مر العالم الإسلامي خلال القرنين السادس والسابع الهجريين، بأحداث مزلزلة، أبرزها تراجع الوجود الإسلامي في الأندلس، وسقوط المدن تباعًا تحت سيطرة الممالك المسيحية.
وفي المشرق، كانت الحروب الصليبية تمثل تهديدًا مستمرًا، بينما فرضت القوى البحرية الأوروبية هيمنتها شبه الكاملة على البحر الأبيض المتوسط، وباتت طرق الحج مهددة بتوسع الحملات العسكرية المسيحية والمغولية، ما انعكس مباشرة على أمن الحجيج وسلامة المسارات المؤدية إلى الحرمين الشريفين.
ورغم ما ساد من فوضى وتفكك سياسي، لم تنقطع قوافل الحجيج، بل برزت مبادرات إصلاحية قادها حكام مثل صلاح الدين الأيوبي، الذي أسهمت جهوده في استعادة قدر من الطمأنينة والكرامة لفريضة الحج في زمن مضطرب.
وتُعدّ رحلة ابن جبير للحج من أبرز الشهادات التاريخية التي وثقت تفاصيل هذه المرحلة، لما تضمنته من رصد دقيق للصعوبات والمخاطر التي واجهت الحجاج وسط أجواء الحروب الصليبية.
في ملف “ألف درب إلى مكة”، نتتبع السر خلف تلك الجاذبية التي جعلت قوافل لا تُعد ولا تُحصى تشق طريقها عبر القارات والبحار والصحارى، نحو قبلة تهفو لها الأرواح قبل الأقدام. نستكشف خطى الحجاج كما خلّدوها في رواياتهم، من شتى العصور والثقافات والانتماءات، وكلٌ منهم يحمل في قلبه قصة خاصة، تلتقي كلها عند لحظة الوصول إلى البيت الحرام.
من غرناطة إلى مكة: رحلةٌ التكفير عن الذنب
في إحدى ليالي غرناطة، استدعى حاكم المدينة، أبو سعيد عثمان، نجل الخليفة الموحدي عبد المؤمن، كاتبه المقرب ابن جبير. وتحت نشوة السلطة وغشاوة السكر، أصرّ على إكراهه على شرب سبعة كؤوس من الخمر، فوجد ابن جبير نفسه حينها في موقفٍ يتنافى تمامًا مع قناعاته، فتمسّك بمبادئه مؤكدًا أن شفتَيه لم تلمسا الخمر قط.
لكن ضغوط الموحدي لم تترك له سبيلًا للاعتذار أو التراجع، فصرخ في وجهه: “سبعة كؤوس، والله لتشربنها!” فامتثل ابن جبير مرغمًا وخائفًا، يتجرّع كل كأسٍ على مضض، وبمرارةٍ تزداد مع كل رشفة.
لم يطل الأمر حتى تسلل الندم إلى قلب الموحدي، حين لمح في عيني كاتبه أثر الانكسار، فسعى إلى تلطيف فعلته بملء كأس الخمر سبع مرات بالدنانير الذهبية، وقدمها له لعلّها تواسيه، لكنها لم تكن عزاءً لروحٍ جُرحت، إذ غادر ابن جبير مجلس الخليفة مثقلًا بالخزي، ثم استقال من خدمته، عاقدًا العزم على التكفير عن تلك الليلة المظلمة بالحج إلى بيت الله الحرام.
وفي شهر ربيع الأول من سنة 579 هـ، انطلق ابن جبير في رحلته لأداء فريضة الحج، وهو في الثامنة والثلاثين من عمره، موثقًا يومياته بدقة وحرص بالغ، حيث غادر غرناطة، عابرًا مضيق جبل طارق نحو مدينة سبتة، ومنها أبحر إلى الإسكندرية في رحلة بحرية استغرقت ثلاثين يومًا، عصف بها موج هائج، لاسيما في الممرات الضيقة بين سردينيا وصقلية.
لم يكن قلق ابن جبير نابعًا من اضطراب البحر وحده، بل من وعيه العميق بصعوبة أداء فريضة الحج وسط هذه الظروف المأزومة في المشرق، خاصة مع تصاعد المواجهات بين صلاح الدين الأيوبي والصليبيين.
في عرض البحر، تلقى ابن جبير أنباءً مأساوية عن هجوم شنّته القوات المسيحية على سفن تقل حجاجًا مسلمين، ما أسفر عن مقتل عدد منهم، واختطاف ثمانين مسلمًا من الرجال والنساء والأطفال، ليُباعوا عبيدًا، ما ضاعف شعوره بالقلق، خاصةً وأنه كان على متن سفينة مسيحية.
وصل ابن جبير إلى الإسكندرية، وعند دخوله المدينة، صادف جنودًا أوروبيين أسرى يُساقون إلى السجن، كانوا من قوات “رينالد دي شاتيون”، أحد أبرز قادة الحملات الصليبية، المعروف بشراسته وعدائه للحجاج المسلمين، إذ دأبت قواته على مهاجمة قوافل الحجيج وقتلهم بدم بارد، ولم يُخفِ هؤلاء الجنود عزمهم على اقتحام مدينة النبي ونبش قبره.
ثم انتقل ابن جبير إلى القاهرة، التي أصبحت آنذاك عاصمةً سنية تحت حكم صلاح الدين الأيوبي، ورغم أن طريق سيناء إلى مكة كان الأقصر، تجنبه عمدًا، لأن القدس كانت لا تزال تحت الاحتلال الصليبي، مما جعل المرور عبر تلك المناطق محفوفًا بالمخاطر.
لذلك، اتجه جنوبًا من القاهرة في قافلة استغرقت تسعة أيام، عبر فيها الرمال الحارقة إلى ميناء عيذاب على البحر الأحمر، قرب الحدود المصرية السودانية الحالية، ثم أبحر منه إلى جدة. ويُظهر اختيار ابن جبير لهذا الطريق أنه كان على دراية مسبقة به، ويُرجح أنه التقى بحجاج سبق لهم أداء هذه الرحلة، فاستفاد من تجاربهم وتوجيهاتهم حول المسارات الآمنة والطرق الأنسب للوصول إلى الحرمين.
وَاصَلَ ابن جبير رحلته نحو مكة عبر جدة، حيث انضم إلى قافلة من الحجيج وسار معهم ليلًا تحت أضواء النجوم، حتى بلغوا مع شروق الشمس منطقة القرين، التي كانت تُعد محطة رئيسية لتجمّع الحجاج واستراحتهم قبل دخول الحرم، وبعد أن قضوا النهار في الراحة والاستعداد، استأنفوا المسير مع حلول المساء، ينهبون الطريق بخطى متلهفة، إلى أن دخل ابن جبير مكة مع طلوع الفجر، وقد غمره الشعور بالرهبة والسكينة، وكأنما وصل القلب إلى مبتغاه بعد طول اغتراب.
في دروب الحج
ما إن وطئت قدما ابن جبير أرض مكة حتى تبدّد عنه عناء الطريق وتبخّرت هموم الرحلة، إذ اجتاحته رهبة المهابة وسكينة الوصول، حين وقعت عيناه للمرة الأولى على الكعبة المشرّفة، تتلألأ تحت ضوء البدر، محاطة بجموع المؤمنين الذين شبّههم برسُل الله من شدة ما بدا عليهم من خشوع ونقاء.
هرع ابن جبير إلى الطواف شكرًا لله على بلوغ المقصد بسلام، ثم صلّى عند مقام إبراهيم، وتوجه إلى قبة زمزم ليشرب من مائها، الذي وصفه بأنه “الأطيب مذاقًا”، وقال إن من يغتسل به يزُل عنه التعب وتعود له الحيوية.
سعى بعد ذلك بين الصفا والمروة، ونزل بدار تُعرف بـ”الطهارة” قرب باب السدة داخل المسجد الحرام، وهي حجرة تضم مرافق وتطل على الحرم والكعبة، وهناك حلق شعره بعد إتمام مناسكه.
في مكة، كتب ابن جبير وصفًا بديعًا للمدينة، سماها “عروس ليالي العمر وبكر بنيات الدهر”، ودوّن بدقة تفاصيل المسجد الحرام والكعبة وما يحيط بهما من معالم، ومن أبرز ما زاره المنزل الذي وُلد فيه النبي محمد صلى الله عليه وسلم شرق الكعبة، ومنزل علي بن أبي طالب، وقبة الوحي في دار السيدة خديجة، إلى جانب دار الخيزران ودار أبي بكر الصديق، ليخلّد تلك الأماكن المقدسة في ذاكرته وسفره.
زار ابن جبير عددًا من المعالم الدينية الواقعة بين الصفا والمروة، منها قبة تُنسب إلى عمر بن الخطاب، وقبة جبريل، ومصطبة قريبة من دار السيدة خديجة اعتاد الحجاج قصدها للصلاة، وقد أبدى إعجابًا بالغًا بجمال هذه الأماكن، وسجّل أثرها الروحي العميق في نفوس الحجاج، بأسلوب حافل بالانبهار والتقدير.
أقام في مكة قرابة ثمانية أشهر، متنقلًا بين نُزُل ومساكن مختلفة، ولاحظ خلالها تبدلات الطقس، إذ انخفضت درجات الحرارة ليضطر هو والحجاج إلى المبيت فوق الأسطح، متدثرين بالبطانيات اتقاءً لبرودة الليل.
بحسٍ ميداني دقيق، وثق مناسك الحج بتفاصيلها، متوقفًا بشكل خاص عند مشهد الوقوف بعرفة، الذي وصفه بأنه “أشبه بمشهد الحشر يوم القيامة” لكثرة الزحام والمهابة، كما أشار إلى الأعداد الغفيرة التي تدفقت إلى مكة، واعتبر اجتماع هذا الكم الهائل من الحجاج في بقعة صغيرة معجزة بحد ذاتها.
ولم يغفل عن توثيق حضور شخصيات مرموقة في ذلك الموسم، وفي مقدمتهم حاكم العراق الذي دخل مكة في موكب مهيب، يرافقه حكام من بلاد فارس، وجموع نسائية بارزة.
وتميّزت رواية ابن جبير بملاحظات اجتماعية دقيقة، حيث رصد سلوك النساء ومشاعرهن خلال الحج، فحتى ما لم يرق له منها، عذره بـ”أنفاس الشوق وطيشه”، وأبرز ما تقوم به بعض “النسوة الخواتين” من أعمال خيرية يحرصن على تقديمها كل عام.
كما تناول الحياة الاقتصادية في مكة خلال الموسم، مشيرًا إلى وفرة الأسواق المخصصة للحجاج، مثل سوق منى وسوق المسجد الحرام، اللذين ضما تنوعًا واسعًا من البضائع، ولاحظ أن الأسعار كانت منخفضة نسبيًا، ما يسّر للحجاج التزود بالمؤن والاحتياجات.
ظنَّ ابن جبير، وهو ابن الأندلس، أن لا أرض تضاهي بلاده في وفرة الخضروات والفاكهة وجودتها، غير أن زيارته لمكة بدّلت ذلك الاعتقاد، فقد أذهله ما رآه في أسواقها من تنوع غذائي مذهل، رغم أنها أرض قاحلة.
وسجّل بانبهار كيف كانت الأسواق تغص بأصناف شتى من الحليب والعسل والزبدة والزبيب واللوز والتوابل والقمح، فضلًا عن العطور والأدوية المستوردة من الهند، ومنتجات قادمة من العراق والشام وخراسان وشمال إفريقيا، وعزا هذا الثراء الغذائي إلى الجهود المتواصلة للمسلمين اليمنيين الذين كانوا يمدّون مكة بإمدادات منتظمة طوال العام.
ورغم انحيازه الطبيعي للأندلس، لم يُخفِ سعادته الكبيرة حين تذوّق الفواكه والخضار في مكة، معتبرًا أن مذاقها يفوق ما عرفه في موطنه أو في أسفاره الأخرى، كما امتدح اللحوم المكية التي وصفها بأنها من ألذ ما ذاقه في حياته.
من أبرز المشاهد التي توقف عندها ابن جبير بتفصيل مؤثر، مشهد احتفال كسوة الكعبة يوم النحر، إذ وصف كيف نُقلت الكسوة من العراق إلى مكة محمولة على ظهور أربعة جمال، يتقدّمها القاضي في موكب مهيب، يرفرف فوقه الرايات، ويتعالى فيه قرع الطبول ونداءات الأدعية.
ولمّا نُصبت الكسوة الجديدة على الكعبة، بهر لونها الأخضر اللامع أنظار الحجاج، وزُين أعلاها بشريط أحمر عريض نُقش عليه: “بسم الله الرحمن الرحيم، إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة”، كما دوّنت على جانبي الكسوة أدعية واسم الخليفة العباسي.
تُظهر ملاحظات ابن جبير التغيرات التي طرأت على لون الكسوة وشكلها، فبينما كانت بيضاء في زمن ناصر خسرو، أصبحت في زمنه من الحرير الأخضر، كذلك أشار إلى الطابع الاحتفالي الذي بات يغلف بعض الشعائر في الحرم المكي، حيث امتزجت مظاهر العبادة كالذكر والتلاوة والدعاء، بأجواء بهيجة تملؤها الحُصر المفروشة، والشموع المضيئة، وقرع الطبول، لكن ابن جبير لم يخفِ استياءه مما اعتبره محدثات أو “بدعًا”، مثل ضرب الطبول يوم الصعود إلى عرفات، والفرقعة خلال الصلوات.
وفي مشهدٍ مفعم بالعاطفة، نقل ابن جبير لحظة خُتمت فيها إحدى خطب الحرم بالدعاء لصلاح الدين الأيوبي، فتعالت أصوات الحجاج بالتأمين، تعبيرًا عن محبتهم وامتنانهم له، وعلّق قائلًا: “وحقّ ذلك عليهم، لما يبذله من جميل الاعتناء بهم، وحسن النظر لهم، ولما رفعه من وظائف المكوس عنهم”.
خلال إقامته الطويلة في مكة، انخرط ابن جبير بعمق في الحياة العلمية والدينية التي تزدهر خلال موسم الحج، حيث شارك في حلقات الذكر والدروس، وخاض نقاشات مع علماء وحجاج من مختلف بقاع العالم الإسلامي، وقد أدهشه التنوع الواسع في الأعراق واللغات والخلفيات الثقافية.
وفي إحدى ليالي شهر ذي الحجة من عام 579هـ، حضر ابن جبير صلاة العشاء في المسجد الحرام، حيث نُصب منبر أمام مقام إبراهيم، وارتقاه واعظ خراساني، ألقى موعظة مؤثرة بالعربية والفارسية أثرت في الحاضرين. وفي الليلة التالية، أقيم منبر آخر قبالة ركن الحنفية، فصعده شيخ آخر من خراسان خاطب الناس بلغتين.
كما سجل ابن جبير ملاحظات دقيقة حول تعدد المذاهب في الحرم، حيث ذكر أن لكل من المذاهب الأربعة (الحنفي، المالكي، الشافعي، الحنبلي) إمامًا خاصًا، إلى جانب إمام خامس يتبع المذهب الزيدي، وكل إمام يؤم جماعته في زاوية من زوايا الحرم، بأذان وإقامة خاصين، وفي توقيت مختلف، ما عدا صلاتي المغرب والعشاء حيث يصلي الجميع في الوقت ذاته.
تحديات الحج في عهد ابن جبير
رغم بهجة الوصول التي عبّر عنها ابن جبير عند دخوله مكة، تكشف رحلته عن عمق التحديات التي واجهها الحجاج آنذاك، فالتنقل المستمر، والتكيّف مع ظروف طبيعية وبشرية متقلبة، شكل عبئًا نفسيًا وجسديًا مضاعفًا على الحاج، تجاوز مشقة الطريق المادي إلى مشقة الاغتراب.
ورغم أنه لم يلتقِ بصلاح الدين الأيوبي شخصيًا، فإن ابن جبير قدّم شهادة بالغة الأهمية على أثر الإصلاحات التي أجراها هذا السلطان في البنية التحتية لخدمة الحجيج، من تحسين لشبكات المياه، وبناء للمرافق الأساسية، إلى تأمين الطرق البحرية من هجمات الصليبيين، وإلغاء الضرائب الجائرة التي كانت تُفرض على القوافل.
غير أن ابن جبير لم يتردد في فضح مظاهر التفاوت الطبقي والترف الذي كان يرافق بعض فئات الحجيج، وهو ما يمكن وصفه بـ”الحج الفاخر”، ذاك الذي احتكره الأمراء والأثرياء، فقد أشار ابن جبير إلى أن الحجاج الموسرين كانوا يدفعون مبالغ طائلة لتأمين راحة مفرطة، تُنصب لهم خيام ضخمة تظللها مظلات كأنها قصور متنقلة، وتفرش لهم الفُرُش الوثيرة، ويُنأَون تمامًا عن عناء الحر والسفر.
وقد أثار هذا المشهد امتعاض ابن جبير، الذي رصده بدقة وعين ناقدة. ورغم أنه أظهر رضا الظاهر عن حاله، إلا أن كلماته تكشف بوضوح عن شعور دفين بالمفارقة، وربما الغصة، وهو يكتب عن فوارق الرفاهية التي تمنح بعض الحجاج “كسوة ملوكية” للحج، فيما يحتمل آخرون وعثاء الطريق ويبيتون على الرمال الحارقة.
لقد كتب بمرارة شفافة لا تخلو من شوقٍ إلى الراحة: “كانت محلة الأمير العراقي جميلة المنظر، بهية العدة، رائقة المضارب والأبنية، عجيبة القباب والأروقة، على هيئات لم ير أبدع منها منظرًا، وذلك أنه أحدق به سرادق كالسور من كتان كأنه حديقة بستان.. وقد جللت صفحات ذلك السرادق من جوانبه الأربعة”.
أيضًا خلال رحلته إلى مكة، كان الطقس والعوامل الجوية يشكلان تهديدات كبيرة، فقد واجه ابن جبير كارثة حقيقية جراء العواصف البحرية، ومات العديد من الحجاج عطشًا أثناء محاولتهم الوصول إلى مكة، بجانب تكدس الركاب في كل سفينة دون الاكتراث لأي خطر محتمل من هذا التزاحم.
لذا حرص ابن جبير على تحذير الحجاج من جشع ربابنة السفن، الذين كانوا يحملون سفنهم بالحجاج حتى يجلسوا الواحد فوق الآخر، فيصبحون كالدجاج المحشور في قن، وبطريقة ما، تحمّل ابن جبير هذه الإهانات.
أيضًا كانت تكلفة الحج في مرتفعة إلى حد بعيد، بسبب استغلال عمال الدواوين وشبكة الضرائب المفروضة على الطرق، فعلى امتداد رحلاتهم، اضطر الحجاج إلى التوقف عند نقاط تفتيش متعددة، سواء في الطرق البحرية أو البرية، حيث فُرضت عليهم مكوس.
وقد وجه ابن جبير نقدًا لاذعًا لجشع المسؤولين عن هذه الحواجز، مؤكدًا أن الحجاج اضطروا لدُفع مبالغ طائلة، بل إن القائمين على هذه المحطات ابتكروا أساليب جديدة لنهب مؤن الحجاج بطرق ممنهجة.
ولم يتورع موظفو الجمارك في جدة عن نهب ممتلكات الحجاج تحت غطاء الإجراءات الرسمية، مطالبين الحجيج برسوم فادحة أفسدت كل محاولات التخطيط المالي التي قد يكون الحجاج أعدوها مسبقًا لرحلتهم.
وإضافة إلى ما تكبده الحجاج من ضرائب وانتهاكات، نبه ابن جبير إلى الخطر المستمر الذي مثلته بعض القبائل العربية على القوافل، وخص بالذكر قبيلة بني شعبة التي لم تردعها قدسية الزمان ولا المكان عن مهاجمة الحجاج بين مزدلفة وعرفات، وقد تسببت هذه الاعتداءات في هروب العديد من الحجاج، إلى أن تدخل أحد أمراء العراق ودفع مبلغ كبير لبني شعبة لردعهم.
من اللافت أن ابن جبير كشف أيضًا عن فساد حاكم جدة ومكة، حيث تعرض هو ومجموعة من الحجاج لمعاملة قاسية أثناء إقامتهم في جدة، وبأمر من أمير مكة مختار بن عيسى تم احتجازهم، ولم يُفرج عنهم إلا بعد أن دفعوا ضريبة فرضها أمير مكة على الحجاج، ويبدو أن صلاح الدين الأيوبي أدرك فداحة هذا التصرف، فسارع بإرسال ألفي دينار وألفين واثنين إردب من القمح إلى أمير مكة، بهدف التوقف عن فرض أي رسوم على الحجاج.
ومع ذلك عندما تتأخر هذه المكافآت ولو قليلًا، يعود الأمير إلى ترهيب الحجاج وسجن من لا يستطيع دفع الضريبة، ولذا دون ابن جبير شكواه من هذه المعاملة الظالمة، وفي لحظة ما، صرخ محبطًا بإن فقهاء الأندلس كانوا على حق عندما أفتوا بأن الحج ليس واجبًا على أهل الأندلس في ظل الصعاب والمعاناة التي يواجهها الحجاج، ولذا يقول ابن جبير: “فمن يعتقد من فقهاء أهل الأندلس إسقاط هذه الفريضة عنهم، فاعتقاده صحيح.. فكيف وبيت الله الآن بأيدي أقوام قد اتخذوه معيشة حرام، وجعلوه سببًا إلى استلاب الأموال واستحقاقها من غير حل”.
من الواضح أن ابن جبير كانت لديه صورة رومنسية عن الحجاز والمشرق الإسلامي، وقد بلغ الغضب به إلى حد إعلانه أن “لا إسلام إلا في بلاد المغرب”، وفي هذا الصدد، جادل بأن الإسلام لا يُمارس بشكل صحيح إلا في أراضي الموحدين، وفي المقابل، وجه نقدًا لاذعًا للديار الحجازية واصفًا أهلها بأن أكثرهم “فرق وشيع لا دين لهم، قد تفرقوا على مذاهب شتى”.
وبلغت حدة كلماته حد القول أن البلاد الحجازية أحق “بلاد الله بأن يطهرها السيف، ويغسل أرجاسها وأدناسها بالدماء.. لما هم عليه من حل عرى الإسلام واستحلال أموال الحجاج ودمائهم.. فالحاج معهم لا يزال في غرامة ومؤنة إلى أن ييسر الله رجوعه إلى وطنه”.
وتكشف هذه العبارات القاسية عن شعور عميق بالخيبة والإحباط من ظلم إخوانه في الدين، ويبرز هذا الاضطراب الداخلي في استخدامه المتكرر لكلمة “فتنة” التي تعبر عن المرارة والحسرة التي عاشها وراقبها عن قرب.
لكن في ظل الجشع والاحتكار وسوء معاملة الحجاج، يبرز استثناء وحيد لاحظه ابن جبير إلى جانب جهود سلطان الأيوبيين، يتمثل في قبائل السرو باليمن، التي اعتادت كل عام أن تشد الرحال إلى مكة، حاملة غلال أرضها لتبادلها بالأقمشة التي يصنعها أهل مكة، وقد تميزت هذه القبائل بروح العطاء والإحسان، وسخروا تجارتهم لخدمة الحجاج والتخفيف من معاناتهم.
عودة إلى الوطن وتأثير الرحلة
غادر ابن جبير مكة في العشرين من ذي الحجة سنة 578 هـ، بعد أن أمضى فيها أكثر من ثمانية أشهر، محققًا هدفه الرئيسي من رحلته، ثم توجه إلى المدينة المنورة لزيارة قبر النبي محمد، وقدّم صورةً مُفصلةً وكاملةً لمقام النبي، كما زار مقبرة البقيع.
بعد ذلك اتجه شرقًا، وانضم إلى قافلة الحجاج العائدة إلى العراق وتركستان عازمًا على زيارة قلب العالم الإسلامي، عبر نهر الفرات إلى الكوفة، ومن ثم اتجه إلى العراق، مرورًا ببغداد وتكريت والموصل. ثم توجه غربًا إلى حران الواقعة اليوم في جنوب شرق تركيا، ليصل إلى حلب وحمص وأخيرًا دمشق التي سماها “جنة المشرق”.
ثم تابع رحلته باتجاه الساحل، مارًا بعكا التي كانت آنذاك تحت الحكم الصليبي، ورغم امتعاض الصليبيين من الحجاج المغاربة، سمحوا لهم بالعبور في الأراضي الخاضعة لسيطرتهم، مقابل دفع ضريبة أعلى من تلك المفروضة على المسلمين الآخرين.
مكث ابن جبير في عكا لفترة وجيزة، ومنها عبر أراضي تسيطر عليها القوات الصليبية حتى وصل إلى صقلية، لكن رحلته لم تخلُ من العواصف العنيفة، فقد تحطمت سفينته، وكاد ابن جبير المسكين يفقد حياته في تلك الحادثة، لكنه نجا بأعجوبة من الغرق، واضطر للبقاء عدة أيام في إحدى جزر النورمان، قبل أن يتمكن من الإبحار مجددًا نحو تراباني، ومنها واصل طريقه إلى قرطاجنة.
وأخيرًا، عاد إلى موطنه في غرناطة بعد غياب دام أكثر من عامين، وعند عودته من الحج، كان أقل اهتمامًا بتأمين منصب في بلاط السلطان، وإنما كان مهتمًا بكسب مكانة أكاديمية ونذر نفسه لتدريس العلوم الإسلامية، ومن اللافت للنظر أن ابن جبير رغم عشقه الشديد لوطنه، لم يتمكن من البقاء في الأندلس بعد عودته.
بعد أربع سنوات على حجه الأول، حج مرة ثانية بين عامي 1189 و1191 شاكرًا الله على تمكين صلاح الدين من استعادة القدس. ثم بسبب حزنه على فقدان زوجته، ترك وطنه مرة أخرى ولم يعد إلى مسقط رأسه، وأمضى أكثر من عشرة أعوام متنقلًا بين مكة والقدس والإسكندرية مشتغلًا بالتدريس، حتى وافته المنية عن عمر ناهز 72 عامًا.
كانت تجربة ابن جبير بما امتازت به من دقة الملاحظة وجرأة الرأي، منطلقًا ملهِمًا لأجيال من الحجاج الذين جاءوا بعده لتدوين رحلاتهم، يمكن القول إن كتب رحلات الحج بدأت برحلة ابن جبير، حتى أن ابن بطوطة، بعد أكثر من 170 عامًا، اقتبس فقرات كاملة من رحلة ابن جبير، ما يعكس التأثير العميق الذي تركه هذا الرحالة الفريد بمنهجه في أدب الحج.