يسير المشهد الليبي بخطى متسارعة نحو التصعيد، متخطيًا حاجز السجالات السياسية إلى أعمال عنف واسعة النطاق، تلك التي شهدتها شوارع العاصمة طرابلس خلال اليومين الماضيين، في أعقاب الصدام المسلح بين أجسام المكون السياسي والأمني في البلاد والتي أسفرت عن سقوط العشرات ما بين قتيل ومٌصاب.
ودخلت الأجواء مرحلة متطورة من التوتر بعد البيان الصادر عن المجلس الأعلى للدولة والذي اعتبر فيه أن حكومة عبدالحميد الدبيبة “فاقدة” للشرعية”، لتتحول المناطق المحيطة بمقر الحكومة في شارع السكة وسط طرابلس إلى ساحة عريضة للاحتجاجات والتظاهرات العارمة، حيث وقعت اشتباكات وصدامات حادة بين القوة المكلفة بتأمين المقر الحكومي والمتظاهرين، ما نجم عن قتيل وعدد من الجرحى.
احتجاجات عارمة ومطالب بإسقاط الحكومة وإجراء انتخابات عامة تُطيح بكافة الأجسام والنتوءات الغريبة التي فرضت نفسها على الساحة الليبية قبل سنوات، وحولت مصالح البلاد إلى صفقة يسعى كل فصيل إلى الحصول على نصيب الأسد منها، وسط مخاوف متصاعدة من الولوج في مستنقع الفوضى والحرب الأهلية والعودة للمربع صفر مرة أخرى.
ودخل التصعيد ذروته بعد مقتل قائد “جهاز دعم الاستقرار” التابع للمجلس الرئاسي الليبي، عبد الغني الككلي المعروف بـ”غنيوة” داخل أحد المقار التابعة لـ”اللواء 444″ التابع لوزارة الدفاع، في الخامس عشر من مايو/أيار الجاري، مما أشعل فتيل الأزمة بين مكونات الطيف السياسي والأمني الليبي، التي تهيمن عليها نزعات التربص والتصيد في سياق صراع النفوذ والمصالح المحتدم بين أجسادها المتعددة.
مطالب بإسقاط الحكومة
تجمع العديد من المتظاهرين، مساء الجمعة 16 مايو/أيار الجاري، في ميدان الشهداء وسط طرابلس، للاحتجاج على الأحداث التي شهدتها المدينة خلال الأيام الماضية، مرددين هتافات تطالب برحيل حكومة الوحدة الوطنية وتحمل مسؤولية التصعيد الأخير بين التكتلات والتشكيلات المسلحة المتعششة في العاصمة.
وبالفعل توجه المحتجون الغاضبون صوب مقر رئاسة الحكومة، لتبدأ الاشتباكات مع قوات الأمن التي تتولى حراسة المقر، وسمعت أصوات الرصاص مجهول المصدر، مما أسفر عن سقوط أحد الأشخاص، وهو ما استفز المتجمهرين الذين اقتحموا المبنى وكسروا واجهاته.
يأتي هذا التصعيد ضد حكومة الدبيبة بعد ساعات قليلة من إعلان بعض الوزراء استقالتهم من مناصبهم وهم: وزراء الحكم المحلي بدر الدين التومي، والإسكان والإعمار أبو بكر الغاوي، والاقتصاد محمد الحويج، والموارد المائية محمد قنيدي، وزير النفط والغاز محمد عون، ووزيرة الثقافة مبروكة توغي، وعدد آخر من وكلاء الوزارات، بالإضافة إلى نائب رئيس الوزراء رمضان أبو جناح.
واستجابة لهذا التصعيد أجرى عدد من أعضاء المجلس الرئاسي اتصالات مكثفة مع بعض الأطراف في محاولة للخروج من هذا المأزق، حيث رجحوا خطوة إسقاط حكومة الدبيبة والبحث عن أسماء أخرى بديلة لتولي هذا المنصب، وبالفعل طٌرحت بعض الأسماء منها نائب رئيس المجلس عبد الله اللافي، وعضو مجلس النواب حمودة سيالة.
وفي أول تحرك رسمي دعا رئيس المجلس الأعلى للدولة، خالد المشري، رئيس مجلس النواب عقيلة صالح إلى تشكيل حكومة بديلة خلال 48 ساعة، وهي الدعوة التي قوبلت باستجابة سريعة من رئيس البرلمان، الذي أعلن الانخراط العاجل لاختيار شخصية وطنية لتشكيل حكومة جديدة.
وحتى كتابة تلك السطور لا زال المجلسان، الرئاسي والأعلى، في اجتماعات مفتوحة وتنسيق مشترك، في محاولة لإيجاد مخرج من تلك الأزمة قبل تفاقمها، خشية الدخول في موجة عارمة من الفوضى تقوض ما حققته البلاد من مكاسب تتعلق بالاستقرار النسبي خلال الفترة الماضية.
وفي محاولة منها لامتصاص حالة الغضب المتصاعد، أصدرت الحكومة بيانًا أكدت فيه حق التظاهر السلمي كاشفة عن رؤيتها لحلحلة الأزمة وتحقيق الاستقرار والذي لا يأتي إلا عبر “إنهاء جميع الأجسام التي جثمت على السلطة منذ أكثر من عقد، وأسهمت في إطالة أمد الانقسام السياسي وتعطيل بناء الدولة”، وهو البيان الذي يُفهم منه المطالبة بإنهاء كافة الأجسام السياسية والأمنية الموازية في المشهد الليبي.
كما أعقبت هذا البيان بأخر شككت فيه من الأخبار المتداولة حول استقالة 7 من وزراءها، قائلة إن “ما ينشر بشأن استقالة وزراء ووكلاء لا يعكس الحقيقة، والوزراء كافة يواصلون عملهم بصفة طبيعية”، وإن “أي قرارات رسمية تصدر حصرياً عبر القنوات المعتمدة، وليس من خلال منشورات غير موثوقة”.
فقدان الاعتراف الدولي.. مأزق قانوني ودستوري
لكن في المقابل هناك معضلة تواجه المطالبين بإسقاط حكومة الدبيبة وتعيين حكومة أخرى بكيانات مختلفة، تتعلق بأن الحكومة الحالية هي الوحيدة المعترف بها أمميًا، مما كسر نسبيًا حاجز العزلة وساعد على تصريف شؤون الدولة، وفي حال إسقاطها سيسقط معها بالتبعية هذا الاعتراف.
وعليه فإن الحكومة الجديدة ليس من المؤكد ما إذا كانت ستحظى باعتراف ودعم أممي أم لا، فالأمر قد يحتاج لوقت طويل، وهو ما يعني عدم القدرة على إدارة الملفات الحيوية في البلاد مثل عمل المصارف البنكية وتوفير الأجور والرواتب وتصدير النفط وغيرها من الأمور التي لو تعرضت لأي هزة ستٌصاب ليبيا بحالة من الشلل التام وهو ما قد يُدخلها في آتون من الفوضى والارتباك غير المنضبط.
هناك أزمة قانونية ودستورية اخرى حال الإطاحة بالحكومة الحالية، إذ أنه ليس من صلاحيات المجلس الرئاسي عزل رئيس الحكومة ولا إقالته، ما يعني أن أي خطوة في هذا المسار بالتفاهم بين المجلس والبرلمان ستكون عرضة للطعن القضائي، هذا بجانب عدم تمثيل خالد المشري، رئيس مجلس الدولة لرئاسة المجلس في ظل الاختلاف -حتى اليوم- حول النتائج التي جاءت به في هذا المنصب، ما يجعلها ثغرة يمكن الدخول منها للطعن على أي قرار يشارك فيه.
علاوة على ذلك فإن إقالة الدبيبة من شأنه أن يٌشعل أزمة جديدة تتعلق بالكيانات السياسية والأمنية المرتبطة بشكل أساسي بالحكومة المعترف بها دوليًا، وعليه فإن أي محاولة اقتراب من تلك الحكومة لابد وأن يسبقها تفاهمات وترتيبات مع تلك الكيانات لطمأنتها بعدما ستكون فاقدة للشرعية رسميًا في حال الإقدام على تلك الخطوة الجدلية.
من جانبها، أعربت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا عن قلقها بشأن التطورات الأخيرة، مشيرة في بيان لها أن البلاد تمر بـ”منعطف حرج يتطلب تضافر الجهود لتجاوز الانقسامات الداخلية، وإعطاء الأولوية للوحدة الوطنية والحفاظ على النسيج الاجتماعي”، منوهة أنها “تشارك بنشاط مع الوسطاء” وأنها بصدد “إطلاق آلية مخصصة لدعم وإدامة الهدنة الحالية”
كما حملت البعثة الأممية جميع الأطراف مسؤولية خفض التصعيد، داعية “جميع التشكيلات المسلحة إلى العودة فورًا إلى ثكناتها”، مع التأكيد على “الامتثال الكامل لوقف إطلاق النار والامتناع عن أي تصريحات أو أفعال تؤدي إلى التصعيد”، مشددة على أن “استقرار طرابلس أمر بالغ الأهمية”، وأن أي تدهور أمني في العاصمة “لا يهدد فقط الخدمات العامة والتعافي الاقتصادي والبنية التحتية، بل قد يؤدي إلى زعزعة الاستقرار على نطاق أوسع في غرب ليبيا”.
ومنذ عام 2016 وتعاني الساحة الطرابلسية من تعدد التنظيمات المسلحة، حيث يسيطر كل تشكيل على منطقة معينة، فيما كان “جهاز دعم الاستقرار” صاحب الكلمة العليا في هذا التنافس، حيث هيمن على منطقة أبو سليم بالعاصمة، هذا بخلاف “قوات الردع الخاصة” التي تعرف بـ”الردع” التي يتزعمها عبدالرؤوف كاره، والتي تسيطر على منطقة سوق الجمعة بطرابلس.
هناك أيضًا قوات “اللواء 444” التابعة لوزارة الدفاع والتي يقودها محمود حمزة، والتي كانت تعاني علاقاتها مع “قوة الردع” من توترات شديدة خلال الآونة الأخيرة، خاصة وأنها تتمركز كذلك في منطقة سوق الجمعة، ليصبح الثلاثي، الككلي وكاره وحمزة الشخصيات الأمنية الأكثر تأثيرًا في طرابلس بجانب وزير الداخلية عماد طرابلسي.
وفي ظل صراع النفوذ بين تلك التشكيلات ذات الحواضن الداعمة المختلفة، تفاقمت الخلافات التي خيمت على مكونات المشهدين، السياسي والأمني، خاصة في مدينة طرابلس، وسط تبادل الاتهامات بمساعي كل فصيل الاستئثار بالسلطة والهيمنة على أكبر قدر ممكن من مؤسسات الدولة.
مأزق حقيقي تواجهه الساحة السياسية الليبية، بين مطرقة الإبقاء على الحكومة الحالية رغم تورطها الواضح في التوترات الأخيرة، واستحالة استمرارها، وسندان الإطاحة بها وما لذلك من تداعيات دستورية وقانونية وأمنية كفيلة أن تُعيد الأمور إلى الوراء طويلا، فهل ينجح الليبيون في تحقيق التوازن بشأن تلك المعادلة الحرجة؟