ترجمة وتحرير: نون بوست
حوّل نظام الأسد سوريا إلى دولة مخابراتية؛ حيث سادت المراقبة التي جعلت البلاد تحول نفسها نحو الجحيم. فكان الجيران والزملاء يبلغون عن بعضهم البعض في كل حي ومكان عمل: ما يقولونه، وأين يذهبون، ومن يأتي لتناول العشاء؟
وبعد أكثر من نصف قرن، تلاشى هذا النظام الخانق بين عشية وضحاها في ديسمبر/ كانون الأول، مع تقدم قوات المعارضة نحو العاصمة دمشق. وتركوا خلفهم مجتمع منقسم بين الشك والخيانة، يخيّم عليه سؤال من منهم ساهم في الخفاء في طغيان آل الأسد؟
وفي زقاق واحد، تتجلى المظالم الناشئة عن الخيانة؛ فقد كان حمدي البربري يعتني بمجموعة من الحمام الذي يبني أعشاشه على سطح منزله في شهر مارس/ آذار عندما سمع الرصاصة الأولى تمرّ بجانب وجهه.
ويتذكر البربري أنه عندما سمع الرصاصة الأولى انحنى، فمرت رصاصة أخرى من أمامه، وسقط إلى الخلف أثناء محاولته الهروب نحو الدرج، وكان يعلم تمامًا من أي بيت خرجت الطلقات.
لقد كان الجيران يكرهونه ويسبون والده، أبو أيمن الخباز، ووصموه بأنه عميل لجهاز المخابرات التابع لنظام الأسد خلال الحرب الأهلية الطويلة في سوريا. وينفي أبو أيمن أن يكون مخبرًا، لكنه أقر في مقابلة حديثة بأنه قاد في وقت ما قوات أمنية من فرع فلسطين للمخابرات العسكرية سيء السمعة إلى منازل أشخاص كان يعرفهم، وقال إن هؤلاء الأشخاص هددوه، وقد توفوا أثناء احتجازهم، حسبما أفاد هو وحمدي.

وعلى بُعد عدة أبواب في الزقاق من منزل عائلة البربري، كانت تعيش عائلة المغربي، التي قالت إنها كانت معروفة منذ زمن بعيد في المنطقة كمعارضين للحكومة. وأشاروا إلى موجة الخوف التي أطلقتها ميليشيا محلية موالية للأسد خلال الحرب، كان من بينهم أبو أيمن وابنه الأكبر وسيم. وقال أحمد المغربي وابن عمه موسى إنهما تم اعتقالهما من قبل هذه القوات وتعرضا للتعذيب لاحقًا.
وقال أحمد، في إشارة إلى تجربته الشخصية: “المخبر كان هو أبو أيمن. لقد ألحق أضرارًا كبيرة بعائلتنا”. ونفى أبو أيمن تورطه في اعتقال أحمد، وأكد أنه أبلغ عن زملائه السوريين مرة واحدة فقط، مضيفًا أنه “كان دائمًا مؤيدًا لأهل الحي”.
وفي الأشهر التي تلت سقوط الرئيس بشار الأسد، تكررت التوترات العالقة بين هاتين العائلتين السنيتين مرات لا تحصى في جميع أنحاء البلاد؛ حيث يواصل أولئك الذين تم التبليغ عنهم تقديم شكاواهم ضد من يُزعم أنهم خانوهم.
وتشكل هذه الانقسامات تحديًا كبيرًا للحكومة السورية الجديدة، التي تواجه أيضًا انقسامات طائفية متجذرة في الاستياء الواسع ضد الأقلية الدينية العلويين، التي وجد الأسد فيها جزءًا كبيرًا من دعمه. وتدعو السلطات الجديدة إلى المصالحة والوحدة الوطنية، لكنها لم تقدم أي اقتراحات واضحة لكيفية تحقيق ذلك.
التحوّل نحو النظام
وتعيش عائلتا البربري والمغربي في حي التضامن بدمشق، الذي صوّرته دعاية نظام الأسد كنموذج للانسجام الاجتماعي. ولكن خلال سنوات الحرب، اختفى آلاف من سكان التضامن، بعضهم في السجون، والبعض الآخر في قبور ضحلة بين المنازل، وكان الكثير من الضحايا والجناة جيرانًا.
وفي المدارس، كان المعلّمون يرفعون تقارير عندما يبوح الأطفال دون قصد بما سمعوه في منازلهم. وفي الأسابيع التي تلت سقوط الأسد، تذكّر السكان كيف عاد أحد الطلاب، الذي أصبح الآن مقاتلًا في صفوف المعارضة، ليواجه مديرة مدرسته، متهمًا إياها بالتسبب في اختفاء والديه. وقالت امرأة أخرى إن أصدقاء زوجها المنفصل عنها أبلغوا السلطات بأنها تخفي تعاطفها مع المعارضة.
لقد أصبح أبو أيمن البربري ثريًا في عهد النظام؛ حيث امتلك نحو اثني عشر عقارًا وعددًا من المشاريع الصغيرة في منطقته بدمشق. وقال إنه بعد أن حاولت مجموعة من سكان أحد الأحياء المجاورة ابتزازه للحصول على المال، ساعد قوات الأمن في تحديد هوية الأشخاص المسؤولين عن ذلك وقاد القوات ليلاً إلى منازلهم.
وأضاف أنه انضم أيضًا إلى ميليشيا محلية موالية للحكومة تُعرف باسم “قوات الدفاع الوطني”، وكانت تقوم بدوريات في المنطقة، زاعمًا أنه لو لم ينضم إليهم، لربما استولت الميليشيا على أحد منازله. وبدلًا من ذلك، أقام عناصر “قوات الدفاع الوطني” نقطة تفتيش أمام باب منزله، وكانوا يطلقون النار عشوائيًا على المارة في الشارع.
وقال أحمد مغربي إنه اعتُقل بعد وقت قصير من رؤيتهم لشقيقته وهي تهين صورة الرئيس. وأضاف أن ابن عمه موسى اعتُقل بعد عدة أشهر، بعد شجار مع أحد جيرانه يسكن في الطابق العلوي، كان قد انضم هو الآخر إلى قوات الدفاع الوطني. وقد أوقفه عناصر بملابس مدنية وأنزلوه من شاحنته، تاركين ولديه الصغيرين وحدهما في المقعد الخلفي.
وقال موسى إن السجانين في فرع فلسطين قاموا بغرس السجائر والزجاج في أطرافه وعلقوا أحمد من معصميه حتى انكسرت أطرافه. وعندما سُمح أخيرًا لأفراد عائلة المغربي بزيارتهم في السجن، كما قالوا، لم يتعرفوا على أبناء عمهم إلا بعد أن نادوا بأسمائهم.
اندلاع المظالم
وفي 7 ديسمبر/ كانون الأول، بينما كانت قوات المعارضة تتقدم نحو العاصمة السورية بهدف إسقاط قوات الأسد المعارضة، أيقظ حمدي البربري والده في منتصف الليل وهو في حالة رعب، كما قال. وفي غضون ساعات من الذعر، اتفقت العائلة على أن مغادرة أبو أيمن قد تنقذ الجميع، بحسب ما ذكروا، فقام بحزم بعض الملابس والمال في حقيبة.
وفي الخارج، كانت شوارع دمشق اشتعلت بالحزن والغضب الذي تراكم لدى المظلومين طويلاً. وأخبر أبو أيمن أبناءه بأن الأمر مسألة وقت فقط قبل أن يأتوا من أجله. وبعد ثلاثة أيام، تمكن من الوصول إلى لبنان المجاورة مع زوجته وابنه وسيم.
ومع شروق شمس صباح يوم 8 ديسمبر/ كانون الأول، وقف موسى وأحمد مغربي مذهولين في الشارع بينما كانت الحشود تمزق ملصقات الأسد من على الجدران، كما تظهر مقاطع الفيديو. لقد اختفت نقطة التفتيش التابعة لقوات الدفاع الوطني، وكذلك الرعب الذي كانت تثيرها، وسمح موسى لأولاده باللعب في الخارج لأول مرة منذ سنوات.
وقال أفراد العائلة إن التوترات في الزقاق اندلعت بعد ثلاثة أيام، بينما كان حمدي وإخوته يجهزون خبز اليوم داخل المخبز. وقال حمدي إن حوالي 12 رجلًا ملثمًا مسلحًا وصلوا وقاموا بسحب قمصان الرجال فوق رؤوسهم وأجبروهم على الوقوف أمام الحائط بينما كان المتفرجون يسخرون منهم.
صاح أحدهم: “والدكم متورط في القتل”، ووصفوا أبو أيمن بأنهم من الشبيحة، أي من الموالين للنظام.
وتذكر حمدي أنه صرخ قائلاً: “من فضلكم، إذا كنتم ستتهمونه، فعليكم أن تقدموا أدلة”، وكان يسمع زوجته تبكي وتترجى الرجال أن يرحموه. وفي النهاية، تراجعوا عن موقفهم.
في أول خطاب له كرئيس جديد لسوريا، قال أحمد الشرع، المعروف سابقًا بلقب أبو محمد الجولاني، للأمة إن الفضل في النصر على الأسد يعود لضحايا نظامه الأمني. وأضاف أن العدالة الحقيقية ستتحقق من خلال “تحقيق السلام المدني وملاحقة المجرمين الملطخين بدماء السوريين”، سواء كانوا من المختبئين داخل البلاد أو الفارين خارجها.
وأنشأت الحكومة مراكز للمصالحة؛ حيث سلّم جنود سابقون وعناصر استخبارات، وهم شاحبون وقلقون، أسلحتهم رسميًا مقابل بطاقات هوية مدنية. لكن العملية كانت اختيارية، وازداد عدد الموالين لنظام الأسد الذين تحايلوا عليها من خلال الانتقال إلى مناطق أخرى داخل البلاد.
وفي حي التضامن، صُدم العديد من السكان عندما انتشرت الأنباء عن عودة فادي صقر، القائد السابق لقوات الدفاع الوطني، لفترة وجيزة كرجُل حر، بعد أن أجرى مصالحة رسمية مع السلطات الجديدة. وقال بعضهم إنه عاد لحضور اجتماع مجتمعي، بينما زعم آخرون، على نحو غير دقيق، أنه قام بجولة في موقع المجزرة التي اتُهمت قوات الدفاع الوطني بالوقوف ورائها، وخرج مئات السكان للاحتجاج.
لقد أُصيب موسى بالذهول، وسأل شقيقه: “كيف يمكن أن يحدث هذا؟ وجود هذا الرجل في حد ذاته يعني أن مشروع إسقاط النظام بأكمله قد فشل”.
تصفية الحسابات
في أنحاء حي التضامن، أفاد السكان بأن بعض المخبرين المعروفين والموالين للنظام حاولوا التفاوض مع جيرانهم. وقام أحدهم بتسليم شقته للمقاتلين المعارضين الذين عادوا مع سقوط الأسد.
وقال موسى إن العائلة التي اتهمها بالتسبب في سجنه ظهرت على باب منزله لتعرض عليه سيارة فاخرة. وأوضح أفراد من عائلة المغربي أنهم تعرضوا لخسارة مالية كبيرة بسبب الاعتقالات، مشيرين إلى أنهم دفعوا أكثر من 200 ألف دولار كرشاوى للحصول على معلومات عن مكان وجود موسى ولضمان إطلاق سراحه.
وكان المعتقلون السابقون يجدون صعوبة في النوم، إذ كانت ذكرياتهم تعود لتطاردهم. وقال موسى بحزم: “هناك جرائم لا تُغتفر. إن زوجتي هي من تدفعني إلى التسامح، تقول لي إن هنا لديهم أطفال”.
وبعد تفريغ السجون وإطلاق سراح نزلائها الناجين، نشر صحفيون استقصائيون تقارير كشفوا فيها ما ورد في الملفات المخزنة هناك، وقاموا بتحديد العائلات التي كان فيها مخبرون والتفاصيل التي أبلغوا عنها والتي وصلت إلى تقارير الأجهزة الاستخباراتية.
وقد أذكت وسائل التواصل الاجتماعي شعورًا متزايدًا بانعدام الأمن بين الموالين السابقين لنظام الأسد، بمن فيهم المخبرون، من خلال التدفق المستمر من التقارير عن الهجمات الانتقامية ضد الأشخاص المرتبطين فعليًا أو يُعتقد ارتباطهم بالنظام السابق.
وبقي إخوة البرّبري في المنزل عندما لا يكونون مشغولين بالعمل. وقال رياض، شقيق حمدي، إن مجموعة من المقاتلين السابقين بدأوا في الطرق على الباب عندما كانوا يحتاجون المساعدة في المهام البسيطة. وأنجز حمدي تلك المهام بصمت، دون أن ينظر إلى الرجال في عيونهم. وقد أطلقوا عليه لقب “الكلب الصغير”.
وفي منزل عائلة البرّبري، توقف الأطفال عن السؤال متى سيعود عمهم وسيم. وبدلاً من ذلك، وكانوا يخبرون حمدي أنهم يريدون منه أن يرحل، ليحافظ على حياته.
وبحلول شهر مارس/ آذار، كان الشاب قد استسلم عن محاربة الاتهامات الموجهة إلى والده، لكنه لم يحمل له أي ضغينة، حسب قوله. أما الآن فهو يطالب الناس فقط بأن يصدقوا أنه مختلف، وقال: “أخبرهم: انظروا، هو هرب. عليكم التعامل معه، ليس معي”. وأضاف: “لكن إذا فقد شخص ما أخًا أو أبًا، أخشى أن أكون أنا من يؤذيه، فيشعرون أنهم فعلوا شيئًا ما”.
ولم يصعد حمدي إلى سطح منزله منذ الحادثة الخطيرة التي كاد أن يفقد حياته فيها، ويقول إنه يرغب الآن في مغادرة سوريا.
وقال: “لم يكن لدينا خيار سوى أن نكون مع النظام. أنا لا أدافع عن والدي، إنما أحاول أن أكون صادقًا”.
المصدر: واشنطن بوست