شهد التصوف خلال القرنين الحادي والثاني عشر الهجريين انتشارًا واسعًا في أرجاء العالم الإسلامي، وترك أثرًا بالغًا في سلوك الحجاج، حتى غدت زيارة قبور الأولياء من الطقوس الملازمة لرحلة الحج.
في هذا المناخ، قرر ابن الطيب الفاسي أحد أبرز أعلام المغرب أداء فريضة الحج، وخلال مساره من فاس إلى الحجاز، وثق أدق التفاصيل والحوادث التي صادفها، والأشخاص الذين التقاهم، كما نظم العديد من القصائد التي تعكس تجربته ومشاعره.
لكن المؤلم أن كتاباته سُرقت منه مع بقية متاعه في مدائن شعيب بالحجاز، ولم يجد ما يخفف عنه سوى الصبر والتسليم لقضاء الله، وكان أكثر ما أحزنه فقدان القصائد التي نظمها في مدح الكعبة والروضة، حتى عبر عن أسفه بقوله عن السارق: “لو رد إلي قصيدة من تلك القصائد التي أنشدتها في الكعبة المنورة والروضة الشريفة، لسامحته في المال أجمع والكتب”.
وبعد مغادرته الحجاز ووصوله مصر، ألح عليه أحد أصدقائه المقربين أن يعيد كتابة تجربته، ويسترجع المعاني التي كانت وراء تلك القصائد المسروقة، ورغم تردده في البداية ورفضه، إلا أن إلحاح صديقه دفعه للاستخارة، فشرح الله صدره، وقرر في النهاية إعادة كتابة رحلة حجه، موجهًا إياها لكل حاج ينشد الانتفاع من خبرته.
تميزت رحلة ابن الطيب بكونها مصدرًا ثريًا لمن يرغب في الاطلاع على أحوال الحج في القرن الثامن عشر، إلى جانب توثيقها الدقيق للمسارات التي اعتاد الحجاج المغاربة سلوكها نحو الحجاز، كما انفرَدت بأسلوبها الذي جمع بين السرد النثري والنظم الشعري، مما أضفى عليها طابعًا أدبيًا فريدًا.
ما الذي دفعه للحج؟
وُلد ابن الطيب عام 1110هـ/ 1698م في مدينة فاس، ونشأ وسط أسرة اشتهرت بإنتاجها العلمي والأدبي، تلقى تعليمه على يد أبرز علماء المغرب في عصره، ومن خلال مؤلفاته، يتضح مدى تقديره لقيمة السفر، إذ رآه في كثير من الأحيان واجبًا كأداء فريضة الحج، أو على الأقل غنيمة وبركة لتحصيل المعارف ولقاء العلماء، حتى إنه فكر في أن يكتب كتابًا كاملًا عن فوائد السفر.
تنوعت دوافع ابن الطيب لرحلته إلى الحج، فإلى جانب شوقه العميق لزيارة النبي وأداء مناسك الحج، أفاض في ذكر أسباب أخرى، منها حب الاستكشاف وخوض التجربة وطلب العلم، فضلًا عن رغبته في لقاء العلماء.
وبعد أن جهز النفقة لزوجته وأولاده، وطلب دعاء والديه، استعد ابن الطيب لرحلته بكل ما يلزم من زاد وعتاد، حمل معه ثيابًا لحمايته من البرد والمطر، إضافة إلى الأدهان الباردة والحارة، والتكاحيل والمراهم، وكل ما قد يحتاجه لنفسه أو لدابته، كما اصطحب كتبًا تحتوي على قصائد مدح للنبي محمد، وأدوات الكتابة من محبرة وأقلام وقراطيس.
من فاس إلى القاهرة
استهل ابن الطيب رحلته بزيارة ضريح إدريس بن عبد الله الكامل لينال بركاته، وزار بعض الأئمة في منطقة باب الفتوح، معتقدًا أن هذه الأعمال تجلب له التوفيق، ثم انطلق مع مجموعة من الحجاج حتى وصلوا إلى طريق “عنق الجمل”، الذي كان موحلًا وزلقًا، مما جعل الإبل عاجزة عن السير فيه، فاختاروا الانعطاف يسارًا نحو طريق أكثر أمانًا ويسرًا.
تابع ابن الطيب سيره بين الجبال والتلال، وكلما مر على إحدى القبائل، استقبلوه بحفاوة تقديرًا له ورفاقه كزوار للنبي محمد، ثم واصلوا مسيرهم عبر مناطق جبلية حتى بلغوا منطقة “النخيلة”، ومن هناك سلكوا طريقًا يمر بأراضٍ جافة لم تنل نصيبها من المطر، وبعد قسط من الراحة، بدأوا صعود جبل “بني مجرة”.
وقبل أن يتمكنوا من النزول من قمة الجبل، أدركهم الليل، فاضطروا للمبيت هناك، ومع طلوع الفجر استأنفوا رحلتهم، حتى وصلوا مدينة تازة عند الظهيرة، وأقاموا فيها لفترة قصيرة وزاروا ما أمكن زيارته من المشاهد والأضرحة.
واصل ابن الطيب مسيره حتى بلغ وادي دبدو المحاط بجبل تتدفق من بين جوانبه عين ماء عذبة، فارتووا منها، ثم تابعوا السير حتى وصلوا إلى وادي بلزوز، ومن هناك توجه مع ورفاقه إلى وادي بني مطهر الذي بهرهم بجمال طبيعته، فأقاموا فيه وصَلوا وشربوا من مياهه العذبة.
ثم وصل ابن الطيب إلى وادٍ فسيح يُعرف بـ“النقوب”، فعبره ومضى في طريقه حتى بلغ “بيان السلطان”، وهي مجموعة آبار غزيرة المياه، فاستقى منها الحجاج حاجتهم، ثم توجوا نحو منطقة “أبا الضروس”، واستراحوا فيها استعدادًا لعبور الصحراء.
تابع ابن الطيب ورفاقه المسير حتى بلغوا “عين الحسنى”، فاستراحوا قليلًا، ثم استأنفوا طريقهم حتى وصلوا إلى القصيعات، ومنها انطلقوا نحو “عين الحجر”. وبعد ذلك، وصلوا إلى قرية “المشرية”، وفيها وجد الحجاج وفرة من السمن والأغنام، كما زار ابن الطيب روضة الشيخ محمد العمري الملقب بمولى الخلوة، وروضة الشيخ عبد الرزاق.
غادر ابن الطيب ورفاقه تلك القرية الجميلة، واستأنفوا رحلتهم حتى وصلوا إلى “وادي النخيلي”، الذي يُعد محطة أساسية يلتقي فيها ركب الحجاج الفاسي بالركب السجلماسي، ومن هناك، عبروا واديًا فسيحًا يُعرف بـ “وادي الطرفا”، وواصلوا مسيرهم حتى بلغوا “وادي الأشبور”.
ثم تابعوا طريقهم إلى “عين ماضي” المشهورة بعذوبة مياهها وجمال نسائها وطيب أخلاق أهلها، وهناك، توقفوا للاستراحة، وانشغل الحجاج بشراء ما يلزمهم لمواصلة رحلتهم، بعد ذلك واصل ابن الطيب رحلته حتى بلغ قرية “بخموت”، التي تعج بالنشاط والحركة.
ثم تابع السير إلى أن وصل إلى “الأغواط” غربي الجزائر، والتقى فيها بجمع من العلماء. ومن الأغواط توجهوا إلى وادي الحوت، ثم وصلوا إلى بلدة تُعرف بـ “دمت” – ويُسميها البعض “ومد” – وهي تقع عند سفح جبل وأهلها مشهورين بسرقة الحجاج والاعتداء عليهم.
تابع ابن الطيب ورفاقه رحلتهم حتى بلغوا منطقة عين البرج، وخيم عليهم الخوف من شدة العطش، ثم قضوا ليلتهم في منطقة عبدالمجيد، وفي صباح اليوم التالي، واصلوا المسير عبر وديانٍ غمرتها مياه الأمطار، مما بعث الطمأنينة في نفوس الحجاج.
وبعد اجتيازهم هذه الوديان، وصلوا إلى وادي النبي خالد بن سنان، الذي يُعرف بصعوبته وخطورته، وخلال هذه المرحلة القاسية، عصفت بهم رياح شديدة قلبت أحوال القافلة، حتى توفي أحد الحجاج من شدة التعب والإرهاق، وعلى حد تعبير ابن الطيب: “نادته منيته قبل أن يبلغ أمنيته”.
أكمل ابن الطيب ورفاقه سيرهم حتى وصلوا إلى مدينة بسكرة صباح الرابع من شعبان، وقضى فيها وقتًا ممتعًا والتقى بعدد من علماء المدينة، وزار قبور الصالحين، وقد أشاد بهذه المدينة، معتبرًا إياها من أجمل المدن التي زارها.
ومع ذلك، أشار أيضًا إلى ما كانت تعانيه من أوضاع سياسية مضطربة، نتيجة الغزو التركي من جهة، وهجمات القبائل العربية من جهة أخرى. وبعد ذلك، غادر ابن الطيب ورفاقه بسكرة، وواصلوا طريقهم حتى وصلوا إلى ضريح عقبة بن نافع.
تابع ابن الطيب ورفاقه مسيرهم حتى بلغوا جبل المصامدة المعروف بوادي كشطان، حيث قضوا ليلتهم هناك، وتبادلوا الأحاديث مع السكان المحليين المعروفين بتدينهم، ودارت بينهم نقاشات علمية مثمرة، ثم عبروا وادي الحميدات، ثم وادي الأعراب، ومنه تابعوا السير إلى جبل غريان، حيث استراحوا وشربوا من مياهه المالحة. بعد ذلك، توجهوا نحو منطقة “سندس”، ومنها إلى قرية الشبيكة، مرورًا بوادي أم الأحوى، حيث سَقوا دوابهم وملأوا قربهم بالماء.
واصلوا سيرهم حتى بلغوا منطقة السبخة، ومن هناك توجهوا إلى مدينة توزر التونسية، التي وصفها ابن الطيب بأنها عظيمة يجد فيها الحاج كل ما يحتاجه من زاد وراحة، وخلال إقامته فيها، التقى بجماعة من الفقهاء، وتبادل معهم النقاش في قضايا الفقه وأصوله وعلم الكلام، ولم يغفل عن عادته في زيارة القبور والتبرك بأصحابها.
غادر ابن الطيب توزر متوجهًا إلى قرية كريز، ومنها تابع رحلته حتى بلغ مدينة قابس، وهنا خرج التونسيين لاستقباله، واستراح مع ورفاقه تحت ظلال النخيل الوارفة، ثم تابعوا مسيرهم مرورًا بمنطقة مارت، وكانت الإبل قد سبقت الركب، فانتهز ابن الطيب الفرصة لزيارة قبور الصالحين في المنطقة، كضريحي سيدي سالم قبيلة وسيدي عبد الله المغربي.
تابع ابن الطيب رحلته حتى بلغ قرية عرام المعروفة بكثرة قبور الأولياء، ثم واصل السير إلى وادي السمارة، حتى بلغ بحيرات الملح، وتابع مع رفاقه طريقهم حتى وصلوا إلى جربة، التي وصفها بأنها ميناء بحري نشيط، وتوقفوا فيها قليلًا بانتظار انضمام الراغبين في أداء الحج، ثم استأنفوا المسير مرورًا ببحيرة تُعرف بـ“نبش الذيب”، ومنها انتقلوا إلى مجموعة آبار تُسمى البحيرة، إلى أن بلغوا بئر المويلحة.
واصل ابن الطيب ورفاقه رحلتهم حتى وصلوا إلى منطقة تُدعى ابن مردان، حيث استقى الحجاج من مائها رغم ملوحتها الشديدة. ثم تابعوا السير حتى بلغوا قرية زواغة، التي أُعجبوا ببنيانها المميز، وبعد أن قضوا فيها فترة من الراحة، غادر ابن الطيب القرية متجهًا إلى قرقارش، استعدادًا للانطلاق صباحًا نحو طرابلس.
وصل ابن الطيب إلى طرابلس صباح يوم 25 شعبان، وكانت آنذاك من أهم حواضر شمال إفريقيا، أبدى ابن الطيب إعجابه بجمالها، معتبرًا إياها أجمل من دمشق، وكعادته، التقى بعدد من وجهائها ومثقفيها ونشأت بينه وبين بعضهم صداقة وطيدة، ولم يغفل أيضًا عن زيارة أضرحة الأولياء.
غادر ابن الطيب طرابلس في 4 رمضان، متجهًا نحو جبال برقة، وفي طريقه مر بمنطقة تاجوراء وزار قبور أوليائها، ثم واصل مسيره عبر وادي الرمل، ثم وادي المسير، حتى بلغ جبل دزنا، وقد أبدى إعجابه بهذا الجبل لما يتمتع به من ارتفاع شاهق ومياه غزيرة وقرى متقاربة، إلى جانب كثافة سكانه البربر.
تابع ابن الطيب رحلته متنقلًا بين عدد من المناطق، حتى بلغ الجيزة وزار الأهرامات. ثم مر بقرية كرداسة الواقعة في الريف المصري، وقضى ليلته هناك في سعادة غامرة، وكعادته، لم يفوت فرصة زيارة أضرحة الأولياء في كل هذه المناطق.
أثناء إقامته في القاهرة، جال ابن الطيب في شوارع المدينة العامرة وزار الأزهر، وقبور آل البيت، وقبة الإمام الشافعي، ويبدو أنه كان يعتقد بقدرات استثنائية لهؤلاء الأولياء، فعندما تحدث عن الشافعي، وصفه بأنه “صاحب التصرف التام بمصر”.
شهد ابن الطيب مراسم كسوة الكعبة في القاهرة، التي تُعتبر من أهم المناسبات، حتى أن النساء كن يطلبن من أزواجهن الإذن لحضورها. ووفقًا لرواية ابن الطيب، بعد الانتهاء من حياكة الكسوة، تُحمّل على ظهر جمل، ثم يجتمع الأمراء والقادة والجنود والقضاة والباشا في موكب رسمي.
وعندما يمر موكب الكسوة، تُغلق أسواق القاهرة، ويتجمع الناس على شرفات المنازل ومآذن المساجد لمشاهدته، وتتقدم الطرق الصوفية الموكب، كالقادرية والرفاعية والدسوقية، ويتلو شيوخها الأدعية والابتهالات جماعيًا، وحتى الفقراء والمتسولون يشاركون في هذا الحدث.
محطات الحج المصري
أثناء إقامة ابن الطيب في القاهرة، كانت قوافل الحجاج المغاربة القادمة إلى المدينة تسلك إحدى طريقين إلى الحجاز، إما طريق البحر أو طريق البر، اختار ابن الطيب الطريق البري، غير أن فرحته بقرب انطلاق الرحلة ما لبثت أن تبددت حين أصيب صديقه أبي عبد الله بالطاعون، وبدأت حالته تتدهور حتى بات واضحًا أنه لم يعد قادرًا على متابعة السفر.
وقع ابن الطيب في حيرة بين رغبته في الرحيل ووفائه لصديقه المريض، لكن الأخير أصر عليه أن يواصل رحلته، وبالفعل، استعد ابن الطيب للرحيل، ولكن قلبه كان مثقلًا بالحزن، فودّع صديقه بعيون دامعة وروح مثقلة.
ثم واصل ابن الطيب رحلته حتى وصل مكة عصر 6 ذي الحجة، وغمره شعرو بالفرح وسارع إلى أداء طواف القدوم، ثم انطلق يصف الكعبة بعاطفة جياشة، متأثرًا بهيبتها وجلالها، فرأى فيها نورًا ساحرًا يأسر القلوب ويُبهر العقول، ويترك في النفس أثرًا لا يُمحى، ثم قبل الحجر الأسود رغم الازدحام الشديد، وشرب من ماء زمزم، وسعي بين الصفا والمروة.
زار ابن الطيب معظم معالم مكة، وأبدى اهتمامًا خاصًا بزيارة البيت الذي وُلد فيه النبي محمد وبيوت الصحابة، كما حرص على لقاء علماء من مختلف أنحاء العالم الاسلام، وشارك في نقاشات مع جماعة من الهند.
إضافة إلى ذلك، أعجب بأسواق مكة التي تزخر خلال مواسم الحج بضائع متنوعة من الشرق والغرب، وكان لسوق منى مكانة مميزة في تقديره، كما لاحظ شهرة المقاهي في مكة خلال موسم الحج. وأعجب أيضًا بالاحتفالات التي يقيمها أهل مصر والشام، من إيقاد المصابيح وإطلاق المدافع والبنادق، مما أضفى على الأجواء طابعًا مميزًا.
في المدينة المنورة
في 24 ذي الحجة، استعد ابن الطيب للانطلاق نحو المدينة المنورة، حتى وصلوا إلى مقبرة الشهداء، وما أن ظهرت قباب المدينة في الأفق، غمر الفرح قلب ابن الطيب، ولدى وصوله إلى المسجد النبوي، ذرفت عيناه.
لم يلبث ابن الطيب في المدينة سوى ثلاثة أيام، أمضاها في إنشاد القصائد للنبي محمد داخل المسجد النبوي، والتقى بعدد من الشخصيات البارزة، إلى جانب أصدقائه من المغاربة ومعارف والده، كما زار بقيع الغرقد، وقبور الصحابة، ومشهد الإمام مالك بن أنس، ومسجد قباء، وجبل أحد، إضافة إلى قبر حمزة بن عبد المطلب.
كثيرًا ما عبر ابن الطيب خلال رحلته عن حنينه لوطنه، في انعكاس واضح للحالة النفسية التي يعيشها الحاج وسط ما يلاقيه من مشاق وتغيرات عن بيئته المعتادة، ومع ذلك، يبدو أن زياراته لقبور الأولياء منحته قدرًا من الراحة النفسية.
في أجزاء كثيرة من رحلته، أشار ابن الطيب إلى التهديد المستمر من قطاع الطرق واللصوص المنتشرين على امتداد طرق الحج، وقد تعرض ابن الطيب نفسه للسرقة في مدائن شعيب وفقد كل ما كان يملك من كتب وذهب ومال.
ولم تكن تلك السرقة الأخيرة، فقد تعرض لسرقة أخرى في منى، حين سُرقت خيمته بكل ما فيها، في الواقع، وقعت حوادث مؤلمة في منى، حيث تعرض عدد كبير من الحجاج للنهب، وسُرقت بغالهم وأموالهم، حتى إن بعضهم لم يعد يملك ما يسد به جوعه.
وكحال كثير من الحجاج، كان ابن الطيب يشعر بالخوف من القبائل المنتشرة على الطريق، ويصف لحظة رعبٍ انتابت الحجاج عند ظهور عرب السلالمة والخويلد فجأة من قلب الصحراء، إذ كانوا معروفين بالغدر والسرقة.
وبجانب مخاطر القبائل البدوية، يُطلعنا ابن الطيب على أبرز التحديات التي واجهت الحجاج في تلك الفترة، وأهمها الكوارث الطبيعية المتنوعة التي تسببت في وفاة العديد من الحجاج قبل أن يتمكنوا من زيارة المدن المقدسة.
من أشد التحديات التي واجهها الحجاج، شح الماء وصعوبة الحصول عليه، حيث كانوا في كثير من الأحيان مهددين بالموت عطشًا. ولهذا السبب، ظلّت مسألة الماء تشغل تفكيرهم باستمرار، نظرًا لاعتماد حياتهم وحياة دوابهم عليه، ولذا لم يكن مستغربًا أن يولي ابن الطيب اهتمامًا بالغًا في وصف مواقع الآبار ومصادر المياه على امتداد رحلته.
أيضًا من صور المشقة التي وثقها ابن الطيب خلال موسم حج عام 1139هـ، الازدحام والتكدس، خاصة بين الصفا والمروة، وأشار إلى وجود سوق قرب المسجد الحرام، وعبر عن استيائه من انتشار البيع والشراء في هذا الموضع، معتبرًا أنه يزيد من الفوضى ويعوق الحجاج عن أداء مناسكهم.
إضافة إلى مظاهر الاستغلال التي عاشها الحجاج في مكة، فمثلًا يروي ابن الطيب أنه عندما توجه إلى دكاكين الحلاقين، كانوا يكتفون بحلق جانب واحد فقط من رؤوس الحجاج مُقنعين إياهم بأن ذلك يكفي لإتمام الإحرام، كان الهدف من ذلك خدمة المزيد من الناس وكسب المزيد من المال، ولذا اضطر ابن الطيب لدفع مبلغ إضافي ليتمكن من حلق رأسه بالكامل.
كما انتقد ابن الطيب تصرف أمراء الحج الذين كانوا يقصدون تجاوز محطتين في الطريق بغرض الإسراع في السير، مما تسبب في مشقة كبيرة للحجاج والجمال، خصوصًا في ظل حرارة الطقس.
ما بعد الحج
يذكر ابن الطيب أنه بعد إتمام حجه، عاد إلى وطنه، وكانت وجهته الأولى ضريح الإدريسي، غير أنه فوجئ بما آلت إليه البلاد من اضطراب وفوضى، وزادت الأوضاع سوءًا مع تفشي المجاعة في معظم أنحاء المغرب، ويبدو أن هذه الظروف القاسية دفعته للتفكير جديًا في الهجرة،.
حرص العثمانيون في الحجاز على تعزيز الاستقرار وترميم المؤسسات التعليمية ودعم العلماء، ما جعل المنطقة مقصدًا للمغتربين، ومن بينهم ابن الطيب الذي عاد إلى الحجاز وحج للمرة الثانية، ورغم أنه قضى سنواته الأخيرة في التدريس داخل الحرم النبوي، ظل شوقه إلى فاس يرافقه دائمًا.
وخلال إقامته في المدينة، كانت حركة الإصلاح النجدي تشهد نشاطًا بارزًا، إلا أن ابن الطيب لم يأتِ إلى على ذكرها في كتاباته، وظل مقيمًا في المدينة حتى توفي عام 1170هـ/1756م، ودُفن بجوار قبر السيدة حليمة.