ترجمة وتحرير: نون بوست
يمشي عبد الحميد ببطء مرتديًا بدلة رياضية سوداء من نوع “أديداس”، مطأطأ الرأس، في مقبرة متربة تحيط بها بقايا المباني التي تعرضت للقصف في مشهد تقف فيه المقبرة شاهدة بصمت على ما حدث في سوريا.
يتوقف التاجر، البالغ من العمر 36 عامًا، ويتمتم بالدعاء، ثم يبدأ في اقتلاع الأعشاب الضارة من الأرض حول شواهد القبور التي ابيضّت بفعل الشمس. يشير إليها واحدًا تلو الآخر: “ابن عمي، وزوجتي سناء، وطفلاي التوأمان، وابن عم آخر وابنته، واثنان آخران من أبناء عمي وأحد أبنائه، وشقيقاي ياسر وعبد الكريم وأطفالهما”.
تستمر القائمة في إيقاع من الحزن الذي لا يهدأ؛ هذه ليست مقبرة جماعية، بل موت جماعي، فلقد سقطوا جميعًا على يد قاتل واحد صامت. في 4 أبريل/ نيسان 2017، سقط صاروخ محمل بغاز السارين من طائرة تابعة للقوات الجوية السورية على خان شيخون، وهي بلدة هادئة تقع على بعد 34 ميلًا جنوب إدلب.
قُتل ما لا يقل عن 90 شخصًا، كان الكثير منهم أطفالًا، وفقد عبد الحميد 25 من أقاربه في ذلك اليوم. وعانى مئات آخرون من إصابات بالغازات السامة.
لكن بعد مرور خمسة أشهر على سقوط بشار الأسد، لا تزال العدالة وبقايا ترسانة الدكتاتور من الأسلحة الكيميائية بعيدي المنال.
قبل ثماني سنوات، كان مقطع فيديو لعبد الحميد وهو يحتضن توأميه المتوفيين في شاحنة، يغالب دموعه ويهمس: “قل وداعًا يا حبيبي”، هو ما دفع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى التحرك، بحسب التقارير؛ حيث أمر بشن 59 ضربة صاروخية على قاعدة الشعيرات الجوية، وكان هذا أول هجوم مباشر على سوريا منذ بدء الحرب، ووصف ترامب هجوم غاز السارين بأنه “إهانة للإنسانية”، لكن الحرب استمرت.
في الأسبوع الماضي، أصبح ترامب، الذي عاد إلى البيت الأبيض لولاية ثانية، أول رئيس أمريكي يلتقي برئيس سوري منذ ربع قرن؛ حيث صافح القائد السابق في تنظيم القاعدة أحمد الشرع في الرياض. وبعد ساعات، وفي قاعة متألقة في القصر، أعلن إنهاء العقوبات الأمريكية على دمشق، معلنًا أن سوريا “تحملت ما يكفي من الكوارث والحروب والقتل” وتستحق الآن “فرصة للعظمة”.
وقد تم تصوير هذه الخطوة في واشنطن على أنها إعادة ضبط جريئة: فرصة لإعادة سوريا إلى المشهد الإقليمي وبدء عملية إعادة الإعمار المتوقفة منذ فترة طويلة.
لكن المزاج العام في العواصم الأوروبية يبدو أكثر حذرًا؛ فبينما خفف الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة بعض العقوبات، إلا أن معظمها لا يزال قائمًا، ويحذر المنتقدون من أن الروتين قد ينتهي به الأمر إلى خنق حتى الجهود حسنة النية للمساعدة في نزع السلاح، وقد رفضت منظمة حظر الأسلحة الكيماوية التعليق على ما إذا كان رفع العقوبات الأمريكية – التي فُرضت جزئيًا بسبب استخدام سوريا للأسلحة الكيماوية – يمكن أن يساعد أو يعيق تقدمها.
خلال 53 عامًا من حكم عائلة الأسد، بنت سوريا برنامجًا ضخمًا للأسلحة الكيميائية، خزّنت فيه غازات الأعصاب، مثل السارين، وأنتجت كميات هائلة من غاز الخردل الذي يعود إلى حقبة الحرب العالمية الأولى.
وأُخفي الكثير من هذه المواد بعيدًا عن متناول مفتشي الأسلحة الدوليين الذين خُدعوا بأعذار واهية. وفي تحقيق سري سُرّب إلى صحيفة واشنطن بوست، أبلغ مسؤولون سوريون محققي منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، بشكل غير معقول، أنهم فقدوا أطنانًا من المواد الكيميائية الأولية المستخدمة في صنع غاز الأعصاب السارين في “حوادث مرورية”.
وقال غريغوري كوبلنتز، خبير منع الانتشار ومدير دراسات الدفاع البيولوجي في جامعة جورج ماسون، لصحيفة صنداي تايمز: “أكثر الأسلحة إثارة للقلق هي تلك التي اختفت”.
وأضاف: “هناك مخزونات أو معدات مهجورة، بلا حماية. قد يعثر عليها المدنيون صدفة. بعض هذه المواد الكيميائية سامة حتى قبل تحويلها إلى أسلحة”.
هناك مخاوف متعددة الجوانب؛ حيث يضيف ماسون: “تعرض الناس للتسمم، أو التلوث البيئي طويل الأمد، أو اكتشاف الجماعات المسلحة لهذه المواد واستخدامها للإرهاب الكيميائي”.
إن عملية نزع السلاح بطيئة ومعقدة وعاجلة، لذا يجب تحديد مواقع المخزونات وتأمينها وتدميرها قبل عودة الحرب أو وقوع الأسلحة في الأيدي الخطأ.
ولكن مع تدمير السجلات وتشتت العلماء الأصليين أو اختبائهم، يُترك المفتشون أمام ماضٍ غامض في ظروف شديدة التقلب ومع القليل من الأدلة التي يمكن الاعتماد عليها.
لا تزال ذكرى خداع نظام الأسد تطارد جهودهم؛ حيث يقول كوبلنتز: “الحكومة الانتقالية تقول الأشياء الصحيحة، لكنها قد لا تعرف حتى ما يجري. سوريا ليست دولة مستقرة تعمل بكامل طاقتها، ولا يمكن أن تعتمد العمليات على الجداول الزمنية العادية، والوقت يمر بسرعة”.
في مارس/ أذار، تمكنت منظمة حظر الأسلحة الكيميائية من الوصول إلى خمسة مواقع حول دمشق، اثنان منها لم يتم الإعلان عنهما سابقًا، وعثروا في الداخل على “مذكرات شخصية وفواتير وخرائط” وهي الآن قيد الفحص الجنائي. إلا أن إقرارات سوريا بشأن الأسلحة الكيميائية لا تزال مليئة بالثغرات؛ حيث تقول منظمة حظر الأسلحة الكيميائية أن هناك 19 قضية “خطيرة” لم يتم حلها.
وقد وصف وزير خارجية البلاد أسعد الشيباني برنامج الأسد بأنه “أحد أحلك الفصول في تاريخ العالم”، ووعد بالتعاون الكامل. على الرغم من عدم تقديم الحكومة أي تقرير شهري إلى منظمة حظر الأسلحة الكيميائية في شهر أبريل/ نيسان، إلا أن المطلعين من المنظمة يقولون إن ذلك ليس مفاجئًا بالنظر إلى حجم المهمة، وهذا لا يعني أن دمشق لا تحاول.
بالنسبة لعبد حميد في خان شيخون، هذا ليس مجرد حديث تقني، بل هو حديث شخصي.
لقد أدلى عبد الحميد بشهادته للأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية ومنظمة هيومن رايتس ووتش. ومع ذلك، لا تزال العدالة مستعصية عليه، فلقد شوّهت حملات التضليل الروسية سمعة الناجين مثله، وزعمت زورًا أن مصنعًا للقنابل تابعًا للمتمردين قد تعرض للقصف.
يقول وهو يقف بالقرب من الأنقاض: “كان مصنعًا للكراسي”.
ووصف الأسد لقطات الأطفال المحتضرين بأنها “مفبركة 100بالمائة”، حتى إن المتصيدين الروس نشروا اسم عبد الحميد على الإنترنت، وأرسلوا له تهديدات بالقتل.
ويتساءل عبد الحميد: “لقد خاطرت بحياتي لأتحدث علنًا. لكن ما الخيار الآخر الذي كان لديّ؟”. أكدت الاستخبارات الغربية لاحقًا روايته للأحداث، وتتبعت التحاليل المخبرية السارين إلى مخزون الأسد، وأظهرت صور الحفرة بقايا ذخائر مطابقة للذخائر التي تعود إلى الحقبة السوفيتية.
وفي عام 2017، استخدمت روسيا حق النقض في الأمم المتحدة لمنع إجراء المزيد من التحقيقات، وقد فرّ الأسد إلى موسكو من سوريا في ديسمبر/ كانون الأول الماضي.
وتساءل عبد الحميد: “لماذا لم تتم محاكمة الأسد؟ العدالة ليست لي وحدي. لا يمكننا أن نعيش في عالم يفعل الناس فيه ذلك ويفلتون من العقاب”.
بدأ صباح يوم الهجوم بغاز السارين كغيره من صباحات الحرب الأخرى، مع دوي صوت الطائرات في السماء والقنابل من بعيد، فاصطحب حامد زوجته وتوأمهما البالغ من العمر تسعة أشهر إلى منزل والديه، على أمل أن يكون أكثر أمانًا.
وخوفًا من ضربة ثانية، نقلهم إلى ملجأ في الطابق السفلي وخرج لمساعدة الجرحى.
وفي الخارج وجد فوضى عارمة: عشرات الأطفال والنساء والرجال وكبار السن مستلقين في الشارع وهم يصرخون طلبًا للمساعدة.
وقال: “كان الأطفال يحاولون التنفس ولكن كان هناك لعاب ورغوة غريبة تخرج من أفواههم وأنوفهم. كان الأمر أشبه بفيلم رعب. كان الناس يركضون ثم يسقطون وهم يتشنجون.”
أخذ سيارة مليئة بالناس إلى عيادة، لكنه فقد وعيه هو الآخر في وقت ما من صباح ذلك اليوم. استيقظ بعد يومين في سرير المستشفى، وعندما عاد إلى المنزل وجد اثنين من إخوته وعائلاتهم موتى.
ثم ذهب إلى الملجأ في الطابق السفلي، وفتح الباب ورأى أن زوجته وتوأميه قد ماتوا أيضًا.
كانت الأسابيع الأخيرة من حكم الأسد قاسية ووحشية، وجاءت مع منعطف مروّع آخر لعبد الحميد؛ ففي ديسمبر/ كانون الأول 2024، تعرضت إدلب والبلدات المحيطة بها لقصف جوي، في الأول من ديسمبر/ كانون الأول، قصفت الطائرات مدينة إدلب، وبعد أيام، انهالت البراميل المتفجرة على خان شيخون، وقُتل آخر من بقي على قيد الحياة من أشقائه.
قال وهو يشير إلى قبر جديد: “زرنا المقبرة سويًا في اليوم السابق. وفي اليوم التالي، دفنته هنا”.
ولا يزال عبد الحميد يزور المقبرة كل صباح، فلم تنته الحرب بالنسبة له، فقد تزوج مرة أخرى، وأعادت ابنته الجديدة النور إلى حياته، لكن فقدان “عائلته الجميلة” لا يتلاشى أبدًا.
قال: “كنت فخورًا جدًا بهم. كان لديهم مستقبل مشرق. أفكر فيهم كل يوم”.
المصدر: ذا تايمز