تسير المفاوضات الجارية حاليًا في العاصمة القطرية، الدوحة، بشأن وقف إطلاق النار في قطاع غزة وإبرام صفقة تبادل أسرى جديدة، جنبًا إلى جنب مع التصعيد العملياتي الميداني في القطاع، حيث بدأ جيش الاحتلال عملية برية مكثفة في مناطق بشمال القطاع وجنوبه، ضمن ما يُعرف إعلاميًا باسم عملية “عربات جدعون” التي تستهدف تحقيق أهداف الحرب والقضاء على حماس وتحرير الأسرى.
وكان جيش الاحتلال قصف الأسبوع الماضي ما يزيد عن 670 هدفًا في مناطق متفرقة في القطاع في سياق التمهيد الميداني للعملية البرية التي أعلن عنها قبل فترة، ما أسفر عن سقوط ما يزيد عن 500 شهيد وأضعافهم من الجرحى في غضون الأيام الثلاثة الأخيرة فقط، في مشهد يعيد الأجواء إلى الأيام الأولى من الحرب التي دخلت شهرها التاسع عشر.
مكتب نتنياهو: محادثات غزة في الدوحة تتضمن الآن إنهاء الحرب أو هدنة pic.twitter.com/4jHF5pdmRS
— Reuters | عربي (@araReuters) May 18, 2025
اللافت هنا أن مكتب رئيس حكومة الاحتلال وفي حديثه عن التطورات المتعلقة بمفاوضات الدوحة قال إنها “تشمل مناقشات حول إنهاء الحرب، بالإضافة إلى مقترح للاتفاق على هدنة وإطلاق سراح الأسرى”، مضيفًا في بيان نشره الأحد 18 مايو/ أيار الجاري أن “إنهاء الحرب يجب أن يشمل نزع السلاح في قطاع غزة، بالإضافة إلى إبعاد مقاتلي حماس”.
وهذه هي المرة الأولى التي تتحدث فيها حكومة نتنياهو عن مسألة إنهاء الحرب بشكل رسمي، إذ كانت مستبعدة تمامًا وخارج طاولة النقاشات طيلة المبادرات الأخيرة، في ظل الموقف المتشدد لليمين المتطرف والذي لوًح أكثر من مرة بالاستقالة إذا ما تضمنت المفاوضات أي إشارة أو تلميح بشأن إنهاء الحرب قبل تحقيق كامل الأهداف.. فماذا يعنيه هذا التطور؟
خلخلة في جدار الصلف الإسرائيلي
منذ خرق الاحتلال لهدنة نوفمبر/تشرين الثاني 2023 لم يتطرق نتنياهو ولا حكومته لفكرة إنهاء الحرب بشكل كامل، كمسألة مطروحة على طاولة النقاش، بل حاول مرارًا وتكرارًا الالتفاف حولها عبر مصطلحات ومرادفات فضفاضة ومضللة تضع تعبير “إنهاء الحرب” بشكل منعزل بعيدًا عن أي سياق تفاوضي، أو على الأقل تُقرن بشروط تعجيزية مثل القضاء على حماس واستسلام قادتها وإبعادهم عن القطاع وتسليم السلاح والإفراج غير المشروط عن الأسرى.
وعليه فإن الحديث عن الانخراط بشكل رسمي ودون أي شروط مسبقة في مفاوضات عامة شاملة، تتحدث بشكل علني وصريح وتدخل في نقاش جدي لأول مرة عن إنهاء الحرب ووقف إطلاق النار، يمثل خلخلة واضحة في جدار الصلف الإسرائيلي، وتحولًا يجب أن يوضع في الاعتبار عند الجلوس على مائدة الحوار والتفاوض.
يرى البعض أنه وبحسب البيان الصادر عن مكتب نتنياهو، فإن الحديث عن إنهاء الحرب جاء مشروطًا بتسليم المقاومة لسلاحها وإبعاد قادتها وإنهاء حكمها في القطاع، وعليه فلا جديد فيه، كونه لا يختلف كثيرًا عن الطرح القديم، وربما يكون امتداداً مشكوكًا فيه لمقترح “ويتكوف” الذي كان يتمسك به نتنياهو قبل ذلك.
لكن من زاوية أخرى فإن قبول حكومة الاحتلال أن تُطرح مسألة إنهاء الحرب، حتى وإن كانت في سياق أعم وأشمل ضمن اشتراطات ما، على طاولة المفاوضات كـ”ملف واحد”، فهو خرق كبير لهذا الجدار الصلب الذي طالما تمترس خلفه نتنياهو ويمينه المتطرف على مدار شهور طويلة.
خرق يمكن أن يكون نواة لمفاوضات تقود في النهاية إلى إسدال الستار عن تلك المعركة الوحشية، إذا ما تم تفكيك تلك الشروط الإسرائيلية والتعامل مع كل شرط منها على حدة وفق رؤية مغايرة، تضع في الاعتبار التطورات الميدانية، فالحديث عن تسليم السلاح مسألة فضفاضة يمكن التعاطي معها بشكل مختلف، كذلك إبعاد قادة الحركة خاصة بعد استشهاد رموز الصفين الأول والثاني لديها، بخلاف إعلانها أكثر من مرة عن عدم رغبتها في الاستمرار في حكم القطاع.
وكانت هيئة البث العبرية الرسمية، قد كشفت في تقرير سابق بعض ملامح الاتفاق التمهيدي الذي قدمه الوفد الإسرائيلي وتُدار المفاوضات حوله حاليًا في الدوحة، والذي يتضمن وقف إطلاق النار في غزة لـ60 يوما، وإفراج حماس عن نصف الأسرى الإسرائيليين الأحياء (تقدر تل أبيب وجود 58 أسيرا إسرائيليا بغزة، منهم 20 أحياء) نظير الإفراج عن عدد – لم يُحدد بعد- من الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال (تقديرات تكشف عن قبوع أكثر من 10 آلاف فلسطيني في السجون الإسرائيلية).
المقترح يتضمن كذلك مناقشة مستقبل الحرب خلال هدنة الـ 60 يومًا، حيث التفاوض على مسألة نزع سلاح فصائل المقاومة وترحيل قادتها خارج القطاع، وهو المطلبان اللذان تصر عليهما تل أبيب دون تفريط بحسب مصادر، فيما لم يصدر أي رد فعل من حماس ولا الوسيط القطري بشأن هذا المقترح، وإن كانت الحركة قد أكدت في تصريحات سابقة رفضها التخلي عن السلاح، طالما تواصل إسرائيل احتلال الأراضي الفلسطينية.
إدخال المساعدات.. قرار بلا تصويت
بالتزامن مع التسريبات الخاصة بشأن المقترح الذي قدمه الوفد الإسرائيلي المفاوض في الدوحة، قررت حكومة الاحتلال إدخال المساعدات إلى قطاع غزة بناء على توصية الجيش من أجل توسيع نطاق العملية العسكرية، فيما نقلت صحيفة “جيروزاليم بوست” عن مسؤول إسرائيلي قوله إن هذا القرار مؤقت لمدة أسبوع فقط حتى الانتهاء من إنشاء مراكز التوزيع التي ستكون خاضعة لإدارة جيش الاحتلال وشركات أمريكية
ونقلت إذاعة الجيش الإسرائيلي عن مصادر قولها إن أول قافلة مساعدات ستدخل غزة اليوم الاثنين 19 مايو/أيار الجاري، محملة بمواد غذائية وأدوية، وسيتم نقلها عبر منظمات دولية عدة، وذلك حتى بدء عمل آلية المساعدات الجديدة في الرابع والعشرين من الشهر الحالي وفق ما نقل موقع “أكسيوس”.
عاجل | معاريف: سموتريتش قال إنه سيترك الحكومة والمجلس الوزاري المصغر إذا وصلت ذرة معونات واحدة إلى حـ،ـماس pic.twitter.com/NjZn12Cyt6
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) May 19, 2025
وبحسب الموقع الأمريكي فإن المساعدات، التي تدخل القطاع بعد 75 يومًا من المنع والإغلاق، تشمل مواد غذائية كالدقيق للمخابز التي تديرها منظمات دولية وأدوية للمستشفيات، مشيرة إلى أن المساعدات سيتم إيصالها عبر برنامج الغذاء العالمي ومنظمة المطبخ المركزي العالمي ومنظمات إغاثة أخرى.
وكانت القناة 14 الإسرائيلية قد كشفت أن قرار إدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع أحدث جدلا كبيرًا خلال اجتماع مجلس الوزراء الأخير، حيث ندد مكتب وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير بهذه الخطوة، متهما رئيس الحكومة بارتكاب خطأ جسيم، مشيرا إلى أن كل مساعدة إنسانية تدخل قطاع غزة تغذي حماس على حد زعمه.
أما هيئة البث الإسرائيلية فأوضحت أن قرار استئناف إدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة اتُخذ دون تصويت، رغم معارضة وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش ووزراء آخرين، بما يعكس حجم الضغوط التي تعرض لها نتنياهو لتمرير هذا القرار بصرف النظر عن أصوات المعارضين.
رضوخ للضغوط الدولية
بطبيعة الحال فإن الأسباب التي ساقها نتنياهو لتبرير إدخال المساعدات بعد 75 يومًا من غلق كافة المعابر الشرعية وغير الشرعية، والتي قال إنها تأتي انطلاقًا من رغبته في عدم الوصول إلى مجاعة كاملة تهدد حياة سكان القطاع، هي في حقيقتها أسباب مثيرة للسخرية، إذ أن ما ارتكبه جيش الاحتلال على مدار أكثر من 19 شهرًا من قتل وحرق وتنكيل وتجويع وتشريد ونزوح وحصار، يتجاوز في جرمه ووحشيته تلك المجاعة التي يعاني منها الفلسطينيون منذ أشهر طويلة.
ووفق ما ذكرته وسائل إعلام عبرية فإن مثل هذا القرار إنما جاء رضوخا لضغوط خارجية من دول عدة، أمريكية وأوروبية، من أجل السماح بإدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزّة، في ظل المجاعة هناك، ومنع حكومة الاحتلال دخول المساعدات إليها منذ فترة طويلة.
نتنياهو اعترف بشكل رسمي خلال جلسة مجلس الوزراء الأخيرة التي ناقش فيها هذا القرار أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يمارس “ضغطاً شديداً” عليه لإدخال المساعدات، ورغم معارضة بعض الأصوات لهذه الخطوة على رأسها وزير المالية بتسلئيل سموتريتش الذي لوّح بالانسحاب حال تنفيذها، إلا أن رئيس الوزراء رفض عرض القرار للتصويت، إذ أنه مضطر للموافقة عليه.
إعلام عبري يقول نقلا عن وزراء، إن قرار إدخال المساعدات إلى #غزة «اتخذ بضغوط أميركية»
https://t.co/7p6oKva0ql#صحيفة_الشرق_الأوسط#صحيفة_العرب_الأولى pic.twitter.com/3yH2RypnGg
— صحيفة الشرق الأوسط (@aawsat_News) May 18, 2025
وكان وزير الخارجية جدعون ساعر قد طالب بضخ المساعدات بشكل فوري “بسبب الضغوط من الاتحاد الأوروبي والتهديدات بفرض عقوبات، وحتى من الولايات المتحدة”، موضحا أن وزراء خارجية آخرين تحدثوا معه حول الموضوع، وأن ممثلين ديمقراطيين وجمهوريين في الكونغرس الأميركي توجّهوا بالطريقة نفسها إلى سفير إسرائيل في أمريكا، وفق التسريبات التي نشرتها إذاعة “كان ريشت بيت” عن بعض ما دار في الجلسة اتخذ فيها المجلس الوزاري للشؤون السياسية والأمنية (الكابينت) القرار.
وفي ذات السياق، أفادت القناة 12 العبرية، أن نتنياهو أبلغ “الكابينت” بشأن ما يتعرض له من ضغوط سياسية إزاء هذا الأمر، بما في ذلك من قبل الحزب الجمهوري والرئيس ترامب نفسه، محذرًا من أن الكيان قد يواجه أزمة خطيرة إذا لم يتعامل مع هذه الضغوط بجدية، ومن ثم كان لابد من اتخاذ القرار مهما كانت الأصوات المعارضة له.
توسيع دائرة الحرب.. السير عكس الاتجاه
على الجانب المقابل، وفي الوقت الذي يقرأ فيه البعض خطوة إدخال المساعدات المتزامنة مع التطور اللافت في مسار المفاوضات الجارية الآن في الدوحة، أوضح بيان صادر عن ديوان نتنياهو أن السماح بإدخال المساعدات الإنسانية يخدم هدف توسيع الحرب، قائلا: “من أجل إتاحة توسيع القتال المكثف لهزيمة حركة حماس، ستقوم إسرائيل بإدخال كمية أساسية من الغذاء للسكان لضمان عدم نشوء أزمة مجاعة في قطاع غزة. مثل هذه الأزمة قد تعرّض استمرار عملية عربات جدعون لهزيمة حماس للخطر”.
ويتزامن هذا التطور مع تكثيف جيش الاحتلال لعملياته الميدانية فعليًا ضمن المرحلة الأولى من عملية “عربات جدعون”، وهي العملية التي يستهدف بها نتنياهو ووزراء اليمين المتطرف إجراء المفاوضات تحت النار، على أمل تقديم المقاومة لمزيد من التنازل والحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب قبل الاضطرار لوقف الحرب بشكل نهائي.
إسرائيل ستسمح بدخول مساعدات أساسية لغزة وسط قصف عنيف تشنه في مناطق متفرقة في القطاع وارتفاع حصيلة الضحايا الفلسطينيين pic.twitter.com/8TYvRsROIX
— DW عربية (@dw_arabic) May 19, 2025
وتتصاعد الضغوط الشرق أوسطية والأوروبية على تل أبيب لوقف القتال وهو ما وضع إدارة ترامب في مأزق سياسي وأخلاقي كبير، خاصة بعد الوعود التي أطلقها الرئيس مرارًا لوقف تلك الحرب الشرسة، ما دفعه لبذل المزيد من الضغوط الموازية على حكومة نتنياهو، إما لحسم المعركة مجانيًا وتحقيق كامل أهدافها، أو الاضطرار للجلوس على مائدة المفاوضات والرضوخ لما يمكن أن تفضي إليه من مخرجات أبرزها وقف الحرب بشكل كامل.
ومن هنا وفي ظل التفاهمات، المعلنة وغير المعلنة، بين واشنطن وتل أبيب، يسابق نتنياهو وحكومته الزمن من أجل حسم المعركة وتحقيق الأهداف التي تمنح نتنياهو الانتصار المطلق الذي ينشده، وذلك قبل أن يجد نفسه مٌجبرًا على الرضوخ لاتفاق يُنهي تلك الحرب نهائيًا، مهما كانت التبعات.
في الأخير.. فإن ما يحدث في مفاوضات الدوحة خرق يمكن البناء عليه بشكل نسبي، يتوقف الأمر على عاملين أساسيين، الضغط الإقليمي والدولي واستغلال النرجسية الترامبية الطامحة لانتصار دبلوماسي يكتب بها الرئيس المغرور اسمه في سجلات التاريخ، والأداء الميداني للمقاومة وإفشالها لكافة مخططات الاحتلال الساعي من خلالها لتحقيق أي انتصارات ميدانية تعزز موقفه التفاوضي.