مع مطلع القرن الثامن الهجري، تلاشى التهديد المغولي، وتمكّن المماليك من طرد آخر معاقل الصليبيين في المشرق، منهين صراعًا استمر نحو قرنين، مما عزز سلطتهم على مصر وبلاد الشام والجزيرة العربية، ورسخ مكانتهم بوصفهم حماةً للحرمين الشريفين وضامنين لأمن قوافل الحجيج.
وبينما كان العالم المسيحي لا يزال يرزح تحت وطأة ظلمات العصور الوسطى، بلغ العالم الإسلامي أوج ازدهاره، ممتدًا على نصف الكرة الأرضية، ومهيمنًا على طرق الملاحة والتجارة، الأمر الذي ساهم في تعزيز أمن طرق الحج واستقرارها بشكل غير مسبوق.
ومع توسع رقعة الإسلام في آسيا وأفريقيا، واعتناق خانات المغول الإسلام، احتضنت فريضة الحج شعوبًا أكثر تنوعًا من أي وقت مضى. وفي هذا المناخ، اغتنم الشاب المغربي ابن بطوطة الفرصة لأداء فريضة الحج في مطلع القرن الثامن الهجري، فكانت بداية رحلته الكبرى لاكتشاف عالم إسلامي مترابط وشاسع، وقد خلد تجربته في أسفاره، ليصبح من أبرز من وثّقوا تجربة الحج في تلك الحقبة.
من طنجة إلى القاهرة
بحلول القرن الرابع عشر، ازدهرت مدينة طنجة كمركز يربط بين أربعة عوالم جغرافية إفريقيا وأوروبا والمحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط، ورغم كونها مدينة مسلمة راسخة، فقد كانت بعيدة عن المراكز الإسلامية الكبرى كالقاهرة ودمشق ومكة.
بالنسبة لطلاب وعلماء المغرب، لم يكن الحج مجرد رحلة إلى مكة ثم العودة إلى الديار، بل كان أيضًا رحلةً تعليمية لزيارة المدارس العريقة، واقتناء الكتب وتوسيع المعرفة والتواصل مع كبار العلماء، ويتجلى هذا البُعد التعليمي للحج في العديد من تجارب أهل المغرب، ومن بينهم ابن بطوطة المولود عام 1304 لعائلة أمازيغية عريقة تعمل في سلك القضاء.
عندما نشأ ابن بطوطة، تلقى تعليمه وفق المنهج السني المالكي، وعاش بين أحضان والديه وأقاربه ومعلميه وأصدقائه استعدادًا لمستقبل مهني كقاضٍ، ومع ذلك، كان ابن بطوطة الذي تخرج حديثًا، يطمح إلى مواصلة دراسته خارج وطنه، وعند بلوغه الحادية والعشرين، غلبه الشوق لأداء فريضة الحج.
ودع ابن بطوطة عائلته وأصدقائه في لحظة مليئة بالحزن العميق، فقد كانت عائلته غير راضية عن سفره لأداء فريضة الحج، مع ذلك، قدموا له هدايا متنوعة، منها جواد جيد وملابس احرام اشترتها له والدته كي يرتديها أثناء الحج، ويذكر ابن بطوطة قائلًا: “كان خروجي من طنجة مسقط رأسي في يوم الخميس الثاني من رجب عام 725هـ/ 1324م معتمدًا حج بيت الله الحرام، وزيارة قبر الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام”.
وفي القرن الرابع عشر، كان أمام الحاج القادم من طنجة خيار السفر برًا أو بحرًا كما فعل ابن جبير، أو مزيجًا من الاثنين، فاختار ابن بطوطة السفر برًا، منطلقًا على ظهر جمله من طنجة، ليلتحق بطريق القوافل الذي يربط فاس بتلمسان.
وفي الطريق، واجه عواصف رملية، وتعرض لهجوم من ثلاثة قطاع طرق سرقوه وكادوا يقتلونه، لولا تدخل رابعهم الذي حين علم أن ابن بطوطة متجه إلى بيت الله الحرام، شعر بالخجل، وعلى نحو مفاجئ، عرض مرافقته إلى مصر مقابل أجر، لكن ابن بطوطة سرعان ما اكتشف أنه من الأفضل وحرصًا على سلامته، الانضمام إلى قوافل المسافرين، فانضم إلى قافلة تضم حجاجًا وتجارًا طلبًا للحماية، وواصل سيره حتى بلغ مدينة تلمسان.
وبعد أسبوعين من الترحال، وصل إلى مليانة، ثم أكمل إلى بجاية، لكن تدهورت صحته وأُصيب بالحمى، فنصحه الأطباء بالبقاء في بجاية حتى يتعافى، لكنه أصر قائلًا: “إذا ما قضى الله أجلي، فسيكون موتي على الطريق، ميممًا وجهي شطر مكة”.
ثم تابع رحلته من بجاية، عابرًا جبال القبائل الصغرى حتى وصل إلى قسنطينة، إحدى المدن الكبرى على طريق الحج في الجزائر، وهناك استقبله حاكم المدينة أبو الحسن بحفاوة بالغة، وهو لقاء ظل راسخًا في ذاكرة ابن بطوطة، إذ أهداه أبا الحسن رداءً فخمًا بديلًا عن عباءته البالية، كما أعطاه دينارين ذهبيين، فكانت هذه أول صدقة يتلقاها في رحلة حجه.
غادر ابن بطوطة قسنطينة متوجهًا إلى عنابة، وقد بات مظهره أكثر أناقة بعد كرم الضيافة الذي ناله، وبعد أن قضى في عنابة عدة أيام للراحة، واصل رحلته نحو تونس، لكن الحمى عاودته مجددًا خلال الطريق، واضطر إلى ربط نفسه على حماره خشية السقوط من شدة الإعياء.
وعندما وصل إلى تونس، لم يشعر بالفرح كما قد يتوقع أي حاج بلغ أحد أبرز مراكز العلم على طريق الحج، بل تملكه شعور بالغربة، واشتد عليه الحنين إلى الوطن، حتى غمرته الدموع، فلاحظ أحد الحجاج حالته، فاقترب منه يواسيه، وساعده في إيجاد مأوى داخل دار الكتب بالمدينة.
أمضى ابن بطوطة شهرين في تونس يتعافى من مرضه، ومستفيدًا من هذه الفترة في التعلم على يد كبار فقهاء المدينة. وعندما تم تنظيم قافلة جديدة للحج، انضم إليها، وبفضل توصيات علماء تونس، تم تعيينه قاضيًا لهذه القافلة، وهو أول منصب يتولاه في مسيرته.
كان الطريق الرئيس الذي تسلكه قوافل الحج ينحدر جنوبًا بمحاذاة الساحل التونسي، مارًا بعدد من المدن الساحلية مثل سوسة وصفاقس وقابس، وخلال توقف القافلة في مدينة صفاقس، رأى ابن بطوطة أن الفرصة مواتية للزواج، فعقد قرانه على ابنة أحد التجار التونسيين المرافقين للقافلة، وكانت هذه الزيجة الأولى في سلسلة من الزيجات بلغ عددها عشرين طوال أسفاره، إذ كان معروفًا بولعه بالنساء.
لكن هذا الزواج لم يدم طويلًا، إذ دب خلاف بين ابن بطوطة ووالد زوجته أدى إلى الطلاق بسرعة، ويبدو أنه لم يكن حزينًا، لأنه بعد يومين، تزوج ابنة حاج آخر، ويروي أنه أقام حفل زفاف كبير شاركت فيه القافلة كلها، واستمر الاحتفال ليوم كامل، وكأنه أراد أن يعوض به زواجه السابق أو يرد عليه بطريقته الخاصة.
ومع ذلك، ترك ابن بطوطة عروسه خلفه، وانفصل عن القافلة الرئيسية بسبب سوء الأحوال الجوية، وواصل طريقه برفقة مجموعة صغيرة من المغاربة، متخليًا مؤقتًا عن منصبه كقاضٍ. وأثناء اقترابهم من سرت، تعرضوا لهجوم من البدو، لكنهم نَجَوا بأعجوبة. ثم عند وصولهم إلى برقة، توقفوا هناك في انتظار لحاق القافلة بهم والتي كانت تحت حماية جنود أرسلهم حاكم طرابلس لضمان أمن الحجيج.
أخيرًا وصلت القافلة إلى الإسكندرية عند الطرف الغربي من دلتا النيل في ربيع عام 1326، بعد نحو ثمانية أشهر على ترحال ابن بطوطة، لكن موسم الحج كان لا يزال على بُعد ثمانية أشهر، مما أتاح لابن بطوطة متسعًا من الوقت لاستكشاف مصر.
حين دخل ابن بطوطة الإسكندرية، نزل ضيفًا عند الصوفي برهان الدين الأعرج الذي تنبه إلى شغفه بالترحال، وأخبره بأن له مستقبلًا واعدًا في الأسفار، وأوصاه بزيارة ثلاثة من رفاقه الصوفيين، أحدهم في الهند، والثاني في السند، والثالث في الصين.
وقد روى ابن بطوطة هذه الواقعة قائلًا: “عجبت من قوله وألقي في روعي التوجه إلى تلك البلاد، ولم أزل أتجول حتى لقيت الثلاثة الذين ذكرهم و أبلغتهم سلامه”.
وصل ابن بطوطة إلى القاهرة التي كانت تعيش أوج ازدهارها، فأقام فيها لأكثر من شهر، إذ كان لا يزال أمامه أكثر من خمسة أشهر قبل حلول موسم الحج. في العادة، لم تكن القافلة المصرية الرسمية المتجهة إلى الحجاز والتي كانت تمر عبر سيناء تحت حماية المماليك تغادر القاهرة إلا في منتصف شهر شوال، غير أن ابن بطوطة، بطبيعته المتحمسة لم يكن ميالًا للانتظار أو التقيد بجداول القوافل الرسمية.
ولذا قرر أن يتوجه إلى مكة بمفرده، فاختار طريق ميناء عيذاب على البحر الأحمر، غير أن التوتر السياسي القائم بين سلطنة المماليك وحاكم عيذاب آنذاك، الذي وصل إلى حد إغراقه سفنًا تابعة للمماليك، حال دون مواصلة الرحلة عبر هذا المسار، ما اضطر ابن بطوطة للعودة مجددًا إلى القاهرة.
من القاهرة إلى دمشق
لم يُطِل ابن بطوطة الإقامة في القاهرة، إذ أدرك أن مغادرته المبكرة ستمنحه فرصة اللحاق بقافلة الحج التي تنطلق من دمشق عادة في العاشر من شوال، أي قبل نحو أسبوعين من موعد انطلاق قافلة القاهرة.
ولذا استأنف رحلته عبر صحراء سيناء باتجاه سوريا، ومر بغزة، لكنه انحرف عن الطريق المعتاد المؤدي إلى موانئ بلاد الشام، واختار التوجه شرقًا نحو مدينة الخليل، ومنها إلى القدس، حيث أقام في الأخيرة أسبوعًا تفرغ خلاله للتواصل مع علمائها.
بعد ذلك، واصل رحلته إلى عسقلان، ومنها إلى الرملة، ثم نابلس فعجلون، قبل أن يبلغ اللاذقية. تابع رحلته على امتداد الساحل إلى عكا فصور، ومنها إلى صيدا، ثم طبريا فبيروت. بعد ذلك، توجه إلى حمص ومنها إلى حماة، مرورًا بالمعرة وسمرين، حتى بلغ حلب، ووفقًا لتقدير ابن بطوطة، فقد وصل إلى دمشق في 9 رمضان 726هـ.
أمضى ابن بطوطة 24 يومًا في دمشق بانتظار انطلاق قافلة الحج، وخلال هذه الفترة بدأ دراساته، وذكر أنه نال عددًا من الإجازات العلمية، والتقى بكوكبة من العلماء والقضاة وكبار المسؤولين. وفيما يتعلق بصحته، أشار إلى أنه كان يتعافى من الحمى خلال إقامته في دمشق، وكان ضيفًا في منزل أحد علماء المذهب المالكي، الذي وضعه تحت رعاية طبيب.
من دمشق إلى المدينة
في نهاية إقامته في دمشق، كان ابن بطوطة يعاني من ضائقة مالية شديدة، وكان عاجزًا عن اللحاق بقافلة الحجاج الشامية لولا كرم فقيه مالكي تكفل باستئجار جمل له وأعطاه مالًا يكفيه لإتمام رحلته إلى مكة، وقد أقر ابن بطوطة بصراحة أنه كان يتلقى العون والصدقات عن طيب نفس ودون حرج.
ثم مع بزوغ هلال شهر شوال، انطلق ابن بطوطة مع قافلة حجاج دمشق، كانت هذه القافلة الأسطورية التي يحميها جيش من المماليك، تستغرق عادةً ما بين 45 إلى 60 يومًا للوصول إلى مكة.
في البداية خيموا في قرية تُدعى كسوة على بُعد بضعة أميال جنوب دمشق، ورافق القافلة بدو من قبيلة العجارمة، إضافة إلى أميرها سيف الدين جوبان، أحد كبار أمراء المماليك، والقاضي شرف الدين الأذرعي الحوراني.
بعد مغادرتهم كسوة، توجهوا إلى قرية الصنمين، ثم ارتحلوا منها إلى بلدة زرعة المعروفة اليوم بدرعا، ومنها إلى منطقة حوران، وبعد استراحة قصيرة، استأنفت القافلة سيرها نحو بصرى الشام، حيث اعتادت أن تقيم فيها لأربعة أيام، في انتظار من تأخر عن اللحاق بالقافلة.
ثم تابعت الطريق إلى بركة زيزة، فتوقفت ليوم واحد، ثم سارت إلى اللجون، فالكرك، وقد مكث ابن بطوطة خارج الكرك أربعة أيام في موضع يُعرف بالثنية، قبل أن يتابع رحلته إلى معان، وهي آخر مدن الشام. ومن هناك، انحدروا عبر عقبة الصوان إلى البادية، وبعد يومين من السير، بلغوا تبوك.
في تبوك، توقفت القافلة لبضعة أيام ليستريح الحجاج وتُسقى الجمال قبل مواصلة الطريق عبر منطقة وعرة تفصلهم عن المدينة المنورة، وصف ابن بطوطة شمال الحجاز بأنه برية مخيفه، إذ كانت هذه المرحلة من الرحلة تحديًا قاسيًا حتى لأقوى الحجاج، حيث كانت الأخطار متعددة، من العطش والأوبئة إلى هجمات البدو، وكان من المعتاد أن يفقد بعض الحجاج حياتهم خلال هذا الجزء من الطريق.
بعد خمسة أيام من مغادرتهم تبوك، وصل ابن بطوطة مع ركب الحجاج إلى بئر ثمود، التي كانت مليئة بالماء، ورغم شدة عطشهم، لم يجرؤ أحد على الشرب منها اقتداء بفعل الرسول حين مر بها في غزوة تبوك، وهناك، رأى ابن بطوطة ديار ثمود القديمة، المنحوتة في جبال من الصخر الأحمر.
تابع ابن بطوطة رحلته باتجاه العُلا، ومكث فيها مع باقي الحجاج أربعة أيام، استغلوها في التزود بالمؤن وتنظيف ملابسهم، كانت الأجواء شديدة الحرارة، والرياح الحارقة تشكل خطرًا دائمًا على القافلة، وبعد مغادرتهم العُلا، وصل ابن بطوطة المدينة المنورة.
من المدينة إلى مكة: بداية الحج
أخيرًا، بلغ ابن بطوطة المدينة المنورة، حيث انطلق لأداء الصلاة شاكرا الله، ومعبرًا عن سعادته الغامرة بزيارة قبر النبي محمد، وتتجلى في روايته مشاعر إيمانية عميقة تعكس ارتباطه وتأثره بهذا المكان.
أقام ابن بطوطة في المدينة المنورة أربعة أيام، زار خلالها المواقع المُبجَلة في المدينة، ومنها مقبرة البقيع التي تحتضن قبور عدد كبير من أقرباء وصحابة النبي، ومن المرجح أنه لم يغفل عن زيارة قبر الإمام مالك مؤسس المذهب الذي يتبعه ابن بطوطة.
كما أمضى لياليه في رحاب المسجد النبوي، منكبًا على تلاوة القرآن والمشاركة في حلقات الذكر والإنشاد الديني، ولم يفُته التواصل مع علماء المدينة، وأُعجب بكرم أهلها الذين كانوا يتصدقون بمبالغ طائلة على الحجاج.
حين آن أوان مغادرة المدينة إلى مكة، توقف ابن بطوطة عند مسجد ذي الحليفة، حيث اغتسل وارتدى ملابس الإحرام، وفي تلك اللحظة غمرته مشاعر الحماسة، فانطلق مع القافلة مرددًا التلبية عبر التلال والوديان، وباتوا ليلتهم في منطقة تُعرف بشِعب علي، ثم واصلوا السير عبر الروحاء والصفراء وبدر، حتى بلغوا مكة في صباح يوم من أيام أكتوبر عام 1326، الموافق للعشرين من ذي القعدة.
توجه ابن بطوطة أولًا إلى الكعبة التي شبَّهها بعروس وقدم وصفًا دقيقًا لتفاصيلها من الداخل والخارج، مبرزًا روعتها وجمالها، طاف طواف القدوم، وقبَّل الحجر الأسود، ثم صلى ركعتين عند مقام إبراهيم، وشرب من ماء زمزم، ويصف مشاعره في تلك اللحظة بالقول: “شاهدنا الكعبة الشريفة زادها الله تعظيمًا، وهي كالعروس تجلى على منصة الجلال، وترفل في برود الجمال، محفوفة بوفود الرحمن، موصلة إلى جنة الرضوان”.
وصف ابن بطوطة مكة بأنها مدينة واسعة تقع في وادٍ تحيط به جبال، وذكر أن لمكة ثلاثة أبواب رئيسية، باب المعلى من الجهة العليا، وباب الشبيكة من الغرب، وباب المسفل من الجنوب، وأكد أن الحرم المكي هو مركز الحياة في المدينة، ويضم تسع عشرة بوابة وتعلوه خمس مآذن شاهقة.
ويخبرنا ابن بطوطة أن إمارة مكة عند دخوله إليها كانت تحت حكم الأخوين أسد الدين رميثة وسيف الدين عطيفة، وهما من أبناء الأمير أبي نمي بن قتادة الحسني، وقد تميز حكمهما بالتناوب والمشاركة في إدارة شؤون الحرم.
وبالتفصيل يروي ابن بطوطة مناسك الحج منذ اليوم الأول، مشيرًا إلى أن الاستعدادات تبدأ بحيوية كبيرة، ولاحظ عادة لفتت انتباهه، ففي اليوم الأول من شهر ذي الحجة، كانت الطبول تُقرع عند كل صلاة، إيذانًا بانطلاق موسم الحج، واستمرت هذه الممارسة حتى اليوم التاسع من الشهر نفسه.
ويذكر ابن بطوطة أنه في اليوم الثامن من ذي الحجة، يتجه الحجاج والأمراء إلى منى للمبيت، وتُضاء الشموع احتفالًا. وفي يوم النحر، شهد ابن بطوطة وضع كسوة الكعبة المرسلة من القاهرة، وقد تميز لونها عن تلك التي رآها ناصر خسرو وابن جبير، حيث وصفها ابن بطوطة بأنها “سوداء حالكة من الحرير مبطنة بالكتان”، ومكتوب في أعلاها “جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس”.
امتدح ابن بطوطة كرم أهل مكة ونبلهم، وقدم وصفًا حيًا لأعمالهم الخيرية وحسن استقبالهم للحجاج، كما أثار إعجابه أناقة المكيين وحرصهم على النظافة الشخصية، إذ لاحظ تفضيلهم للملابس البيضاء، واستخدامهم المكثف للعطور وتكحيل العيون، ومواظبتهم على تنظيف أسنانهم بأعواد العِرق الأخضر.
ومن المثير للاهتمام أن ابن بطوطة يصف نساء مكة بأنهن جميلات، مشيرًا بشكل خاص إلى حرصهن على استخدام العطور بشكل مكثف، حتى أنهن كن يضحين بثمن الطعام من أجل شراء العطور، وذكر أنهن اعتدن زيارة المسجد الحرام مساء كل خميس، متعطرات ومتزينات بأبهى ملابسهن، حتى كان عبيرهن يملأ أرجاء الحرم ويترك أثرًا لا يُنسى.
في وصفه لعادات أهل مكة الغذائية، يذكر ابن بطوطة أنهم لا يأكلون سوى مرة واحدة في اليوم بعد صلاة العصر، ويكتفون بهذه الوجبة حتى نفس التوقيت من اليوم التالي، أما من أراد الأكل في بقية اليوم، فيقتصر على التمر، ويرى أن هذه العادة أسهمت في صحة أجسادهم وقلة الأمراض والعاهات بينهم.
على غرار ما ذكره ناصر خسرو وابن جبير، يشيد ابن بطوطة بجودة الفواكه في مكة، مؤكدًا أنها لا تضاهي أي مكان آخر في العالم، وذكر أن هذه الفواكه والخضروات تُجلب من الطائف ووادي نخلة وبطن مر.
ومثل ابن جبير، امتدح ابن بطوطة أيضًا قبائل اليمن، مُشيرًا إلى فضلهم خلال موسم الحج، ويروي أنهم يأخذون معهم إلى مكة الحبوب والسمن والعسل والزبيب واللوز، مما يؤدي إلى انخفاض الأسعار في مكة وتحسن أوضاع أهلها المعيشية، ويرى ابن بطوطة أنه لولا هذه القبائل اليمينة، لكان أهل مكة يعانون من شظف العيش.
وحين أقام ابن بطوطة فترة طويلة في مكة كمجاور، لاحظ أن كثيرًا من الحجاج الفقراء يتخذون من الحرم مأوى لهم، ولم يجد ابن بطوطة صعوبة في تلبية احتياجاته اليومية، وكانت الصدقات التي يقدمها أهل الخير تكفيه، وقد خص بالذكر إمام المذهب الحنفي واصفًا إياه بأنه أكثر فقهاء مكة كرمًا.
أيضًا التقى ابن بطوطة بأشخاص من جميع أنحاء العالم الإسلامي الذين تجمعوا لأداء فريضة الحج، وكعادته، سارع إلى التعرف على المغاربة، وسجل إعجابه بسلوك العراقيين والخُرسانيين خلال فترة الحج، إذ شاهدهم وهم يوزعون الصدقات بسخاء على المجاورين والمكيين، حتى إن الأسعار قد رخصت في مكة بسبب كثرة ما أنفقوه من الذهب.
وأشار ابن بطوطة إلى أن معظم سكان مكة كانوا يتبعون المذهب الشافعي، وموضحًا أن كل مذهب فقهي كان له منبر يواجه أحد أضلاع الكعبة، وكان أئمة المذاهب يتناوبون على إمامة الصلوات، يبدأ الإمام الشافعي، ثم يصلي إمام المالكية في مصلى مقابل الزاوية الجنوبية للكعبة، يليه إمام الحنابلة قرب الجدار الشرقي للحرم، ثم الإمام الحنفي عند فوهة سقف الحرم.
ورغم وجود ترتيب ثابت للصلاة للمذاهب الأربعة كما يروي ابن بطوطة، فإنهم يصلون جميعًا صلاة المغرب في وقت واحد، ونتيجة لذلك، يُصاب الناس بالتشتت والحيرة، فكثيرًا ما يركع المالكي مع ركوع الشافعي، ويسجد الحنفي مع سجود الحنبلي.
سمات وتحديات الحج في زمن ابن بطوطة
يُلاحظ أن الأعباء المالية المفروضة على الحجاج في زمن ابن بطوطة قد خفت بشكل كبير مما كانت عليه في عهد ابن جبير، حتى إن ابن بطوطة في رحلة حجه كان فقيرًا وعاش على الصدقات.
ومن اللافت كرم الضيافة الذي كان قُدم للحجاج في زمن ابن بطوطة، إذ اعتبر معظم حكام العالم الإسلامي آنذاك أن من واجبهم توفير الإقامة والطعام والحماية والدعم المالي للحجاج، وقد مكن ذلك الحجاج من عبور الحدود والتنقل بين الأقاليم الإسلامية دون أن يواجهوا عوائق سياسية أو مضايقات تُذكر.
لم يذكر ابن بطوطة وقوع أي حالات تدافع أو نزاع بين الحجاج، وهو ما يعكس مستوى التنظيم الجيد الذي كانت تشهده مناسك الحج آنذاك، كما أن الحجاج الوافدين إلى مدن مثل القاهرة أو دمشق أو بغداد كانوا ينضمون إلى قوافل رسمية منظمة، مما جعل رحلتهم إلى الحجاز أكثر يسرًا وسهولة مقارنةً بما واجهه ابن جبير، ويلاحظ أن تحديد توقيت قافلة الحج كان يتم بدقةٍ بحيث يصل الجميع في الوقت المحدد في مكة لبدء مناسك الحج الرسمية.
وفي ظل حكم المماليك، شُددت الحماية العسكرية لقوافل الحج، وقد رافق بالفعل عدد من المسؤولين المماليك قوافل القاهرة ودمشق لحفظ النظام بين الحجاج وتلبية احتياجاتهم الخاصة، ويصف ابن بطوطة وجود نظام دقيق وواضح للرسوم المفروضة على قوافل الحجاج.
علاوة على ذلك، أولت السلطات المملوكية رعاية خاصة بالحجاج، إذ وفرت لهم الماء والمؤن عند الحاجة، ويذكر ابن بطوطة أن المماليك أقاموا خانات عامة موزعة على طول طرق الحج، وكانت تلك الخانات مزودة بسقايات عامة ومتاجر صغيرة تلبي الاحتياجات الأساسية، ما أسهم في تسهيل حركة الحجاج وتوفير الراحة لهم أثناء الرحلة.
كما تم تعيين مسؤولين مختصين لتوثيق ممتلكات الحجاج الذين وافتهم المنية على طول الطريق، إضافة إلى وجود أطباء يقدمون الرعاية الصحية، ومحتسبين يتولون مهمة مراقبة الأنشطة التجارية وضبط السلوك العام.
ومع ذلك، يشير ابن بطوطة إلى أن أبرز ما كان يثير قلق الحجاج آنذاك هو تعرض القوافل لهجمات البدو في عمق الصحراء، كما أن الطريق لم يكن يخلو من المخاطر الطبيعية، إذ لقي بعض الحجاج حتفهم نتيجة البرد القارس، أو العطش الشديد، أو العواصف، أو انتشار الأوبئة، وقد أصيب ابن بطوطة نفسه بوعكات صحية بسبب قساوة الظروف المناخية التي واجهها خلال الرحلة.
بعد أدائه أول حج عام 1326م، عدل ابن بطوطة عن خطته الأصلية بالعودة إلى المغرب والعمل في بلاط سلطان فاس، إذ أحدثت تجربة الحج تحولًا عميقًا في حياته، فاختار أن ينطلق في رحلته الكبرى التي استغرقت 24 عامًا، متنقلًا بين مختلف البلاد الإسلامية، سعيًا وراء العلم واكتشاف تنوع المجتمعات.
وأخيرًا عاد ابن بطوطة إلى مسقط رأسه طنجة في عام 1355، وهناك استمع السلطان أبو عنان المريني إلى قصص رحلاته المثيرة، فشجعه على تدوينها لتكون إرثًا للأجيال القادمة، فكانت الثمرة كتابه الشهير الذي عُرف باسم “رحلة ابن بطوطة”.