ناقش البرلمان المصري خلال الشهر الماضي مشروع الموازنة العامة للعام المالي الجديد 2024/2025، الذي أعدته الحكومة ووافق عليه رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي، قبل أن يُحال إلى مجلس النواب لمراجعته وإجراء التعديلات اللازمة تمهيدًا لاعتماده وتنفيذه.
وكما جرت العادة، وافق البرلمان على المشروع دون إدخال أي تعديلات تُذكر، مُقرًّا بذلك أضخم موازنة في تاريخ البلاد، بإجمالي استخدامات بلغ نحو 6.761 تريليون جنيه، واللافت أن نحو 64.8% من هذه الاستخدامات، أي ما يقارب ثلثي الموازنة، خُصصت لسداد فوائد وأقساط القروض، وهي نسبة تعكس زيادة بنحو 27.5% مقارنة بموازنة العام المالي الجاري.
ومع هيمنة بند خدمة الدين العام على الموازنة بهذه النسبة غير المسبوقة، كان من الطبيعي أن يأتي ذلك على حساب الإنفاق الموجه للمواطنين، لا سيما في بنود الدعم والمنح والمصروفات الاجتماعية. ورغم ذلك، واصلت الحكومة المصرية الترويج لادعاءات بوجود “زيادات كبيرة في دعم المواطنين” والإنفاق على الصحة والتعليم، ضمن أرقام الموازنة الجديدة.
وقد اطّلع “نون بوست” على نسخة من الموازنة المعتمدة في البرلمان، ويكشف التقرير التالي أن الزيادات المعلنة في الدعم والخدمات ليست سوى وهم محاسبي، ويستعرض الحيل التي اعتمدتها الحكومة لتقليص الإنفاق الحقيقي على الحقوق الأساسية، كما يوضح كيف تتحمّل جيوب المصريين العبء الأكبر لتمويل هذه الموازنة.
هل يزداد دعم المواطنين فعلاً؟
تروّج الحكومة المصرية لرواية مفادها أنها تتحمّل أعباء ضخمة في الموازنة العامة بسبب التزاماتها في بنود الدعم، وتدّعي سنويًا أنها تعمل على زيادته، في محاولة لتقديم صورة تظهر اهتمامها بالمواطنين.
يتجلى هذا التوجه، على سبيل المثال، في تصريحات نائب وزير المالية، أحمد كجوك، خلال إلقائه البيان المالي لمشروع الموازنة أمام البرلمان، حيث أكد أن الموازنة تُجسّد “انحياز الرئيس عبد الفتاح السيسي، وجهود الحكومة المستمرة لدعم الفئات الأولى بالرعاية”. وبيّن كجوك أنه تم تخصيص 742.5 مليار جنيه للحماية الاجتماعية في الموازنة الجديدة، بزيادة قدرها 16.8% عن العام السابق، الذي بلغ فيه الإنفاق المعلن 635.9 مليار جنيه.
لكن هذه الأرقام لا تعكس الصورة الكاملة، فالرقم الذي أشار إليه كجوك، يعود إلى الباب المعروف باسم “الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية” في تقرير الموازنة العامة الصادر عن وزارة المالية، وهو الباب الذي كثيرًا ما تُقدّمه الحكومة على أنه يشمل مجمل الدعم الموجه للمواطنين، غير أن مراجعة بنود هذا الباب تُظهر أنه لا يقتصر على الفئات الأولى بالرعاية، بل يشمل دعمًا مباشرًا لمؤسسات حكومية، ومخصصات لشركات من القطاع الخاص، مثل دعم المُصدرين، ما يُفرغ الخطاب الرسمي من مضمونه الفعلي.
على سبيل المثال، نجد ضمن هذا الباب بندًا بعنوان “مساهمات في صناديق المعاشات”، بمبلغ يصل إلى 153.4 مليار جنيه، لكن الواقع أن أصحاب المعاشات لا يتلقّون دعمًا مباشرًا من الموازنة، إذ تُصرف مستحقاتهم من اشتراكاتهم التي دفعوها خلال سنوات عملهم، ما يجعل هذا البند تحويلاً محاسبيًا داخليًا أكثر منه إنفاقًا اجتماعيًا فعليًا.
نظرًا لأن التمويل الأساسي للمعاشات يأتي من اشتراكات شهرية تُقتطع من الموظفين المؤمن عليهم وأصحاب العمل طوال سنوات الخدمة، وتُرد لاحقًا في صورة معاشات تقاعدية أو إعانات في حالات الوفاة أو العجز، فإن الهيئة القومية للتأمينات الاجتماعية هي الجهة المسؤولة عن إدارة هذه الأموال وصرفها، من خلال صناديق مستقلة ماليًا وإداريًا.
لكن أزمة أصحاب المعاشات بدأت فعليًا في عام 2005، عندما قرر وزير المالية آنذاك، يوسف بطرس غالي، الاستيلاء على نحو 435 مليار جنيه من أموال صناديق التأمينات لاستخدامها في تمويل عجز الموازنة العامة، مع توجيه جزء منها للاستثمار في البورصة، ما أدى لاحقًا إلى خسارة ما يقرب من 60% من أصول هذه الصناديق.
وفي أعقاب ثورة يناير 2011، وجّهت النيابة الإدارية اتهامات رسمية ليوسف بطرس غالي في هذه القضية، كما اتهم اتحاد أصحاب المعاشات آنذاك محمد معيط، الذي كان يشغل منصب مستشار الوزير لشؤون التأمينات، قبل أن يُعيّنه الرئيس عبد الفتاح السيسي لاحقًا وزيرًا للمالية (2018–2024)، ليُصبح بذلك أطول من شغل هذا المنصب في تاريخ مصر الحديث.
ومع تفاقم الأزمة، اضطرت الحكومة إلى اتخاذ إجراءات “تصحيحية”، فأصدر البرلمان في عام 2019 قانونًا جديدًا للتأمينات والمعاشات، هدف إلى إنهاء التشابكات المالية بين وزارة المالية وهيئة التأمينات، وتضمّن اتفاقًا ماليًا بجدولة المديونية المستحقة للهيئة على مدار 50 عامًا. وابتداءً من العام نفسه، بدأت الحكومة في سداد أقساط هذه الديون، حيث يُدرج جزء منها ضمن باب “المنح والمزايا الاجتماعية” في الموازنة العامة.
بالتالي، لا تقدّم الحكومة لأصحاب المعاشات أي دعم فعلي، بل تسدّد لهم ديونًا متراكمة نتيجة استيلاء سابق على أموالهم، وما يُروَّج له كمخصصات “اجتماعية” في هذا الباب، ليس سوى سداد إلزامي لمستحقات مالية.
كما يتضمّن باب الدعم في الموازنة العامة مخصصات لا ترتبط مباشرة بالمواطن، من بينها نحو 27.1 مليار جنيه تُصرف في صورة منح موجهة إلى جهات حكومية ودول أجنبية، بالإضافة إلى 44.2 مليار جنيه تُدرج تحت بند “احتياطات عامة للدعم والمنح”، تُستخدم في دعم الصادرات، وهو ما يصبّ في النهاية في مصلحة الشركات ورجال الأعمال، لا في تحسين معيشة الفئات الأضعف.
وبعد استبعاد هذه البنود، نجد أن القيمة الفعلية للدعم المباشر الموجّه للمواطنين لا تتجاوز 518 مليار جنيه فقط، أي أن الإنفاق الحقيقي على دعم المواطن لا يُشكّل سوى 7.6% من إجمالي الاستخدامات في الموازنة، والتي تبلغ 6.76 تريليون جنيه.
ورغم هذه النسبة المتدنية، تواصل الحكومة المصرية، بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، تنفيذ ما يُعرف بسياسات “الإصلاح الاقتصادي”، التي تستهدف بشكل صريح تقليص بنود الدعم الاجتماعي، بحجة السيطرة على عجز الموازنة العامة.
إلا أن هذه سياسات، في جوهرها، منحازة لفئة أصحاب رؤوس الأموال، على حساب الشرائح الأقل دخلًا من المواطنين، إذ يجري تقليص دعم المواطن، لصالح زيادة الإنفاق الموجّه إلى دعم مجتمع رجال الأعمال، فضلًا عن تمويل فوائد وأقساط الديون، وهي التزامات تستفيد منها بالأساس نخبة من المستثمرين المحليين والأجانب في الديون.
التهرب من الإنفاق على التعليم والصحة
في مشروع موازنة العام المالي الجديد 2025/2026، كما في الموازنات السابقة، تواصل الحكومة المصرية التحايل على الالتزام بالنسب الدستورية المقررة لقطاعي التعليم والصحة، من خلال تحميل القطاعين جزءًا من أعباء الديون، لتُظهر الحكومة التزامها الصوري بالشروط الدستورية، بينما تُفرغ هذه الالتزامات من مضمونها الفعلي، ومن الإنفاق المفترض.
ينص الدستور المصري في مادتين واضحتين على أن الحد الأدنى للإنفاق على التعليم (قبل الجامعي والعالي) يجب ألا يقل عن 6% من الناتج المحلي الإجمالي، إلا أن المخصص الفعلي لقطاع التعليم في مشروع الموازنة الجديدة بلغ 315.1 مليار جنيه فقط، أي ما يعادل 1.55% من الناتج المحلي المتوقع البالغ 20.4 تريليون جنيه. وللوصول صوريًا إلى النسبة الدستورية، أضافت الحكومة مبلغ 524.9 مليار جنيه باعتباره نصيب التعليم من فوائد الدين العام.
ينطبق الأمر نفسه على قطاع الصحة، حيث ينص الدستور على إنفاق لا يقل عن 3% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما خصصت الحكومة له 246.2 مليار جنيه فقط، أي ما يعادل 1.21% من الناتج المحلي، ثم أضافت إليه مبلغ 265.5 مليار جنيه أخرى من فوائد الدين، لتبدو المخصصات متوافقة مع النسبة الدستورية، لكنها في الحقيقة ليست موجهة إلى الإنفاق الصحي المباشر، وإنما لتسديد الديون.
هذا النهج لا يُعبّر فقط عن تحايل محاسبي على نصوص الدستور، بل يكشف أيضًا عن إعادة توجيه غير عادلة للموارد العامة، حيث يُستقطع التمويل المخصص للخدمات الأساسية التي تمس حياة المواطنين اليومية، ويُحوّل لسداد ديون لم يختر المواطن اقتراضها، ولم تُنفق بالضرورة في مشروعات تخدمه أو تلبي احتياجاته.
وغالبية هذه الديون، وُجهت إلى مشروعات ضخمة ذات طابع استثماري أو استعراضي، مثل مشروع العاصمة الإدارية الجديدة، والمدن الجديدة في الصحراء، والبنية التحتية ومشروعات النقل الكبرى، وهي مشاريع تخدم مصالح فئات معينة من المستثمرين، ولا تعود بالنفع المباشر على الأغلبية من المواطنين.
من أين تموّل الحكومة مصروفاتها؟
رغم التصريحات المتكررة من مسؤولي الحكومة بشأن “إنفاقهم” على المواطنين عبر بنود الدعم والخدمات، وكأن هذه الأموال تُصرف من جيوبهم الخاصة، تكشف بيانات مشروع موازنة العام المالي 2025/2026 أن المواطن هو من يتحمّل العبء الأكبر في تمويل نفقات الدولة، من خلال الضرائب.
بحسب البيانات الرسمية، تستهدف الحكومة زيادة الإيرادات الضريبية بنسبة 31% مقارنة بالعام المالي الحالي، لتصل إلى 2.65 تريليون جنيه، بحيث تُشكّل الضرائب نحو 85% من إجمالي إيرادات الموازنة العامة للدولة.
ويُظهر تفصيل الإيرادات أن الجزء الأكبر من هذه الضرائب يُحصّل من المواطن العادي، وليس من الشركات الكبرى أو كبار المستثمرين، إذ تتوقع الحكومة تحصيل نحو 2 تريليون جنيه من ضرائب غير مباشرة، مثل ضريبة القيمة المضافة المفروضة على السلع والخدمات، بالإضافة إلى الضرائب المقتطعة من رواتب الموظفين وأصحاب المهن الحرة مثل الأطباء والمحامين.
ويُشكّل هذا النوع من الضرائب ما نسبته 49.8% من إجمالي الإيرادات الضريبية، مع استهداف زيادة بنسبة 33% دفعة واحدة في موازنة العام الجديد، ما يعني أعباء مالية إضافية تُفرض على الطبقات المتوسطة والفقيرة، عبر جباية مباشرة من دخولها المتدنية أصلًا.
في المقابل، تظل الضرائب المفروضة على الفئات الأعلى دخلًا متدنية، سواء قياسًا بالمعدلات العالمية أو حتى بمثيلاتها في الدول النامية، إذ تستهدف الحكومة تحصيل نحو 167 مليار جنيه فقط من ضرائب النشاط التجاري والصناعي، والأرباح الرأسمالية، والثروة العقارية مجتمعة.
وعلى عكس ضرائب الأفراد، تُظهر الموازنة تراجعًا في الإيرادات المستهدفة من أرباح الشركات والهيئات الاقتصادية الحكومية، والتجارة الدولية، وضرائب رؤوس الأموال المنقولة، والتي تُقدّر جميعها بـ 508 مليار جنيه فقط، أي ما يعادل 19.2% من إجمالي الإيرادات في موازنة العام المقبل، مقارنة بنسبة 24% في الموازنة الحالية.
في المحصلة، فإن استمرار هذه السياسات، تحت شعار “الإصلاح الاقتصادي”، لا يعكس إصلاحًا حقيقيًا بقدر ما يُكرّس نموذجًا اقتصاديًا منحازًا ضد المواطن العادي، ويُعيد إنتاج أزمات اجتماعية واقتصادية عميقة، سيكون لها أثمان باهظة على المدى الطويل.