة المقترضين على السداد. وأوضح أن التركيز يجب أن يكون على التوسع الأفقي بدلاً من رفع سقف القروض الفردية، بحيث يتم زيادة عدد المستفيدين ودعم مشاريع إنتاجية ناجحة، مما يخلق حالة اقتصادية إيجابية تدعم المشاريع المتوسطة والكبيرة، وفق نموذج سلسلة التوريد التدريجية الذي أثبت نجاحه في التجربة الصينية
أخيراً.. على مدار أكثر من عقد، عانت سوريا من غياب الاستثمارات ذات القيمة الفعلية نتيجة الظروف السياسية والعقوبات الاقتصادية، مما أثر على مختلف القطاعات الإنتاجية. ومع التحرر الاقتصادي واعتماد السوق التنافسية الحرة، برزت فرص استثمارية كبيرة في المجالات الزراعية والخدمية والإنتاجية، حيث تُشكل هذه المشاريع دعامة أساسية لحركة التجارة. وهذه المشاريع ستكون الدعامة لبناء الاقتصاد السوري بالإضافة إلى الاستثمارات الخارجية.