عقب بسط الدولة العثمانية نفوذها على الحجاز مطلع القرن السادس عشر، وسعيًا لتعزيز مكانتها وهيبتها في العالم الإسلامي، تولت تنظيم وتأمين قوافل الحجاج، فأعادت بناء أسوار المدينة المنورة، وجددت أجزاء واسعة من منطقة الحرم المكي، كما أنشأت شبكة واسعة من القلاع والخانات ومحطات المياه والبنى التحتية على امتداد طرق الحج الرئيسة.
في الواقع، حظي الحرمين الشريفين بمكانة مركزية لدى العثمانيين الذين دعموا سكان مكة والمدينة بالأوقاف والمساعدات، ومنحوهم إعفاءات ضريبية، مع الحفاظ على نظام الأشراف السائد في الحجاز. وبين القرنين السادس والسابع عشر، تزايدت أعداد الحجاج القادمين من الأناضول والبلقان بشكل لافت.
نتابع في ملف “ألف درب إلى مكة”، تتبع السر خلف تلك الجاذبية التي جعلت قوافل لا تُعد ولا تُحصى تشق طريقها عبر القارات والبحار والصحارى، نحو قبلة تهفو لها الأرواح قبل الأقدام. ونستكشف خطى الحجاج كما خلّدوها في رواياتهم، من شتى العصور والثقافات والانتماءات، وكلٌ منهم يحمل في قلبه قصة خاصة، تلتقي كلها عند لحظة الوصول إلى البيت الحرام.
وفي هذا المناخ، انطلق الرحالة العثماني أوليا جلبي لأداء فريضة الحج عام 1671، موثقًا تجربته بإسهاب في موسوعته “سياحة نامه” التي تُعد من أهم المصادر التي وصفت تجربة الحج في ذلك العصر.
رؤيا الحج
وُلد أوليا جلبي في إسطنبول عام 1611، وأتقن اللغات العربية والفارسية والتركية كما يتضح من روايته. نشأ في أسرة ميسورة ذات علاقات وثيقة بالبلاط العثماني، إلا أنه لم يطمح لتولي منصب رسمي، بل كان حلمه أن يجوب الآفاق، وكان أداء فريضة الحج وزيارة قبر النبي محمد من أعظم طموحاته، وهو ما عبر عنه بقوله:
“إن الحقير إلى ربه أوليا منذ أن وعي الدنيا وشب عن الطوق وأصبح فى عمر الشباب، وهو يتمنى من كل قلبه وروحه أن يكون مولعًا بالسياحة.. وأن أسابق رياح الصبا فى قطع الديار حتى أصل إلى موطن الحبيب المصطفى”.
وفي ليلة عاشوراء من عام 1630، رأى أوليا في منامه أنه يؤدي صلاة الفجر في جامع “آخي جلبي” بمدينة إسطنبول، وتراءى له النبي محمد في المسجد محاطًا بعدد من الصحابة، فاندفع يقبل يده بفرح، لكن لسانه تعثر، فبدل أن يطلب الشفاعة، طلب الإذن بالسفر، فابتسم له النبي، وبشره بالشفاعة والسياحة وزيارة البيت الحرام، ثم خاطبه سعد بن أبي وقاص قائلًا: “انطلق كالسهم في بلاد الله”.
كانت تلك الرؤيا نقطة تحول في حياة أوليا، إذ استيقظ وقد انطبعت في ذهنه أثرها، وعندما عرضها على مشايخه لتفسيرها، نصحوه باتباع توجيه سعد بن أبي وقاص، وهكذا بدأ يجوب البلدان، لكن ارتباطاته المتعددة حالت دون أدائه فريضة الحج.
غير أن حلمًا آخر في ليلة القدر من عام 1671 عقب زيارته لقبر أبي أيوب الأنصاري قلب الموازين، إذ رأى في منامه والده وشيخه محمد أفندي يحثانه على أداء فريضة الحج، فاعتبرها علامة حاسمة، وبدأ مباشرة تجهيز نفسه للرحلة إلى الحجاز.
انطلق في 12 محرم 1082هـ / 21 مايو 1671 من إسطنبول مع ثلاثة من رفاقه وسبعة خدم، وسلك طريقًا غير مألوف لتفادي اضطرابات الجلالي في الأناضول. مرّ ببورصة وكوتاهية وأفيون، ثم إزمير، واستكشف سواحل آيدين ومنتشا وجزرًا في المتوسط، منها رودس ثم تابع عبر أضنة ومرعش وعينتاب وكلس، وصولًا إلى حلب ثم دمشق، حيث أقام 15 يومًا واستكشف معالمها وأسواقها
محطات الحج الشامي في العهد العثماني
انطلق أوليا مع قافلة الحج الشامية التي ضمت عددًا من كبار المسؤولين العثمانيين وقادها والي دمشق حسين باشا، موثقًا المحطات التي مرت بها القافلة، وجدير بالذكر أن بعض الأسماء التي ذكرها تختلف عما ورد في مصادر أخرى تناولت نفس المسار. يقول أوليا:
“فى العشرين من شوال سنة إحدى وثمانين وألف من الهجرة النبوية، خرجنا من الشام وسط إحتفال مهيب لم تر مثله البلاد من قبل، وسارت القافلة مسافة ساعة، حتى وصلت إلى قصر أحمد باشا” صـ101.
انطلقت القافلة من القصر بحماية وحدات الإنكشارية، وواصلت سيرها عبر قرى كسوة وخان الطارخانة وقلعة الصنمين حتى مدينة درعا، ثم بصرى الصغرى فحوران للتزود بالماء. وصلت إلى قلعة المزيريب وبقيت عشرة أيام قرب وادي حوران، ويشير أوليا إلى أن سكان المنطقة كانوا يستفيدون من هذا التوقف لعرض سلعهم والتجارة مع الحجاج.
تابعت القافلة رحلتها عبر قرى النوى وأيوب وطورنا إلى قلعة مزراق ثم عين الزرقاء، فتبروكه، ومن هناك دخلت صحراء البلقاء حيث تسببت الأمطار الغزيرة في وفيات بين الحجاج والدواب. واصلت إلى قلعة القطرانة، ثم الكرك مرورًا بالتابوت وعنزة، حتى وصلت قلعة معان فالعقبة، حيث اضطر الحجاج للسير على الأقدام بسبب وعورة الطريق، وتعرض بعضهم للسرقة.
وصلت القافلة إلى قلعة حوزيمان مرورًا بـ”نبع النبي”،، والتي حسب أوليا شُيدت في عهد معاوية بن أبي سفيان ويقيم فيها نحو مئتي جندي وتضم مساكن ومسجدًا وحمامًا، ثم إلى قلعة “النخلة العاصية” في منتصف الطريق إلى مكة، فمدينة المقابر وقلعة حيدر، حيث معسكر إنكشارية الشام الذي يضم ما بين أربعين إلى خمسين غرفة، وتمر بها أيضًا قافلة حجاج مصر
تابعت نحو قلعة شيرين، ثم منزل شق العجوز وعقيت الرمال، فمدينة ثمود وصالح، وقلعتي دبل والعلا، ومنزل بئر زمرد والبئر الجديد الذي موّلته والدة السلطان محمد الرابع، وأخيرًا، عبرت القافلة نبع الهداية وقلعة الفحلتين ووادي القرى حتى بلغت دار الوداع المعروفة أيضًا بوادي الاستقبال، وهي آخر محطة يقف عندها الحجاج قبل دخول المدينة المنورة حيث استقبلهم أهل المدينة بالأناشيد والتمر وكرم الضيافة.
بالمجمل، بلغ عدد المحطات من دمشق إلى دار الوداع أربعة وعشرين محطة، قطعتها القافلة في 350 ساعة (14 يومًا ونصف اليوم) بسبب إرهاق الحجاج وما أصاب الدواب من الإنهاك، ويشير أوليا إلى أن هذه المسافة كان من الممكن اجتيازها في 100 ساعة إذا توفرت المؤن وكان الطريق أكثر سلاسة.
في رحاب المدينة المنورة
يصف أوليا مشاعره الجياشة عندما رأى المدينة المنورة لأول مرة، حيث غمرته مشاعر عميقة من التأثر، وهرع إلى الصلاة عند قبر النبي محمد وكتب أشعارًا دينية وعلقها على جدران الحرم النبوي. ويشير إلى أن الصلوات في المسجد النبوي كانت تُؤدى وفق الترتيب المذهبي، بدءًا بالشافعي، ثم الحنفي، فالمالكي، وأخيرًا الحنبلي، ما يعكس التعددية المذهبية التي كانت سائدة آنذاك.
وثّق أوليا جلبي توسعة المسجد النبوي وأعمال الترميم العثمانية، مشيرًا إلى أن عدد سكان المدينة بلغ 14 ألفًا، أغلبهم يعملون في التجارة والصيرفة. كما وصف استيراد الطعام من مصر، ودوّن تفاصيل دقيقة عن منازل المدينة، ومطابخها، ومدارسها، وحدائقها، ومحاصيلها الزراعية.
أثناء إقامته في المدينة، زار أوليا جلبي قبرَي أبي بكر وعمر، ومساجد بارزة مثل القبلتين وعائشة، ودوّن وصفًا لقلعة المدينة ومعالمها من حمامات وخانات ومدارس. خارج الأسوار، أشار إلى وجود أكثر من 100 مدرسة وسبعين سبيلًا، تمولها الصرة السنوية والأوقاف.
كما زار قرية قباء، ومسجد شهداء أحد، وآبار علي، وسبيل ميمونة بنت الحارث، ووادي فاطمة، وقلعة بدر، ومقام العمرة، وخص بالذكر بلدة نبع ربيعة، مشيرًا إلى أنها تضم أكثر من مئتي منزل وجامع ونحو 50 دكانًا، مبينًا أنها الموضع الذي يُحرم منه حجاج مصر.
رافق أوليا الحجاج في زيارة مخصوصة لقبر حمزة بن عبد المطلب الذي يقع على بعد ساعة واحدة من المدينة، واعتبر هذه الزيارة تعادل أجر المشاركة في غزوة أُحد، كما أشار إلى أن زيارة مقابر الصحابة تتطلب شروطًا خاصة، منها أن تتم في وقت السحر، وأن يكون الزائر حافي القدمين عاري الرأس.
بعد أن أتمّ الحجاج زيارة الوداع للنبي، أصدر حسين باشا قائد القافلة أمرًا بإطلاق المدافع إيذانًا بالتحرك من المدينة باتجاه مكة، وسارت القافلة جنوبًا لمدة ساعتين حتى بلغت آبار علي وهي المنطقة التي يحرم فيها الحجاج قبل التوجه لمكة.
ومن بين المحطات الأخيرة في طريق الحجاج إلى مكة، مر أوليا بمنزل مقابر الشهداء، تلاه منزل آل جديدة، ثم مر بعد ذلك بكثير من القرى، حتى وصلت القافلة إلى قلعة بدر، ثم غار النبي، ثم قلعة البركة، ثم منزل مقام العمرة وفيه يستقبل أهالي مكة الحجاج في هذا الموقع، ومنه تستغرق الرحلة إلى الكعبة ساعة واحدة.
بعد ذلك، وصلت القافلة إلى وادي فاه، وأشار جلبي إلى أن كبار شخصيات مكة يتوجهون إلى هذا الموقع لاستلام الأموال والهدايا السلطانية، وهي آخر محطة في طريق القافلة قبل دخولها إلى مكة.
في دروب مكة
حين أبصر أوليا الكعبة غمرته مشاعر جياشة، فطاف بها باكيًا، وزار مقام إبراهيم وسعى بين الصفا والمروة، ووصف ماء زمزم بروائح تتبدل على مدار اليوم فتفوح برائحة الورد صباحًا، ثم البنفسج عصرًا، والياسمين مساءً، وتنتهي بالكادي والحليب ليلًا، كما وثّق دور العبادة والخير في مكة، وبيوت الصحابة، وأشار إلى أن للحرم 19 بابًا وسبع مآذن، ودوّن النقوش والتواريخ على أبوابه.
أُعجب أوليا بالأجواء الاحتفالية في مكة خلال الحج، حيث بدت المدينة وكأنها في عيد كبير، تتزين محالها وقصورها وخيام الحجيج. واهتم بموكب الصرة العثماني القادم من إسطنبول محمّلًا بالهدايا، معتبرًا إياه أبرز ملامح الموسم. كما أشار إلى أن كسوة الكعبة تُنسج في القاهرة بلونها الأسود المميز.
وفي وصفه لسكان مكة، رسم أوليا صورة تفصيلية، مشيرًا إلى أن أغلبهم ذوو بشرة سمراء، ويميل بعضهم إلى الحمرة، وتتميز عيونهم بالاتساع وشبهها بعيون الغزلان، كما وصفهم بأنهم هادئو الطبع، لكنه لاحظ شيوع الألفاظ البذيئة في أحاديثهم اليومية.
وأشار إلى أنهم يكتحلون ويحنون أيديهم وأرجلهم ولحاهم، كما وصف بعضهم بالإسراف والتبذير نتيجة الثراء الذي يتمتعون به، وأضاف أن رجال مكة مغلوبون على أمرهم في وجه النساء، في حين أن النساء لا يقمن بطهي الطعام في منازلهن. وذكر أيضًا أن أشراف مكة يعيشون على الأموال التي تأتيهم من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وأنهم بدورهم يتصفون بالبذخ والإسراف.
ولفت إلى أن غالبية أهل مكة يعملون بالتجارة، ولا يهتمون بمجالات التعليم والدراسة رغم توفر بنية تعليمية واسعة، إذ تضم مكة 150 مدرسة مخصصة لتعليم الأبجدية ومهارات القراءة. كما تنتشر دور تحفيظ القرآن الكريم في أربعين موقعًا، إلى جانب أربعين دارًا لتعليم الحديث، وأوضح أن الاهتمام الحقيقي بالعلم في مكة يقتصر على المجاورين.
أما في وصفه لعادات أهل مكة الغذائية، أشار إلى ميلهم لتناول الأطعمة الخفيفة مثل التمر، الأرز، والحساء، وذكر أن الهريسة من الأطعمة المفضلة لديهم. ونبه إلى أن شح الموارد الغذائية والمائية في مكة، جعل السكان يعتمدون على إعانات السلطان العثماني وعلى القمح والرز القادمين من مصر.
أبدى أوليا إعجابه بالحركة التجارية النشطة التي تشهدها مكة خلال موسم الحج، مشيرًا إلى أن كثيرًا من الحجاج يتاجرون لتغطية نفقات حجهم، وقد وفرت قافلة دمشق فرصًا لصغار التجار لتحقيق مكاسب، كما لم يكن أوليا استثناءً، إذ اضطر بدوره إلى الانخراط في التجارة لتأمين احتياجاته الإضافية خلال الرحلة.
وأفاد أوليا بوجود نحو 1300 دكان موزعة في مختلف أرجاء مكة، إضافة إلى أسواق متخصصة تحمل أسماء بلدان الحجيج، مثل السوق المصري، والشامي، واليمني، والعراقي، والهندي، فضلًا عن أسواق أخرى مصنفة بحسب نوع البضائع، وعلق قائلًا: “كل ما يخطر على البال أو يأتي إلي العقل تجده فى هذه الأسواق”.
أورد أوليا وصفًا تفصيليًا لأسواق مكة، مؤكدًا تنوع بضائعها بشكل هائل، إذ تتوفر فيها أنواع متعددة من الفواكه وأكثرها رواجًا البطيخ والتمور، إلى جانب اللآلئ والأحجار الكريمة، والمنسوجات الفاخرة، والعطور، والزجاج، والمجوهرات، والحبوب، والأدوية، لكنه لم يخفِ انزعاجه من غلاء الأسعار السائد في تلك الأسواق، منبهًا إلى أن المساومة غير مرحب بها وقد تُعد إهانة للتاجر.
وأشاد أوليا بمقاهي مكة، واعتبرها جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية للحجاج، ووثق وجود نحو 70 مقهًى في مكة، واصفًا هذه المقاهي بفضاءات للتسلية والترويح عن الحجاج، إذ كانت الإماء الحبشيات يقدمن عروضًا غنائية وموسيقية، وذكر أوليا أن الحجاج بمن فيهم هو نفسه، كانوا يحبون ارتياد هذه المقاهي لاحتساء القهوة والاستمتاع بالأجواء الاجتماعية والثقافية.
الحج بين التحديات والمخاطر الأمنية
انطلقت قوافل الحج العثمانية وفق تنظيم دقيق، بإشراف طاقم إداري متكامل تولى تنظيم الحجاج، وتنسيق تحركاتهم، والإشراف على الإمدادات والشؤون المالية. كما ضمت القوافل عددًا من الشخصيات البارزة، مثل القاضي، ومسؤول الزكاة، والأئمة، والمؤذنين، والموسيقيين. وغالبًا ما كانت هذه القوافل ترافقها حملة عسكرية لحمايتها، كما حدث في موسم حج عام 1672، حيث كان أوليا جلبي أحد أفراد هذا الركب.
ورغم الأجواء الروحانية التي ميزت موسم الحج، لم يغفل أوليا الإشارة إلى ما واجهه الحجاج من مخاطر، موثقًا التوترات التي كانت تنشب أحيانًا بين السلطات العثمانية وبعض القوى المحلية، كالشريف مكة أو القبائل البدوية، والتي كانت تلقي بظلالها على الحجيج.
ففي عامي 1670 و1671، نشب صراع بين حاكم جدة وشريف مكة الحاكم، ما أثار الذعر بين الحجاج ودفعهم إلى إغلاق أبواب المسجد الحرام خشية هجمات البدو الموالين للشريف، ويذكر أوليا أن البدو أطلقوا النار من مرتفعات جبل أبي قبيس والمناطق المحيطة بالحرم، ما أسفر عن سقوط نحو مئتي قتيل وسبعمائة جريح في صفوف الحجاج.
كما أدى أوليا فريضة الحج عام 1672م ضمن قافلة يقودها حسين باشا حاكم دمشق، في ظل توتر سياسي إثر مقتل والي جدة العثماني حسن باشا على يد قوات شريف مكة بسبب خلاف في تقاسم إيرادات ميناء جدة، وكان هدف حسين باشا تأكيد الهيبة العثمانية، فدخل مكة مع خمسة آلاف جندي مدعومين بثلاثة آلاف من مصر.
ويفصل أوليا كثيرًا في وصفه التهديدات التي شكلتها القبائل البدوية في الحجاز على المنطقة والتجار، ويبرز تناقض موقف هذه القبائل تجاه قافلة الحج الشامي، فبينما كانوا الموردين الرئيسيين للإبل والطعام والمؤن اللازمة للحجاج، كانوا في الوقت نفسه يشكلون تهديدًا كبيرًا لسلامة الحجاج.
ويصف أوليا القبائل البدوية بأنها خطر دائم يجب الحذر منه، فغالبًا ما رفضت السماح للحجاج بالمرور بسلام، بل كانت تلجأ إلى ردم الآبار أو مهاجمة القوافل إذا لم تحصل على الإعانات التي كانت تعتبرها حقًا لها.
ويُضيف أوليا أن القبائل العربية لم تكن تتردد في مهاجمة الحجاج وسرقتهم متى سنحت الفرصة، موثقًا وقوع عدة حوادث نهب في مناطق مثل الكرك وقلعة معان والعُلا، ومع ذلك، يشير إلى أنه كان من الحجاج المحظوظين، إذ لم يتعرض لأي اعتداء مباشر، رغم كثرة الهجمات على القوافل في تلك الفترة.
أيضًا كثيرًا ما كان البدو يستغلون الحجاج، فعندما مرت قافلة أوليا في أحد محطات البداية، رفض الأهالي تزويد القافلة بالمؤن مدعين أنهم غير ملزمين بذلك، إلا أن هذه كانت مناورة بهدف رفع أسعار بضائعهم وزيادة أرباحهم.
ووثق أوليا التحديات التي واجهها الحجاج في الحصول على الإمدادات، مشيرًا إلى أنهم كانوا يُضطرون أحيانًا للتفاوض مع السكان المحليين لتأمين احتياجاتهم، فيما كان أمير الحج العثماني يلجأ في بعض الأحيان إلى استخدام وسائل قسرية لضمان تلبية متطلبات القافلة. وفي بعض الحالات، تورط بعض المسؤولين العثمانيين في ردود فعل عنيفة وأعمال انتقامية دموية ضد البدو.
وواجهت الدولة العثمانية هذا التحدي بسياسة مزدوجة، فكانت تقدم إتاوات مالية وعينية لشيوخ القبائل مقابل ضمان سلامة الحجاج، وخُصصت مبالغ تُسلم لهم عبر أمين الصرة عند مرور القوافل بمناطقهم، في حين عززت في الوقت نفسه من الإجراءات العسكرية لحماية القوافل وضمان سلامة الرحلة.
في الواقع، بلغ تهديد البدو درجة من الخطورة جعلت من المستحيل أداء فريضة الحج دون مرافقة عسكرية ومواقع مؤمنة للمبيت فيها أثناء الليل، ويشير أوليا إلى أن الحجاج المنهكين من عناء الرحلة الطويلة، غالبًا ما كانوا عاجزين عن الدفاع عن أنفسهم أو ممتلكاتهم في وجه البدو، ومن هذا المنطلق، عبر عن سخطه الشديد شأنه في ذلك شأن ابن جبير، واقترح أن تُعامَل القبائل التي تعيق سير قوافل الحج كما يُعامَل الكفار.
بجانب مشكلات الإمداد والظروف المناخية القاسية التي أرهقت الحجاج، يشير أوليا إلى أن قافلة دمشق تعرضت في مزيريب لعاصفة مطرية عنيفة هددت بتأخير وصولهم في الموعد المحدد لأداء مناسك الحج. كما لم يغفل أوليا الإشارة إلى المعاناة الكبيرة التي واجهتها الإبل جراء هذه الظروف الصعبة.