ترجمة وتحرير: نون بوست
في غزة، حيث تهيمن أصداء الصراع على الحياة اليومية، أصبح التعليم في غزة ضحية ورمزًا للمقاومة في آن واحد. فبينما تُدمّر الفصول الدراسية، وتنقطع اتصالات الإنترنت، ويسود الخوف الدائم من النزوح أو الموت، يسعى الطلاب والمعلمون جاهدين للحفاظ على التعليم حتى مع انهيار كل شيء من حولهم.
لم يعد التعليم هنا سبيلًا للفرص؛ بل هو صراع من أجل البقاء. فمنذ تصاعد حرب الإبادة الجماعية في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، أُغلقت المدارس والجامعات في جميع أنحاء غزة، وتعرضت للقصف والتدمير، وأصبحت ملاجئ للنازحين الفلسطينيين. لقد تغيرت حياة وأحلام الآلاف من الطلاب والمعلمين وتأثرت صحتهم النفسية.
سويت جميع جامعات غزة بالأرض جراء الغارات الجوية. ووفقًا لخبراء الأمم المتحدة، دُمرت أكثر من 85 بالمائة من المدارس في غزة كليًا أو جزئيًا. ووفقًا للمرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، فقد قتلت الغارات الجوية الإسرائيلية ثلاثة رؤساء جامعات وأكثر من 95 من عمداء ومدرّسي الجامعات، من بينهم 68 أستاذ جامعي.
وعلى الرغم من الدمار والإبادة الجماعية في غزة، لا يزال التعليم شكلًا من أشكال المقاومة، وكل طالب وأستاذ يجرؤ على الحلم هو رمز للأمل الذي لا ينكسر.
إليكم أربعة من قصصهم.

تقول سيرين نصر الله، الأستاذة المساعدة لمادة اللغة الإنجليزية في الجامعة الإسلامية في غزة، إن الحرب حولت دورها إلى مجرد “وسيط” وأعادت تعريف معنى التدريس.
ويتمثل التحدي الأكثر تأثيرًا ـ بالنسبة لسيرين ـ في انقطاع الكهرباء والإنترنت في جميع أنحاء القطاع، حيث تقوم بتدريس دورات غير مباشرة عبر الإنترنت؛ حيث تقول: “لا أستطيع الوصول إلى طلابي بسهولة، وحتى التواصل مع زملائي من أعضاء هيئة التدريس في الجامعة أصبح صعبًا”.
وتشعر سيرين أنها تحولت من محاضِرة إلى مجرد منسقة بين المقرر الدراسي والطلاب، تقول: “أنا فقط أشارك الشرائح. لا أستطيع الشرح. لا أستطيع التفاعل. أستخدم هاتفي لإدارة كل شيء، حتى التصحيح”.
ولاحظت سيرين تحديات متعددة لدى طلابها منذ بداية الحرب، فقد تحول تركيزهم من التعلم إلى اجتياز المتطلبات، وتقول: “إنهم محاطون بالقلق والخوف والترقب، وقد تأثر مستواهم الأكاديمي بشدة”. لقد حرمت هذه الحرب الطلاب من الوقت اللازم للتركيز واستجماع قدراتهم الذهنية عند الحاجة.
ومع توقف الراتب وقلة الموارد وقلة الدعم العاطفي الذي يتلقونه، تواصل سيرين عملها. وتروي قصة مأساوية لا تزال تؤرقها: طالبة أصيبت بجروح خطيرة وتوفيت لاحقًا بعد أن طلبت تأجيل امتحانها النهائي. تقول سيرين: “ما زلت أفكر فيها. كيف يمكنك أن تطلب من شخص ما أن يركز على القواعد بينما هو يعاني من الحروق والكسور؟”.
على الرغم من إرهاقها، تواصل سيرين التدريس، وتعترف قائلةً: “أفعل ذلك على أمل أن تساعدني هذه التجربة يومًا ما في الحصول على منحة دراسية أو وظيفة في الخارج. لكن في الغالب، أفعل ذلك ابتغاء الأجر من الله”.
وتضيف سيرين: “إن الحاجة الأكثر إلحاحًا ليست الموارد، بل الأمن. فقط عندما تتوقف القنابل عن السقوط وتنتهي الإبادة الجماعية، يمكن أن يبدأ التعلم حقًا”.
هبة العجوز، طالبة في السنة الثالثة بكلية الطب بجامعة الأزهر، لم تتخل عن دراستها؛ حيث تقول: “كنت أحاول مواصلة دراستي في الطب، ولكننا توقفنا عن الذهاب إلى الجامعة. لا يمكن الوصول إلى الأساتذة، بل إن بعضهم قُتل. والبعض الآخر يخدم في المستشفيات المكتظة. نحن ندرس بشكل مستقل، ونتشبث بأي مورد يمكن أن نجده على الإنترنت؛ عندما تتوفر الكهرباء أو الإنترنت”.
تعليم هبة متوقف منذ حوالي ثمانية أشهر، فجامعتها مدمرة، وغالبًا ما تفتقر إلى إمكانية الوصول إلى المواد التعليمية الأساسية أو الإنترنت، وتقول هبة بحنين عميق: “أفتقد كل شيء في الحياة الجامعية: أصدقائي، والأجواء، والروتين اليومي، وحتى فترات الراحة التي كنا نستمتع بها معًا”.
وتعترف قائلة: “كل يوم يجلب لحظة من اليأس. ومع ذلك، ما زلت متمسكة بإيماني والإيمان بأن من واجبي الاستمرار.“
وتُعرب هبة عن خوفها العميق من عدم قدرتها على إكمال تعليمها. وتقول إنها تعيش حالة من الإنكار العاطفي، ولم تستوعب بعد الصدمة التي عاشتها هي وأقرانها. تروي هبة صدمة النزوح المتكرر؛ حيث اضطرت للإخلاء تحت القصف تاركةً ممتلكاتها الشخصية وكتبها الدراسية، وفقدت أصدقائها المقربين وأفرادًا من عائلتها: فقد توفي جدها بسبب نقص العلاج الطبي، وقُتل ابن عمها خلال الهجمات.
تقول: “لا يوجد مكان آمن هنا”، ولقد غيّرت الحرب نظرتها للمستقبل تمامًا، فقد تلاشت الحياة والوظيفة اللتين حلمت بهما يومًا ما، ولم تعد تخطط للمستقبل حتى تنتهي الحرب. تقول: “أفتقد الشخص الذي كنته سابقًا؛ مشاعري، وأفكاري، وشعوري بالأمان، وصحتي، وأيام الماضي الزاهية”، وتشك في أن تلك الأيامش ستعود يومًا ما.
ومع ذلك، فهي تستلهم من حديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم: “إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها”، فحتى في مواجهة النهاية، يجب على المرء أن يجتهد لفعل الخير، هذا الإيمان يقويها؛ حيث تقول: “أتمنى أن تنتهي هذه الحرب قريبًا لنتمكن من الدراسة مثل الطلاب في كل مكان: بأمان وكرامة”.
فاطمة سكيك، طالبة هندسة معمارية في السنة الثالثة بالجامعة الإسلامية بغزة، فقدت منزلها وجامعتها ونزحت عدة مرات، وكانت تأمل أن تعمل كمهندسة معمارية مستقلة وأن تعمل في دبي في نهاية المطاف، وكانت تحلم بمشروع تخرجها، الذي يركز على تطوير التكنولوجيا في مجال الهندسة المعمارية بغزة، وتقول: “الآن، حلمي الوحيد هو البقاء على قيد الحياة، وإكمال دراستي، والمساعدة في إعادة إعمار غزة”.
اضطرت فاطمة إلى إيقاف دراستها مؤقتًا من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 حتى أغسطس/ آب 2024،وتقول: “حتى الوصول إلى الإنترنت لا يزال يشكل عائقًا كبيرًا أمام مواصلة تعليمي”.
وتشمل التحديات التي تواجهها فاطمة نقص الأدوات والمساحات اللازمة للتدريب المعماري، ومع ذلك فهي تتحدث بصمود عميق: “كان أساتذتنا لطفاء، وكانوا يتواصلون معي عندما كنت أختفي بسبب انقطاع الإنترنت، وهذا ما شجعني على الاستمرار؛ فنحن الفلسطينيون لدينا إرادة لا تنكسر”.
وتتوق فاطمة إلى الحياة التي عاشتها يومًا: منزلها، وغرفتها، ومرسمها، ورحلاتها الجامعية، ولياليها في العمل على مشاريعها. ورغم خسارتها، تستمد قوتها من إيمانها بقوة التعليم كشكل من أشكال المقاومة، وتؤكد قائلةً: “لا نقاوم بالسلاح فحسب، بل بالمعرفة والمثابرة والصمود. التعليم بحد ذاته شكل من أشكال التحدي”.
وتقول فاطمة: “نحن أقوياء، وأذكياء، ومجتهدون”، وتضيف: “نريد فقط أن نتعلم بسلام، ونريد أن نُظهر للعالم أننا مستمرون رغم كل شيء. لقد أصبحنا مصدر إلهام للطلاب الذين يشعرون باليأس لأسبابٍ أبعد ما تكون عن الحرب”.
نادرة مشتهى، طالبة في السنة الرابعة في قسم اللغة الإنجليزية بالجامعة الإسلامية بغزة، تروي كيف أثرت الحرب الدائرة بشدة على حياتها الأكاديمية وصحتها النفسية؛ حيث تواصل دراستها عبر الإنترنت، لكن الحرب كان لها تأثير بالغ عليها، فتقول: “دُمّرت جامعتنا، وقُتل أصدقاؤنا، ولم نعد نحضر الفصول الدراسية في الحرم الجامعي”.
وتعيش نادرة في قلق دائم، وتغمرها الأفكار والمخاوف المتواصلة، فقد هُجّرت هي وعائلتها عدة مرات، وفقدت أقاربها وأصدقاءها، بمن فيهم جدها، وتقول: “لا يوجد مكان آمن في المدينة بأكملها”.
وتضيف نادرة: “تبددت أحلامنا وخططنا، لكنني ما زلت أحاول”، كما أنها تفتقد حياتها الجامعية بشدة؛ حيث تروي قائلة: “أشتاق إلى أصدقائي، وضحكاتنا، وتلك الصباحات النابضة بالحياة. لقد جففت الحرب دموعي، فلم أعد أبكي حتى في لحظات الوداع”.
ويشكل انقطاع الكهرباء وانقطاع الإنترنت معاناة يومية، وتوضح: “لا أستطيع الدراسة ليلاً بسبب انقطاع الكهرباء، والليل هو الوقت الوحيد الذي أستطيع التركيز فيه”.
وعندما تُسأل عن مستقبلها، تجيب بتردد وخوف: “بصراحة، لا أعرف. لو لم تكن هناك حرب قائمة، لأجبت بالمكان الذي أرى نفسي فيه.”
وعلى الرغم من الدمار، تقول: “لا يزال الأمل يلوح في الأفق، حتى وسط الموت. أحاول مواصلة الكتابة والتعلم، لعلّي أستطيع مساعدة هذه المدينة، ولو حتى بكلماتي”.
المصدر: ذي إنترسبت