أصدرت رئاسة الجمهورية العربية السورية، السبت الماضي، مرسومين منفصلين يحملان الرقمين (19) و(20) لعام 2025، أُعلن فيهما عن تشكيل هيئتين وطنيتين مستقلتين: الأولى تُعنى بالعدالة الانتقالية، والثانية بالمفقودين. وتندرج هذه الخطوة ضمن مساعي إعادة ترتيب البيت الداخلي السوري، ومعالجة الملفات الأكثر تعقيدًا في المرحلة الانتقالية.
وأكد بيان رئاسي أن هذه المبادرة تنبع من “الإيمان بضرورة تحقيق العدالة الانتقالية كركيزة أساسية لبناء دولة القانون، وضماناً لحقوق الضحايا، وتحقيقاً لمصالحة وطنية شاملة”.
وكانت الشبكة السورية لحقوق الإنسان قد أصدرت في وقت سابق تقريرًا يتضمن الأطر القانونية والمبادئ الواجب اتباعها لتأسيس هيئة العدالة الانتقالية. وأوصى التقرير بضرورة إنشاء هذه الهيئة بموجب قانون صادر عن المجلس التشريعي، محذرًا من مخاطر اللجوء إلى مراسيم تنفيذية قد تؤثر على استقلالها وشرعيتها.
في السياق ذاته، دعت منظمات دولية ومقررو الأمم المتحدة إلى الحفاظ على الأدلة المرتبطة بانتهاكات حقوق الإنسان والجرائم المرتكبة خلال حكم النظام السابق، معتبرة أن هذه الوثائق – بما في ذلك أرشيف أجهزة الأمن ومواقع المقابر الجماعية – تشكل أدوات أساسية في تحديد مصير عشرات الآلاف من المفقودين ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات.
هيئتان وطنيتان
في لحظة فارقة من عمر المرحلة الانتقالية، تحرّكت الدولة السورية نحو بناء أدوات العدالة والمحاسبة، بإعلان تشكيل “الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية” و”الهيئة الوطنية للمفقودين”، بموجب مرسومين رئاسيين يشكّلان بداية التعامل المؤسسي مع إرث الصراع والانتهاكات.
الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية، التي أُحدثت بموجب المرسوم رقم (20)، تُعنى بكشف الحقيقة حول الانتهاكات الجسيمة التي ارتُكبت في ظل النظام السابق، ومساءلة المسؤولين عنها بالتنسيق مع الجهات المعنية، وجبر الضرر الواقع على الضحايا، وترسيخ مبادئ عدم التكرار. كما تشمل صلاحياتها البحث عن المفقودين والمختفين قسرًا، وتوثيق الحالات، وإنشاء قاعدة بيانات وطنية، وتقديم الدعم القانوني والإنساني لأسر الضحايا.
أما الهيئة الوطنية للمفقودين، المُشكلة وفق المرسوم رقم (19)، فتتولى مهمة البحث عن مصير آلاف المفقودين والمختفين قسرًا، وتوثيق بياناتهم، وإنشاء قاعدة بيانات وطنية، وتقديم الدعم القانوني والإنساني لعائلاتهم. ويتمتع كلا الكيانين بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري، مع مهلة لا تتجاوز 30 يومًا لتشكيل فرق العمل ووضع الأنظمة الداخلية.
رئاسة هيئة العدالة الانتقالية أُسندت إلى عبد الباسط عبد اللطيف، الحقوقي والسياسي المنحدر من محافظة دير الزور، حاصل على إجازة في الحقوق من جامعة حلب عام 1986، ودراسات عليا في العلوم الشرطية والقانونية عام 2008.
وشغل مناصب إدارية في الدولة قبل انشقاقه عن النظام عام 2012، ثم تولى أدوارًا قيادية في المعارضة، من بينها رئاسة المكتب السياسي لفصيل “أسود الشرقية”، وعضوية الجبهة الوطنية للتحرير، وكان نائب رئيس المجلس المحلي في دير الزور، وعضوًا في اللجنة الدستورية السورية، وأمين سر الهيئة السياسية في الائتلاف الوطني حتى بداية عام 2025.
أما رئاسة هيئة المفقودين فقد أُوكلت إلى الدكتور محمد رضا جلخي، الأكاديمي المتخصص في القانون الدولي، الذي شغل عدة مناصب إدارية في قطاع التعليم العالي، منها أمانة جامعة إدلب، وعضوية لجنة تسيير أعمال جامعة دمشق، ونيابة رئاسة جامعة إدلب للشؤون الإدارية.
محمد رضا جلخي رئيس الهيئة الوطنية للمفقودين
من مدينة سلقين بريف إدلب وكان يشغل منصب عضو مجلس أمناء منظمة التنمية السورية ،كما أنه كان ضمن اللجنة المكلفة لصياغة الاعلان الدستوري
حاصل على درجة الدكتوراه في القانون الدولي من جامعة إدلب https://t.co/wdV0scupr4 pic.twitter.com/PkC27wAcVi
— غيث (@ghaith2323) May 17, 2025
كما شغل منصب عميد كلية العلوم السياسية في دمشق بعد سقوط النظام، وعُيّن عضوًا في مجلس الأمناء الجديد لمنظمة التنمية السورية، وعضوًا في لجنة خبراء صياغة مسودة الإعلان الدستوري في مارس الماضي.
آلية العمل والمسارات
رغم أن المرسومين لم يتضمنا تفاصيل دقيقة حول الهيكلية التنفيذية أو المسارات الإجرائية لكل من الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية والهيئة الوطنية للمفقودين، فإن الإشارات الواردة فيهما، إلى جانب التجارب المشابهة دولياً، ترسم ملامح آلية عمل يُفترض أن تنطلق من التوثيق وتنتهي بالمساءلة وجبر الضرر.
في المرحلة الأولى، يُنتظر من الهيئتين الشروع في بناء قواعد بيانات وطنية موثوقة. وتشمل هذه القواعد توثيق الانتهاكات التي ارتُكبت خلال النزاع السوري، بما في ذلك القتل خارج القانون، التعذيب، الإخفاء القسري، وملفات المفقودين. وسيُعتمد في ذلك على شهادات الضحايا والناجين، إضافة إلى ما توفره المنظمات الحقوقية السورية من أدلة أرشيفية، ووثائق رسمية، وتقارير ميدانية.
بموازاة ذلك، ستعمل الهيئة المعنية بالعدالة الانتقالية على فرز الانتهاكات وتصنيفها، وتحديد المسؤولين، تمهيدًا لمسار قانوني يضمن المحاسبة وعدم الإفلات من العقاب، ضمن الإطار الوطني أو بالشراكة مع آليات دولية إذا تطلب الأمر. ومن المفترض أن تراعي الهيئة مبادئ الحياد، والشفافية، والتشاركية مع المجتمع المدني، وفق معايير العدالة الانتقالية المعتمدة دوليًا.
سعدت بالمشاركة على الإخبارية السورية في حلقة خاصة من برنامج “بتوقيت سوريا” للحديث عن تشكيل “الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية” و”الهيئة الوطنية للمفقودين”. ناقشتُ أهمية تأسيس هذه الهيئات ضمن مسار وطني شامل لتحقيق العدالة، وبيّنت رؤيتنا في الشبكة السورية لحقوق الإنسان حول ضرورة… pic.twitter.com/eZJj0mVPwv
— Fadel Abdul Ghany (@FADELABDULGHANY) May 19, 2025
أما الهيئة المختصة بالمفقودين، فستكون مهمتها مزدوجة تقوم على البحث والكشف. حيث ستعمل ميدانيًا وعلى المستوى الفني للكشف عن مواقع المقابر الجماعية، وجمع عينات وتحليل بيانات لتحديد هويات الضحايا، إلى جانب توفير الدعم النفسي والقانوني لأسر المفقودين. وسيكون عليها التعاون مع منظمات وخبراء دوليين في علم الأدلة الجنائية، وتنسيق الجهود مع الهيئات الحقوقية السورية التي راكمت بيانات ضخمة في هذا الملف.
الإطار الزمني المعتمد حالياً يحدد ثلاثين يومًا لتشكيل فرق العمل ووضع الأنظمة الداخلية، لكن العمل الفعلي للهيئتين سيُقاس بمدى قدرتها على التحرك باستقلالية، والوصول إلى المعلومات، والتعامل مع ملفات سياسية وإنسانية بالغة الحساسية. ووسط ترقب محلي ودولي، يبقى التحدي الأكبر هو ما إذا كانت هذه الهيئات ستملك الأدوات التي تتيح لها الانتقال من مرحلة التأسيس إلى مرحلة الأثر الحقيقي.
مخاوف حول النطاق والشرعية
رغم الترحيب العام بخطوة إنشاء “الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية” من حيث المبدأ، إلا أن بعض المختصين في القانون الدولي وحقوق الإنسان يطرحون ملاحظات قانونية جدية بشأن المرسوم رقم (20)، الذي أُنشئت بموجبه الهيئة.
من بين هؤلاء، المحامية السورية ليندا عثمان، وهي مختصة في القانون الدولي وحقوق الإنسان من جامعة أوتريخت في هولندا، إذ ترى أن النص الحالي للمرسوم ينطوي على اختلالات قانونية ودستورية، ويثير أسئلة حول مدى التزامه بمعايير العدالة الشاملة والشفافة.
وحسب ما قالته عثمان لـ”نون بوست” فإن أبرز المآخذ تتمثل في أن المرسوم يحدّ نطاق المساءلة القانونية بالانتهاكات المنسوبة إلى النظام السابق فقط، متجاهلًا الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبتها جهات أخرى خلال النزاع، من تنظيم داعش وهيئة تحرير الشام، إلى بعض فصائل المعارضة، وقوات سوريا الديمقراطية، مرورًا بالميليشيات الأجنبية والقوات الروسية.
هذا القَصر، برأي عثمان، يُقصي آلاف الضحايا من الاعتراف والإنصاف، ويزرع التمييز داخل ملف العدالة نفسه، ما يُضعف الثقة المجتمعية ويقوّض مبدأ المساواة.
من الناحية الدستورية، تشير عثمان إلى تعارض المرسوم مع عدد من مواد الإعلان الدستوري المؤقت لعام 2025، مثل المادة 49 التي تنص على ضرورة إشراك الضحايا والمجتمع في صياغة مؤسسات العدالة الانتقالية، وهو ما لم يحدث وفق آلية تشكيل الهيئة.
كما تخالف نصوصًا أخرى تُلزم الدولة بعدم التمييز بين المواطنين، وتحقيق التعايش والسلم الأهلي، واحترام المعاهدات الدولية، التي أصبحت جزءًا من النظام الدستوري السوري.
على الصعيد الدولي، توضح عثمان أن المرسوم لا ينسجم مع معايير العدالة الانتقالية كما حددتها المواثيق والمعاهدات التي صادقت عليها سوريا، ومنها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، واتفاقية مناهضة التعذيب، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، إضافة إلى مبادئ الأمم المتحدة الأساسية بشأن جبر الضرر.
وبحسب قولها، فإن تغييب ضحايا العنف الجنسي والانتهاكات من جهات غير النظام، وعدم ضمان سُبل إنصاف فعّالة لهم، يمثّل خرقًا صريحًا لتلك الالتزامات.
وتؤكد المحامية ليندا عثمان على أن العدالة الانتقالية، حتى تكون فعالة ومشروعة، يجب أن تشمل جميع الضحايا بغض النظر عن هوية الجهة المنتهكة. فاختزال العدالة بطرف واحد لا يُنصف أحدًا، بل يعيد إنتاج الظلم في شكل آخر، ويؤسس لسلام هشّ على ذاكرة منقوصة.
تشكيل الهيئتين خطوة لا يمكن إنكار أهميتها في سياق بناء مؤسسات العدالة في سوريا، لكنها تظل خطوة أولى، لا نهاية المسار. فعلى الرغم من الطابع الرسمي والإعلاني لهذه المبادرة، تبقى فعاليتها مرهونة بقدرتها على تجاوز الإشكالات القانونية، وتحقيق الشمول والمساءلة دون انتقائية. في ظل ما تحمله المرحلة الانتقالية من تعقيدات وتطلعات، سيكون على هذه الهيئات أن تثبت، بالوقائع لا بالنصوص فقط، أنها أدوات لتحقيق العدالة، لا لإعادة إنتاج التمييز أو الإقصاء.