مما حكاه غسان كنفاني في مرثية شعبه، “عائدٌ إلى حيفا”: “واستطاع (سعيد) أن يرى أشياء كثيرة اعتبرها ذات يوم، وما يزال، أشياءه الحميمة الخاصة التي تصورها دائمًا ملكية غامضة مقدسة لم يستطع أي كان أن يتعرف عليها أو أن يلمسها أو أن يراها حقًا”.
وتابع: “ثمة صورة للقدس يتذكرها جيدًا ما تزال معلقة حيث كانت حين كان يعيش هنا. وعلى الجدار المقابل سجادة شامية صغيرة كانت دائمًا هناك أيضًا، استطاع أن يرى مقعدين من أصل خمسة مقاعد هما من الطقم الذي كان له. أما المقاعد الثلاثة الأخرى فقد كانت جديدة.. وفي الوسط كانت الطاولة المرصعة بالصدف هي نفسها، وإن كان لونها قد صار باهتًا، وفوقها استبدلت المزهرية الزجاجية بأخرى مصنوعة من الخشب، وفيها تكومت أعواد من ريش الطاووس، كان يعرف أنها سبعة أعواد. وحاول أن يعدها وهو جالس مكانه إلا إنه لم يستطع، فقام واقترب من المزهرية وأخذ يعدها واحدة واحدة، كانت خمسة فقط”.
التفاصيل الصغيرة المُعاشة بالنسبة لسعيد وصفية عند زيارتهما لبيتهما السليب في حيفا، لم تكن إلا أرقًا جماعيًا عاشه ملايين الفلسطينيين، توقف الزمن في ذاكرتهم عند المزهرية وعتبة الباب المكسور وطاولة الطعام والعام 1948. عند تلك اللحظة المباغتة التي اضطروا فيها لمغادرة بيوتهم إلى ساحة البلدة، ومن الساحة إلى بساتين الزيتون، ومنها إلى القُرى المجاورة، ثم إلى الأبد.. الأبد الذي كشف لهم، شيئًا فشيئًا، أنهم عالقون في المسافة الفاصلة بين حلم العودة وواقع التهجير.
على أعتاب تلك المنطقة الرمادية، ترك الفلسطينيون شيئًا من أرواحهم وأنفسهم، فمنهم من ترك باب المنزل مفتوحًا، ومنهم من ترك عجين الخبز على الطاولة على أمل العودة خلال ساعتين، وآخرون حملوا أشياء لا تزال تسكن ذاكرتهم حتى اليوم كعُقدة ذنب رغم بساطتها: حلة المحشي التي خُبئت على عجل لسدّ جوع الأطفال، أو معول الحفر الذي اتكأ على كتف لاجئ، وكأن الجميع خرج في رحلة قصيرة… رحلة طالت دون عودة.
من تلك اللحظة المتعجلة التي تحوّلت إلى نكبة، ومن ذلك الندم الذي جلد أرواح أصحابه لسنوات، إلى فوبيا الضياع التي بدأت من الأرض وتسللت إلى كل ما حولهم، تأتي هذه المادة محاولةً لفهم سردية تقف كالشوك في حلق الفلسطيني: لا ابتلاعها ممكن، ولا لفظها يسير. سردية تبدأ من خطأ لا صواب بعده، ومن فقدٍ لا يُعوّض، ومن متروكٍ صار ذريعة للتخلي، ومحمولٍ بات لعنةً على جبين الذاكرة.
ذاكرة الفلسطيني في حقيبة
وفقًا لما روته الكاتبة أناهيد حردان في كتابها “الفلسطينيون في سوريا: ذكريات نكبة مجتمعات ممزقة”، فإن السمة الغالبة على روايات النكبة التي خرجت من أفواه من وصفتهم بـ”حرّاس الذاكرة” هي الفقدان، وتشير حردان إلى أن الحكايات التي تنقلها الجدّات اليوم إلى الجيل الثالث من النكبة لا تتمحور حول المواجهات أو مشاهد القتال، بل تتركّز حول ما فُقد، قصدًا أو سهوًا، أثناء التهجير، وبهذا فإن الذاكرة التي ورثتها الأجيال اللاحقة ترتكز على صورة واحدة: ما كانت تملكه العائلة، وما قدته في النكبة.
لكن يمكن النظر إلى هذه الفكرة من زاوية أخرى: ما الذي اختارت العائلة أن تحمله معها في لحظة الطرد؟ وما الذي قررت تركه؟، هذا هو السؤال الذي طرحته الباحثة الراحلة ربيحة علّان في دراستها حول دور المرأة الفلسطينية الريفية اللاجئة في الحفاظ على العائلة بين عامي 1948 و1962، حين توصلت إلى أن معظم الأهالي لم يخرجوا سوى بأطعمة وأدوات بسيطة، وقليل من الفراش المستخدم أصلًا للنوم في الحقول خلال مواسم الحصاد.
هذا الفهم تؤكده تجربة اجتماعية نظّمها مركز نسوي في مخيم الأمعري بمدينة رام الله، حين دعا اللاجئين واللاجئات إلى فعالية بعنوان “من ريحة البلاد”، طُلب فيها من العائلات إحضار كل ما احتفظوا به منذ النكبة، وكان الهدف معرفة ما الذي اختارته النساء بالذات لحمله في تلك اللحظة الحرجة: ما الذي بدا مهمًا وملحًا؟.
وبين قدور الطبخ والأغطية وأواني المطبخ وأدوات الفلاحة وسلال الطعام ومفاتيح بيوت أُغلقت على عجل ولم تُفتح بعدها، أدرك المنظمون أن معظم العائلات خرجت من ديارها مُعدمة أو شبه معدمة، وأن ما حملته كان من باب النجاة.
يتقاطع ذلك المعنى مع شهادة صدقية خليل عبد الدين، التي هجّرت قسرًا من بلدة لفتا المتاخمة للقدس المحتلة، وتروي: “كنا قاعدين في الدار وإلا الرصاص علينا من جهة القدس الغربية، وكان الرصاص فوق روسنا على وسط الدار، ولما زاد الرصاص علينا، كان عند أبوي ترك [شاحنة] حملنا أواعينا [ملابسنا] بالترك وشردنا [هربنا]، أخذنا شوية لحف ومخدات، وكانت أمي عاجنة حملت العجين وإحنا قعدنا فوق الترك وحملنا طاحونة القمح والغربال والعجينات وشردنا”.
رغم هشاشة ما حملته عائلة صدقية في لحظة الهرب، إلا أنه شكّل معينًا لهم في رحلة اللجوء، على عكس آلاف اللاجئين الذين هُجّروا دون أن يحملوا شيئًا، بعضهم خرج بملابس نومه، وآخرون قُتلوا أثناء محاولتهم العودة خفية لإحضار ما تركوه خلفهم.
ومثلما تتكرر اللُّحف والمخدات في ذاكرة اللاجئين، تتكرر أيضًا حكاية العجين الذي حملته النساء في طريقهن، كأنّ الخبز صار رمزًا للاستمرارية وسط الانهيار. زهرة أبو طه، المهجّرة من الرملة، تعتبر نفسها محظوظة لأنها حملت معها طنجرتين و”لجن” العجين وجزءًا من ملابسها، أما صدقية، فما زالت تحتفظ بذلك “اللجن”، الذي بات وصية من أمها التي قالت: “لازم يظل هذا اللجن لولد ولد ولدي، لازم نذكره ونذكر كيف كنا نعجن في البلاد”.
تضيف صدقية، بصوت تغلبه الذكرى: “أمي، الله يرحمها، بعد التهجير لما كانت تعجن فيه، كانت تعبي العجين دموع. تبكي على ثيابها وذهبها، على رزقنا وأرضنا اللي تركناه في البلد”.
عقارات الغياب: مصائر الممتلكات الفلسطينية بعد النكبة
بعد اللطمة الأولى، حين بدأ الفلسطينيون يدركون أن فراقهم لبيوتهم وممتلكاتهم سيطول، حاول بعضهم التسلل مجددًا لاستعادة جزء مما فُقد، ووعلى مدى الأشهر الأولى من النكبة، قبل أن تكتمل معالم السيطرة الإسرائيلية على الأرض والممتلكات، تكررت هذه المحاولات، وهناك من فقد حياته برصاص الحراس، وهناك من عاد ليجد بيته مسيّجًا وقد أُلحق بما صار يُعرف بـ”أملاك الوكالة اليهودية”.
في غضون أشهر قليلة، تفكّكت البنية التاريخية للمجتمع الفلسطيني، فالمجتمع الذي كان يتكوّن بنسبة 60–62% من فلاحين، و34% من سكّان المدن يعمل منهم 35% في الصناعات الخفيفة، و17% في النقل، و23% في التجارة، و7% في الخدمات العامة تحوّل إلى مجتمع يعيش على المعونات والمساعدات.
وجد المتعلمون أنفسهم مضطرين لقبول أي عمل يؤمن الحد الأدنى من الدخل، بينما تحوّلت فئة واسعة من المنتجين إلى لاجئين مُعدمين، وقد قدّرت لجنة توفيق فلسطين التابعة للأمم المتحدة، أن عدد اللاجئين الذين شملتهم الدراسة بلغ 556 ألف شخص، شكّلوا نحو 158 ألف أسرة هجّروا من أكثر من 500 بلدة ومدينة، وتقدّرت قيمة أملاكهم حينها بـ235,769 مليون دولار أمريكي.
ووفقًا للتقرير، فقدت 37 ألف أسرة، قوامها 142 ألف فرد، أملاكها بالكامل، بينما لم يتبقّ سوى 45 ألف أسرة (يبلغ عدد أفرادها 150 ألفًا)، حافظت على أي شكل من أشكال الدخل.
تتباين تقديرات الخسائر بين المصادر الأممية والعربية والإسرائيلية، لكن ما يكشفه الأرشيف الإسرائيلي نفسه يشير بوضوح إلى عملية استيلاء ممنهجة، جرت بلا تردد أو مواربة، فمنازل حيفا ويافا أُغلقت بمجرد التأكد من خلوها من أصحابها، وسُكنت خلال أسابيع من قبل مهاجرين جدد، أما ورشات الخياطة والحدادة، فقد أُدمجت فورًا في الاقتصاد الإسرائيلي، وتحولت إلى مصادر عمل ودخل للمهاجرين/المستوطنين اليهود.
تزامن هذا المسار من الاستيلاء المنظّم مع إنشاء وكالة أملاك الغائبين في حزيران/يونيو 1948، وتعيين ما عُرف بـ”الوصي على الأملاك المهجورة”، الذي أطلق سيلًا من اللوائح والمراسيم القانونية التي شرّعت المصادرة، ووضعت آليات دقيقة لنقل وتخزين وتوزيع ممتلكات اللاجئين الفلسطينيين، وقد أتاحت هذه المنظومة، عبر التفاف قانوني، نقل ملكيات شاسعة إلى الصندوق القومي اليهودي، الذي قصر منفعة هذه الأملاك على اليهود فقط، مانعًا أي حق للفلسطينيين في الاسترجاع أو الاستفادة.
تحديد مصائر ممتلكات الفلسطينيين ظلّ عصيًا كتحديد حقّ عودتهم، ففي عام 1951، أُطلقت دراسة مسحية استندت إلى خرائط الأراضي وتوزيع الأملاك إبان الانتداب البريطاني، وامتد العمل بها حتى عام 1964، بهدف تحديد المساحات الدقيقة للأراضي العربية الخاصة ضمن حدود فلسطين الانتدابية التي أصبحت لاحقًا “إسرائيل”، وتقييم قيمتها بناءً على سعر صرف الجنيه الفلسطيني في نهاية عام 1947، وقد أظهرت النتائج أن القيمة الإجمالية للأملاك تفوق عشرين ضعفًا ما قدّرته لجنة توفيق فلسطين، خاصة بعدما أُضيفت إلى الحسبة الأصول غير العقارية والمجوهرات والثروة الحيوانية.
وفي عام 1964، نشر الاقتصادي الفلسطيني يوسف صايغ دراسة مفصّلة عن تعويض اللاجئين، تناولت الجوانب التي أغفلتها التقديرات السابقة، استُكمل هذا الجهد في دراسة لاحقة قدّمها الخبير في شؤون الأراضي والمسؤول السابق في مصلحة ضرائب الأراضي خلال الانتداب، سامي هداوي، والتي صدرت عام 1988، توصل فيها إلى أن إجمالي الخسائر المادية الفلسطينية بلغ ما لا يقل عن 63 مليار دولار.
من بين هذه الخسائر، يبرز مبلغ 130 مليون جنيه إسترليني كانت مودعة باسم الفلسطينيين، تمّ تجميدها في بنك إنجلترا عندما قررت بريطانيا فكّ الارتباط بين الجنيه الفلسطيني والجنيه الإسترليني عشية النكبة، فضُمّ هذا المبلغ إلى شبكة من الحسابات المصادرة في البنوك التي كانت تنشط في فلسطين آنذاك، مثل بنك باركليز البريطاني (الذي أصبح لاحقًا باركليز دي زوينيون)، وبنك أوتمان، وبنك أنجلو-فلسطين (الذي تحوّل إلى بنك لئومي الإسرائيلي)، حتى البنك العربي لم يسلم، إذ أُغلِقت فروعه، وصودرت أرصدته.
يمكن اختصار هذا المسار كلّه بالقول إن نكبة الفلسطينيين لم تكن مجرد تهجير 750 ألف إنسان من أراضيهم الزراعية وبيوتهم ومصانعهم ومحالهم، بل كانت حرمانًا جماعيًا من حقّ الاختيار، ومن فرصة حمل ما يلزم أو استعادة ما فُقد، وجرى ذلك إمّا بالعنف والقتل المباشر، وإمّا عبر منظومة قوانين وضِعت لاحقًا لإضفاء شرعية على هذا الاستلاب، وعلى رأسها قانون أملاك الغائبين، الذي اعتبر كل من لم يكن حاضرًا داخل حدود “إسرائيل” لحظة إعلانها، مالكًا لا يحق له تملّك شيء، حتى لو أراد العودة ولم يستطع.
بموجب هذه السياسات، تقاسمت ثلاث مؤسسات رئيسية أملاك الفلسطينيين: دائرة أملاك الغائبين، التابعة لوزارة المالية، التي تولّت الحجز والمصادرة، ودائرة أراضي إسرائيل، التي نظّمت الملكية وضمّنت انتقالها الحصري لصالح اليهود، ووالوكالة اليهودية، ممثلةً بالصندوق القومي اليهودي، الذي استثمر هذه الممتلكات في مشاريع استيطانية، مُحصنًا ضد أي مطالبة قانونية بالمحاسبة أو التعويض.
معارض اللصوص: “لو لم أسرقه..سيسرقه غيري”
في دراستها المنشورة عام 2015 والمعنونة بـ “إعادة النظر في نزع الملكية: إسرائيل، النكبة، الأشياء”، تسلّط الباحثة ريبيكا شتاين الضوء على المفقود الذي “عُثر عليه”، أي الممتلكات الفلسطينية التي بقيت بعد تهجير أصحابها، ووقعت في يد العصابات الصهيونية عقب احتلال المدن.
ترى شتاين، المنتمية إلى حقل الأنثروبولوجيا الثقافية، أن الملابس والأحذية وأدوات المطبخ والصور العائلية والوجبات التي تُركت على الطاولات في انتظار أهلها، لم تكن مجرّد أشياء عادية، بل كانت تحمل هوية فلسطينية متجذرة، لأنها ببساطة كانت تنتمي إلى أصحابها الشرعيين، إلى حياتهم اليومية، وإلى ذاكرتهم الجمعية.
تطرح الدراسة زاوية معاكسة للفقدان، هي الملكية، من خلال ما تصفه بـ”الحياة الاجتماعية للأشياء”، وتتابع كيف انتقلت هذه الممتلكات، التي صودرت وسُرقت، إلى أيدي المستوطنين، وتحولت إلى جزء من السياق الاستيطاني، لتصبح اليوم أدوات مادية في سردية الإنكار والبناء القومي الإسرائيلي.
خلال بحثها، التقت شتاين بيهود مستوطنين يسكنون في بيوت فلسطينية استُحوِذ عليها، من بينهم موشيه عميرة، التي استأجرت منزلًا قرب قرية أبو غوش الفلسطينية، على طريق القدس–تل أبيب، يبعد نحو عشر دقائق بالسيارة عن الجهة الشرقية من القدس.
في هذا المنزل، الذي يعود بناؤه إلى القرون الوسطى، ويَسبق وجود “إسرائيل” نفسها، رأت شتاين كيف تتحول الملكية الفلسطينية إلى رمز قومي إسرائيلي، إذ كان المنزل مليئًا بالتحف والأدوات التقليدية العربية، بعضها يعود إلى أكثر من 300 عام، لكنها لم تُحفظ كأثر فلسطيني، بل تحولت إلى تبرير للنهب تحت خطاب “الإنقاذ”: “لو لم آخذها، لكانت دُمّرت”.
تقول الباحثة عن لقائها مع موشيه عميرة: “كان هذا اللقاء أول احتكاك مباشر لي مع تاريخ النهب الإسرائيلي، أو بالأحرى، أول رواية تُروى من وجهة نظر اللص الإسرائيلي”، فقد سردت عميرة تفاصيلَ عن راديو قديم ذي إطار خشبي منحوت بدقة، كانت قد نهبته من حي القطمون خلال النكبة، بعد أن قالت والدتها لها: “الجميع يذهب ويأخذ شيئًا… لماذا لا تذهبين أنتِ؟ فذهبت إلى القطمون وأخذت هذا الراديو”.
ليست هذه القصة استثناءً، بل واحدة من شهادات عديدة عن إسرائيليين شعروا بالعار لأنهم عادوا خاليي الوفاض من البيوت والبلدات الفلسطينية التي سبقتهم أيدي أخرى إلى نهبها.
في العام نفسه، كتب صحفي إسرائيلي عن هذا النهب الذي تحوّل إلى ثقافة مجتمعية راسخة، قائلًا: “لقد استحوذت الرغبة في النهب على الجميع. أفراد وجماعات، رجال ونساء وأطفال، انقضّوا على الغنائم: أبواب، نوافذ، عتبات، طوب، قرميد، خردة، وقطع غيار آلات. ويبدو أن الكثير من هذه السرقات نُفّذ على يد جنود يهود قاموا بحفر القرى المهجورة، بحثًا عن أي شيء تركه الفلسطينيون خلفهم بعد فرارهم أو طردهم، من أموال ومعدّات ثقيلة وشاحنات وقطعان ماشية”.
هذه الحمى، التي عبّرت عنها عميرة بعبارة: “لو لم آخذها، لدُمرت”, تمثل جوهر عقيدة النهب المؤوّل في المشروع الصهيوني. عقيدة ما زالت تتكرر اليوم بصيغ مختلفة، كما في مشهد المستوطن يعقوب خلال أحداث حي الشيخ جراح عام 2015، حين واجه الفلسطينيين الذين احتجوا على استيلائه على منازلهم بعبارته الشهيرة: “إذا لم أسرقه أنا، فسيسرقه شخص آخر”.
هذا السلوك لا ينبع فقط من طمعٍ فردي، بل من مفارقة أعمق في الذهنية الصهيونية، تبدأ من الارتياب بالعربي ونزع الشرعية عنه، ثم تنقلب فجأة إلى احتفاء بكل ما يملك؛ من البيوت والمصانع وورش العمل، وحتى تفاصيل المعمار، فحتى اليوم، لا يزال وكلاء العقارات الإسرائيليون يروّجون للمنازل في القرى والمدن العربية المهجّرة على أنها “منازل على الطراز العربي الأصيل، بأرضيات مبلطة، وأسقف عالية، والكثير من الأقواس”.
في الخطاب التجاري الإسرائيلي، لا يظهر العربي كتهديد وجودي، تمامًا كما لم تُظهِر حقائبه وممتلكاته التي فُقدت خلال النكبة أيّ شيء سوى ملامح الجذب والفرص الاقتصادية، لكن ما إن يُطرح السؤال عن التاريخ الفلسطيني المحدّد للمنزل والملكية، حتى يخرج التهديد من قمقمه من جديد، وتعود رواية الإنكار إلى واجهتها الأصلية.
السردية المضادة لا تكتفي بتبرير السلب، بل تقلب الطاولة وتُلقي التهمة على الفلسطيني نفسه، تمامًا كما فعل قانون أملاك الغائبين، الذي اعتبر أن غياب الفلسطيني عن أرضه دليل تقصير، وأن مصادرة أملاكه كانت نتيجة “إهماله”، لأنه لم يحضر لتسجيلها أو لزراعتها بيده في العامين الأخيرين.
بينما في الواقع، كانت الحواجز والقنابل والإعدامات الميدانية كفيلة بمنع أيّ فلسطيني من العودة، حتى أولئك الذين حاولوا التسلل سرًّا إلى قراهم. الحرب ذاتها، كانت كافية لتعطيل الدورة الزراعية الفلسطينية خلال الأعوام التي سبقت النكبة.
في هذا السياق تحضر بقوة تبريرات السلب كما جسّدها غسان كنفاني في عائد إلى حيفا، على لسان مغتصب الطفل خلدون، الذي واجه والديه الحقيقيين سعيد وصفية بلوم فجّ ووحشي: “كان عليكم ألا تخرجوا من حيفا. واذا لم يكن ذلك ممكنًا، فقد كان عليكم ألا تتركوا طفلًا رضيعًا في السرير. وإذا كان هذا أيضًا مستحيلًا، فقد كان عليكم ألا تكفوا عن محاولة العودة.. أتقولون أن ذلك أيضًا مستحيلًا؟ لقد مضت عشرون سنة! عشرون سنة ماذا فعلت خلالها كي تسترد ابنك؟ لو كنت مكانك لحملت السلاح من أجل هذا. أيوجد سبب أكثر قوة؟ عاجزون! عاجزون! مقيدون بتلك السلاسل الثقيلة من التخلف والشلل! لا تقل لي أنكم أمضيتم عشرين سنة تبكون! الدموع لا تسترد المفقودين ولا الضائعين ولا تجترح المعجزات!”.
تلك العقلية ذاتها امتدّ ظلها في العقود التي تلت النكبة، حين تحوّل الموجود والمفقود من ممتلكات الفلسطينيين إلى أدوات تأويل سياسي وإعلامي، فقد استُخدمت البيوت المصادرة والممتلكات المنهوبة وحتى الكتب والأواني والملابس، كدليلٍ على أن “العرب هربوا” وتركوا كل شيء وراءهم في لحظة انهيار، بينما في المقابل، جرى تصوير “تشبّث” اليهود بهذه الممتلكات، رغم أنها مسروقة، كبرهان على أحقيتهم بها، وبهذا المنطق المقلوب، لم يعد للفلسطيني الحق بالمطالبة بشيء، بل صار من “المنطقي” استعراض ممتلكاته في المعارض الإسرائيلية كغنائم، وكأنها لاجئة وجدت أخيرًا من يحتضنها ويقدر قيمتها!
بعد كل هذه السنوات، لا يبدو الفارق كبيرًا بين النكبة والإبادة، صحيح أن الفلسطيني يركّز غالبًا على خسارته الكبرى: الأرض والجسد، وهما محوران أساسيان، لكن هناك أشياء أخرى تقع منه على الطريق نحو الحرية، أشياء تُدفع كثمنٍ للوجود، أو تُنتزع كعقاب على المقاومة، وهي جميعها تشكّل في النهاية هوية مركبة، لا تُدرك دفعة واحدة، لكن أثرها يتراكم في داخله كفجوات صامتة، لا يُرممها سوى تصميمه على استعادة كل ما فُقد، أرضًا وذاكرةً، حقائب ومصائر، وجعلها تنطق بلونه، وتتمدد على عمق جذور هو.