انطلقت اليوم في العاصمة العراقية بغداد فعاليات القمة العربية الرابعة والثلاثين، وسط إجراءات أمنية غير مسبوقة، بمشاركة عربية متوسطة المستوى، وحضور الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، ورئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز الذي وُجهت دعوة لبلاده للمشاركة في القمة تقديرًا لمواقفها الداعمة لفلسطين والرافضة لحرب الإبادة على غزة، إلى جانب الأمين العام للاتحاد الأفريقي محمد علي يوسف وممثل عن الاتحاد الأوروبي.
تعد هذه القمة هي الرابعة التي تحتضنها بغداد بعد قمتي 1978 و1990 والأولى بعد 13 عامًا منذ آخر قمة استضافتها عام 2012، بحضور 10 رؤساء وملوك دول عربية، فيما غاب الغالبية العظمى حينها، وسط آمال معقود على استعادة الدولة العراقية حضورها الإقليمي والعربي بعد غياب دام سنوات طويلة.
ومن أبرز المشاركين في هذه النسخة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وأمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس أبو مازن، والرئيس الصومالي حسن شيخ محمود ورئيس الوزراء اللبناني نواف سلام، ورئيس الوزراء الأردني جعفر حسان، كما وصل رئيس مجلس القيادة الرئاسي في اليمن رشاد محمد العليمي، فيما مثل السعودية وزير خارجيتها عادل الجبير، والإمارات نائب الرئيس الشيخ منصور بن زايد آل نهيان، بينما رأس الوفد السوري وزير الخارجية أسعد الشيباني.
تأتي القمة هذه المرة وسط ظرف استثنائي حساس، حيث التوترات التي تضرب المنطقة، وحالة التمزق التي تعاني منها على أكثر من ساحة، بداية من فلسطين مرورًا بلبنان واليمن والسودان وصولًا إلى ليبيا التي تشهد مؤخرًا تصعيدًا كبيرًا ينذر بالعودة إلى المربع الصفري مرة أخرى.
كما تأتي بعد ساعات قليلة من انتهاء جولة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الخليجية التي شملت السعودية وقطر والإمارات، والتي كان يُعوّل عليها في تبريد الكثير من النقاط الملتهبة أبرزها غزة، لكن سرعان ما تلاشى هذا التعويل بعد المؤشرات غير المبشرة التي شهدتها الأجواء خلال الساعات القليلة الماضية.
يقول وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين، إن القمة في نسختها الحالية تأتي في مرحلة حساسة من تاريخ الأمة العربية “تتطلب توحيد جهودنا”، فيما ذكر الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط أنّها تأتي في وقت يشهد فيه الإقليم والعالم اضطرابًا كبيرًا”، لافتًا إلى أن آمالا كبيرة تنعقد عليها.. فهل تكون تلك القمة هي الفرصة الأخيرة لـ “لم الشمل العربي” قبل انفلات العقد والوصول إلى طريق مسدود يقضي على ما تبقى من تماسك الجدار العربي الهش؟
توقيت حساس يُزيد من حجم المسؤولية
تنطلق هذه النسخة في وقت ترتكب فيه قوات الاحتلال واحدة من أكثر حروب الإبادة إجراما ووحشية، فقبل أقل من 24 ساعة على بدء فعاليات القمة ارتقى نحو 120 فلسطينيًا وأُصيب أكثر من 200 أخرين في قصف استهداف مناطق متفرقة من القطاع، ضمن المرحلة الافتتاحية لعملية عسكرية جديدة أطلق عليها المحتل اسم “عربات جدعون” الإجرامية، التي تهدف- بحسب جيش الاحتلال- إلى “تحقيق جميع أهداف الحرب”، وفي مقدمتها “إطلاق سراح الرهائن وهزيمة حركة حماس”، في تزامن يحمل رسالة أبلغ من أن تُفسّر.
كما أنها تتزامن مع اختتام جولة الرئيس الأمريكي الخليجية التي أبرم خلالها صفقات اقتربت من حاجز الـ 4 تريليونات دولار، في سابقة لم يعرفها التاريخ من قبل، تلك الجولة التي كان يعول عليها كثيرون لحسم ملفات كثيرة أبرزها إنهاء الحرب في غزة، إلا أن ما حدث لم يكن على قدر المأمول، فمن قلب العواصم الخليجية أعاد ترامب الحديث عن رغبته في السيطرة على القطاع وتهجير سكانه، دون أي ضغوط أو حتى تلميحات لإجبار حكومة نتنياهو على الرضوخ لمطالب التهدئة وإنهاء القتال رغم المرونة التي أبدتها حماس والوسطاء.
هذا بخلاف ما يثار حول دراسته لخطة بشأن نقل مليون فلسطيني إلى ليبيا ضمن مشروع الترانسفير العنصري، في تناقض ليس بالمستغرب لكن دلالاته تعمق من الهوان العربي والاستهانة الأمريكية الإسرائيلية بالقرار العروبي.
وعلى بعد ما يقرب من 3.6 ألف كيلومتر من العاصمة بغداد، حيث انعقاد القمة، تشهد طرابلس الليبية واحدة من أكثر معاركها الدموية، بين الفصائل المسلحة وحكومة الدبيبه المعترف بها أمميًا، وسط تحذيرات ومخاوف من تصاعد التوتر والوصول إلى طريق مسدود، خاصة في ظل ما يثار حول احتمالية دخول قوات المشير متقاعد خليفة حفتر على خط الأزمة، ما يشي بدخول ليبيا نفقًا سوداويًا من الاحتراب الأهلي المسلح.
الوضع في اليمن والسودان لا يختلف كثيرًا عنه في غزة وطرابلس، وإن كان بنسب متفاوتة، هذا بخلاف التداعيات الكارثية المحتملة للحرب الاقتصادية الأمريكية الصينية التي خلفتها معركة الرسوم الجمركية على المنطقة العربية، ناهيك عن التهاب المشهد على الساحة الأوكرانية وارتداداته الإقليمية، بجانب السجال المتأرجح بين طهران من جانب وتل أبيب وواشنطن من جانب أخر.
كل هذه الملفات الملتهبة، المتزامنة مع بعضها البعض، تضع المنطقة العربية بأكملها، دون أي استثناءات، فوق فوهة بركان، لاسيما مع حالة التمزق والشتات العربي العربي، في ظل الانقسامات وتباين الرؤى الحاد في الكثير من القضايا، الأمر الذي يزيد من المسؤولية الملقاة – هكذا يُفترض- على عاتق قمة بغداد ويفرض عليها أعباء جديدة تضعها في مأزق سياسي وأخلاقي واستنفار يدفع نحو توحيد الموقف العربي بشأن التحديات التي تواجه المنطقة، كما جاء على لسان وزير الخارجية العراقي.
فلسطين وسوريا يتصدران جدول الأعمال
بشكل منطقي تصدر الملف الفلسطيني اهتمامات قمة بغداد حيث استهل الرئيس العراقي عبد اللطيف رشيد كلمة الافتتاح بضرورة التغاضي عن الخلافات العربية العربية وإدانة العدوان الإسرائيلي على غزة ورفض محاولات تهجير الشعب الفلسطيني الذي أشاد بصموده تحت أي ظروف أو مسمى.
كما شدد القادة العرب على “الرفض القاطع” لتهجير الفلسطينيين سواء داخل الأراضي المحتلة أو خارجها، في رسالة واضحة للرفض العربي لأية ترتيبات قسرية تهدف لتفريغ غزة من سكانها، مؤكدين على مركزية القضية الفلسطينية، والمطالبة بوقف فوري للحرب على غزة، وبدعم غير مشروط للخطة العربية ـ الإسلامية لإعادة إعمار القطاع.
تأتي هذه القمة بعد الاجتماع العربي الطارئ الذي عُقد في القاهرة في مارس/ آذار الماضي والذي انتهى بتبني الخطة المصرية العربية لإعادة إعمار القطاع، دون تهجير سكانه، كبديل عملي لمقترح التهجير العنصري الذي قدمه ترامب بداية العام الجاري، وهي الخطة التي قال وزير الخارجية العراقي إن قمة بغداد ستدعمها كاملة.
وعلى الجانب الآخر يأتي الملف السوري ليفرض نفسه على طاولة النقاش، نظرًا لما له من طبيعة استثنائية لاسيما بعد قرار رفع العقوبات الأمريكية المفروضة عليه، والسير بخطى ثابتة نحو إنهاء العزلة والانخراط الإقليمي والدولي، حيث أجمعت مسودة “إعلان بغداد” على دعم حوار وطني شامل يضم كافة أطياف الشعب السوري، مع تأكيد على ضرورة الانتقال إلى عملية سياسية تحفظ وحدة البلاد وسلامها الأهلي.
وكان الأمين العام المساعد للجامعة العربية السفير حسام زكي، قد أكد أن “قرارًا بشأن سوريا أعدته الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، يجري مناقشته حاليًا، وقد يجري تعديله وتطويره حسب سير المناقشات”، فيما أثارت مسألة حضور الرئيس السوري أحمد الشرع جدلًا طفيفًا مع بدء تحضيرات القمة خاصة مع وجود معارضة برلمانية عراقية لهذا الأمر، وهي المعضلة التي تعاملت معها كل من دمشق وبغداد بدبلوماسية هادئة بالإعلان عن رئاسة وزير الخارجية أسعد الشيباني لوفد بلاده في تلك القمة كحل وسط يٌرضي جميع الأطراف.
لم الشمل العربي.. أحلام مشروعة ولكن!
في رسالة كتبها بخط يده قال رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، إن مناسبة القمة العربية ستكون منصة لتعضيد التضامن وطرح القضايا وتوحيد الصف وتقوية الموقف، وفي هذا الصدد أعلنت بغداد عن 15 مبادرة جديدة، تصب جميعها في دعم الأواصر العربية وتعزيز التعاون العربي العربي من أبرزها “العهد العربي لدعم الشعب السوري” و”المركز العربي لمكافحة الإرهاب”، بالإضافة إلى مشاريع في الذكاء الاصطناعي، والأمن الغذائي، وحماية البيئة من مخلفات الحروب.
كما أعلنت بغداد نيتها إنشاء “غرفة تنسيق أمني عربي مشترك”، بجانب إطلاق مبادرة اقتصادية للعقد العربي المقبل، في محاولة لرسم خارطة طريق عربية جديدة، تعزز العمل المشترك خارج الإطار التقليدي، وتجنب الخلافات البينية جانبًا، وتعمق من رقعة الأرضية المشتركة الجامعة للعواصم والشعوب العربية.
وزير الخارجية العراقي أشار إلى أن بلاده ستطرح، خلال رئاستها للقمة، عددًا من المبادرات بالتعاون مع جامعة الدول العربية، والدول الأعضاء، للتعامل مع الأزمات التي تشهدها بعض الدول العربية، مؤكدًا أن “بغداد تؤمن بأن تحقيق الاستقرار، وحل الأزمات، يجب أن يأتيا من خلال الحوار والمفاوضات، سواء على صعيد الأزمات الداخلية أو في العلاقات بين الدول”، مضيفًا أن “هناك مشكلات كثيرة في المنطقة يجب أن نبحث لها عن حلول ناجعة، والعراق سيؤدي دورًا مهمًا في هذا الشأن”.
وتحاول القمة تبريد الأجواء المتوترة بين العواصم العربية والتي تصاعدت في الأونة الأخيرة خاصة بين الإمارات والسودان، بعد إعلان الأخيرة قطع علاقاتها الدبلوماسية مع الأولى بسبب اتهامها بالتواطؤ في جرائم الحرب التي يتعرض لها الشعب السوداني على أيدي ميليشيات الدعم السريع المدعومة إماراتيًا، في حين تبذل الجامعة العربية ودول عربية جهودًا لرأب الصدع، حسب تصريحات سابقة أدلى بها الأمين العام المساعد للجامعة العربية السفير حسام زكي.
الاختبار الأخير للقرار العربي
لا شك أحد بحالة الهوان العربي الذي تحياه الأمة حاليًا، والذي هرته بشكل فاضح حرب الإبادة في غزة والخذلان العربي الأقرب للتآمر والتواطؤ في حرب استمرت قرابة 19 شهرًا لم يكن للعرب فيها ناقة ولا جمل، بل على العكس كانوا عونًا في بعض الأوقات للمحتل ضد مليوني فلسطيني محاصرين في القطاع، حين أجهضوا كافة محاولات عزلة الكيان المحتل اقتصاديًا وسياسيًا وأنعشوا خزائنه وأسواقه بالسلع وعوائد التصدير.
وتحولت القمم العربية ومن قبلها الجامعة ككيان عربي إلى مادة للتندر والسخرية في كثير من الأحيان بعد تراجع وربما تآكل الثقة الشعبية في دور مثل تلك المحافل التي تتحول في أغلبها إلى ساحات لاستعراض القدرات اللغوية والشعارات الرنانة وربما تبني خطاب شعبوي يحاول كل رئيس من خلاله زيادة رقعة شعبيته الداخلية.
ومن هنا ينظر البعض إلى قمة بغداد على أنها الفرصة والاختبار الأخير سياسيًا للقرار العربي ومستقبل العمل الإقليمي المشترك، فيما يراه أخرون السطر النهائي في سجل الجامعة العربية التي ربما تلفظ بعد هذه القمة، ما لم تُسفر عن مخرجات عملية، أنفاسها الأخيرة وتوضع على أجهزة التنفس الصناعي في انتظار إعلان وفاتها رسميًا خاصة بعد تصاعد حضور التكتلات الإقليمية الممزقة للوحدة العربية.
الحسنة الوحيدة التي خرجت بها القمة حتى الآن عودة بغداد من بعيد لتقديم نفسها كوسيط محتمل، حيث إعادة ترتيب الأوراق وإدخال تغيرات طارئة على سياستها الخارجية وعلاقاتها الإقليمية، لتفتح أبوابها كساحة واسعة مؤهلة لاستضافة مؤتمرات الحوار العربي وطرح مبادرات لاحتواء الخلاف العربي، وترجمة ذات بشكل أولي من خلال التبرع بـ20 مليون دولار لإعمار غزة وبـ20 مليونًا لإعمار لبنان، مما يعده البعض عودة تدريجية إلى مربع التأثير الإقليمي الذي غابت عنه العراق طويلًا جراء سقوطها في فخاخ الاستقطاب وارتهان قرارها السياسي لقوى خارجية.
يبقى التحدى الأكثر حرجًا: كيف يمكن ترجمة كل هذا الزخم الذي تشهده المنطقة العربية والذي يهدد أمنها وسيادتها وحضورها بل ومستقبلها إلى خطوات ملموسة ميدانيًا وإجراءات على الأرض؟ هل يمكن أن تكون قمة بغداد الفرصة الأخيرة لتفادي الانهيار العربي الكامل؟ هل تخرج القمة بأي جديد عمليًا غير البيانات الختامية المُخدرة؟