قالت الولايات المتحدة إنها حصلت على معلومات استخباراتية حديثة تشير إلى استعداد “إسرائيل” لضرب المنشآت النووية الإيرانية، وفق ما نقلته شبكة “سي إن إن” عن مسؤولين أمريكيين، مما اعتُبر تصعيدًا كبيرًا ومفاجئًا في السياسة الإسرائيلية قد تؤدي إلى توتير الأجواء في الشرق الأوسط واندلاع صراع إقليمي واسع النطاق.
تأتي تلك المعلومات في وقت تسعى فيه إدارة الرئيس دونالد ترامب إلى التوصل إلى اتفاق جديد مع طهران بشأن برنامجها النووي، حيث عقدت عدة جولات بين الطرفين، ما بين مسقط وروما على مدار الأسابيع الماضية، فيما أشار المسؤولون الأمريكيون للشبكة الإخبارية أنه لم يتضح بعد إذا ما كان قادة “إسرائيل” قد اتخذوا قرارا نهائيا بشأن الضربة، منوهين إلى ارتفاع احتمالية شن تل أبيب هجوم على منشآت نووية إيرانية خلال الأشهر الماضية.
في أكتوبر/تشرين الأول الماضي كشفت مصادر إسرائيلية إلى أن قرار ضرب منشآت إيران اتُّخذ، لكن حجم الضربة وموعدها لم يتقررا بعد، حسبما نقلت صحيفة «يديعوت أحرونوت»، الذي أوضحت أن الشيء الوحيد الذي يمنع ذلك هو اتفاق لوقف إطلاق النار في الشمال والجنوب، وفقاً لشروط مواتية لإسرائيل، وهو احتمال ضئيل للغاية.
سي إن إن نقلا عن مسؤولين أميركيين:
⭕ إسرائيل تستعد لضربة محتملة على المنشآت النووية الإيرانية
⭕ لم يتضح بعد إن اتخذت إسرائيل قرارا نهائيا حول ضرب منشآت إيران النووية
⭕ احتمال شنّ إسرائيل هجوما على منشأة نووية إيرانية ازداد بشكل ملحوظ مؤخرا
⭕ اعتراض اتصالات وتحركات… pic.twitter.com/FiW0EbePy2
— ا لـحـدث (@AlHadath) May 20, 2025
فيما توعد وزير الدفاع الإسرائيلي – آنذاك- يوآف غالانت أن الضربة ستكون مفاجئة ودقيقة وفعالة، حتى لو أدى ذلك إلى حرب إقليمية بالفعل، وأخرج الأمر عن سياق ردود الفعل، وردود الفعل عليها، وفق ما ذكرت الصحيفة العبرية.
التصريحات الصادرة عن مسؤولين أمريكيين تحذر من أن ضرب “إسرائيل” وبشكل فردي لمنشآت نووية إيرانية سيمثل قطيعة صارخة مع الرئيس ترامب إذا حدث ذلك، فهل يغامر نتنياهو بعلاقته بواشنطن؟ وهل تستطيع تل أبيب الإقدام على تلك الخطوة دون ضوء أخضر أمريكي في ظل فقدانها للقدرة العسكرية والإمكانيات اللوجستية على القيام بها منفردة؟ ليبقى السؤال الأهم: ما دوافع الحكومة الإسرائيلية من هذا التصعيد، حتى وإن لم يفارق حاجز التلويح الكلامي العنتري؟
مؤشرات تذهب باتجاه التصعيد
تعززت المخاوف الاستخباراتية التي تلقتها واشنطن -وفق سي إن إن- عبر رسائل خاصة وعامة من مسؤولين إسرائيليين، بجانب اعتراض اتصالات ومراقبة تحركات عسكرية إسرائيلية، شملت نقل ذخائر ومناورات جوية، مما يُرجح استعدادات لهجوم محتمل.
المعلومات تشير إلى أن إرجاء تل أبيب ضرب إيران مرهون بمصير جولات التفاوض بين طهران وواشنطن، فإذا ما توصلت إلى اتفاق لا يُرضي الجانب الإسرائيلي ولا يلبي طموحاتها فستكون الضربة آتية لا محالة، حتى لو كانت بشكل فردي.
آخرون رجحوا أن يكون الدافع الرئيسي وراء استهداف “إسرائيل” للمنشآت النووية الإيرانية إفشال الاتفاق مع الولايات المتحدة، والحيلولة دون توافق يذهب باتجاه الإبقاء على البرنامج الإيراني دون نسفه من جذوره عبر التخلص من كل اليورانيوم الذي بحوزة الإيرانيين، كما يُمني الإسرائيليون أنفسهم، خاصة بعد الأجواء الإيجابية التي خيمت على جولتي المفاوضات الأوليتين قبل أن تدخل الأمور نحو مسار من التعقيد لاحقا.
واعترف مسؤولون أمريكيون بوجود خلاف قوي وعميق داخل الحكومة الأمريكية بشأن احتمالية قيام تل أبيب بتوجيه ضربة لإيران، إلا أن أحدهم أشار إلى أنه من غير المرجح أن تساعد واشنطن إسرائيل في شن هجمات على مواقع نووية إيرانية حاليا رغم أن موقف إسرائيل كان ثابتا دوما بأن الخيار العسكري هو السبيل لوقف برنامج إيران النووي.
هل تفعلها “إسرائيل” وحدها؟
ضربة كالتي تلوح بها “إسرائيل” تستهدف المنشآت النووية الإيرانية المتجذرة في أعماق الأرض، تحتاج إلى إمكانيات وقدرات عسكرية استثنائية، قنابل ذات قدرة تدميرية هائلة، وصواريخ دقيقة لتوجيهها صوب الهدف المنشود، هذا بخلاف الاستعداد الاستخباراتي الدقيق.
ومثل تلك القدرات لا تتوفر حاليًا للجانب الإسرائيلي الذي يعتمد في المقام الأول على الإمدادات الأمريكية، وعليه فإنه لا يمكن بشكل منفرد أن يغامر بتلك الضربة دون الحصول على مباركة الولايات المتحدة وضوء أخضر منها، بصرف النظر عن مشاركة الأمريكان في تلك العملية بشكل مباشر، هذا بخلاف افتقاده للقدرات المطلوبة التي تهيئه للتعاطي مع تداعيات مثل هذه الخطوة على الأمن الإقليمي واحتمالات دخول المنطقة بأسرها في حرب مفتوحة سيكون الكيان فيها والمصالح الأمريكية معًا في مرمى الاستهداف.
وتتحرك دولة الكيان من وراء تلك العنترية مدفوعة بالاستثمار في حالة الضعف التي عليها إيران في الوقت الحالي، فالجمهورية ذات التمدد الإقليمي المٌقلق خلال العشرية الأخيرة تعاني اليوم أوهن حالاتها منذ عام 1979، وذلك بعد الضربات التي تلقتها في الداخل وتقليم أظافرها في الخارج، خاصة في لبنان وسوريا، حيث يرى الإسرائيليون أن الوقت الحالي قد يكون مثاليًا لتوجيه تلك الضربة.
لكن على الجانب الأخر فإن الخسائر التي تعرض لها جيش الاحتلال طيلة أكثر من 19 شهرًا من الحرب في غزة قوضت إمكانياته وقدراته، تسليحيًا وبشريًا، وأصابته بنزيف حاد في العديد من القطاعات والإدارات التي تجعله في وضعية صعبة حال نشوب حرب مفتوحة مع طهران.
ورغم التحذير الذي نقله مسؤولون أمريكيون بأن ضرب أهداف نووية إيرانية من شأنه أن يُحدث قطيعة صارخة مع ترامب، إلا أنه وبحسب مصدر أمريكي أخر فإن واشنطن لن تتخلى أبدًا عن تل أبيب، وستساعدها في حال حدوث ما سماه استفزازا كبيرا من جانب طهران.
ماذا يريد الإسرائيليون من هذا التصعيد؟
وفق ما سبق فإن قيام تل أبيب بمثل هذه الضربة بشكل فردي مسألة مستبعدة بشكل كبير، وهو ما يطرح التساؤل حول الدوافع والأهداف التي يسعى الإسرائيليون لتحقيقها من وراء تلك التصريحات، والتي تنحصر في هدفين رئيسيين:
الأول: رغبة نتنياهو وحكومته في لفت أنظار إدارة ترامب، حتى لو عبر السير عكس الاتجاه، وإعادة فتح قنوات الاتصال مجددًا، وكسر حالة الجليد في العلاقات التي تعاظمت في الفترة الأخيرة، ولرئيس الوزراء الإسرائيلي تاريخ كبير في التفنن في إجادة تلك استراتيجية القفز للأمام، وطالما استخدمها أكثر من مرة خلال العامين الماضيين تحديدًا… هذا إذا ما وضعنا في الاعتبار صحة تلك المعلومات الاستخباراتية التي كشفت عنها “سي إن إن”.
وكان موقع “أكسيوس” الأمريكي قد نقل عن مسؤولين بالبيت الأبيض أنّ ترامب يشعر بالإحباط بسبب استمرار حرب غزة، وأنه طلب من مساعديه أن يخبروا نتنياهو أنه يريد منه إنهاء الأمر، إذ أن مواصلة المعركة يعيق خططه للمنطقة خاصة بعد المكاسب التي حققها خلال رحلته الخليجية الأخيرة.
شرط التخصيب الصفري يهدد المفاوضات النووية مع #إيران ويقرب شبح الحرب.#ترجمات_الخليج_الجديد pic.twitter.com/LZd9M9KQaW
— الخليج الجديد (@thenewkhalij) May 21, 2025
ويرى المسؤولون الأمريكيون أن ترامب يرى فرصة حقيقية للسلام والازدهار في المنطقة لكن الحرب في غزة هي آخر بؤرة ساخنة ويريد أن تنتهي، مضيفًا أن القتال وبشكله الحالي يزيد من تشويه سمعة أمريكا وتصاعد الانتقادات الدولية، كما أنه يشتت الانتباه عن أمور أخرى يريد الرئيس القيام بها
وفي السياق ذاته يغازل نتنياهو بمثل هذه المواقف اليمين المتطرف، ويحاول الإبقاء عليه داخل حظيرة الائتلاف الحكومي في ظل التلويح بورقة الانسحاب بين الحين والأخر، تحسبًا لأي اتفاق قد يجد رئيس الوزراء نفسه مُجبرًا عليه بشأن إنهاء الحرب في غزة وإبرام صفقة تبادل، لاسيما بعد الموجة الأوروبية التصعيدية والتي توسع دائرة العزلة الدولية للكيان، والضغوط التي تفرضها إدارة ترامب في هذا المسار.
الثاني: الضغط على طهران لإبداء المزيد من المرونة على طاولة المفاوضات مع الجانب الأمريكي، ودفعها لتقديم تنازلات إضافية والتخلي نسبيًا عن شروطها وخطوطها الحمراء المتعلقة باليورانيوم المخصب، وذلك عبر توجيه تهديدات غير مباشرة باستهداف منشآتها النووية، عن طريق تل أبيب التي تجيد هي الأخرى القيام بدورها كدولة وظيفية تتبادل الأدوار مع واشنطن لخدمة الأجندة الأمريكية في الشرق الأوسط.
اتساع الهوّة بين ترامب ونتنياهو
هناك قراءة أخرى تذهب باتجاه انعكاسات مثل هذا التوجه الإسرائيلي الأحادي على تعميق الهوّة بين ترامب ونتنياهو، فالأخير الذي يتعامل بمنطق الفيل في حديقة الخزف، مٌشعلًا كافة الجبهات للحفاظ على كرسيه وحظوظه السياسية مستقبلا، بات عبئًا ثقيلا على الرئيس الأمريكي، وحلقة مترهلة في عجلة التنمية والرخاء والنهوض التي يزعم قيادتها للوصول بشعاره “أمريكا أولا” إلى واقع عملي ومنهج حياة.
في حملته الانتخابية أواخر العام الماضي أطلق ترامب قائمة مطولة من الوعود التي حاول من خلالها تصدير صورة مشرقة لولايته الجديدة، فتعهد بوقف الحرب في غزة، وإنهاء المعركة بين روسيا وأوكرانيا، ووضع حد جذري للأزمة مع إيران، وإنعاش خزائن بلاده بحركة تجارة عالمية تصب في صالح الاقتصاد الأمريكي، غير أنه وبعد خمسة أشهر من ولايته لم ينجح في تحقيق أي من تلك الوعود، إذ كانت إدارة حكومة الاحتلال العقبة الأبرز أمام هذا المسار.
ومن هنا كان على ترامب الخروج تدريجيًا من تلك العباءة والتحرك بشكل منفرد في الملفات الحساسة التي تهدد سمعة أمريكا وتقوض ثقل وصورة الإدارة الأمريكية، فارتأى الانتقال من استراتيجية الشراكات الثابتة التي في الغالب تضع مقاربات الاحتلال في المقدمة، إلى الاستراتيجية البرغماتية العملية التي تنتصر للمصالح الأمريكية أولا بصرف النظر عن أي اعتبارات أو حساسيات إسرائيلية.
وهو ما يمكن الوقوف عليه من خلال التحركات الأمريكية المستقلة نسبيًا عن مسار حكومة نتنياهو إزاء الملفات الملتهبة في الشرق الأوسط، أبرزها الملف الإيراني، حيث فوجئ الإسرائيليون بانطلاق مباحثات غير مباشرة بين الإدارة الأمريكية وطهران، بوساطة عُمانية، بمعزل كامل عن الحضور الإسرائيلي.
كذلك ملف غزة، فلأول مرة في التاريخ تٌجري الإدارة الأمريكية مباحثات مباشرة مع قيادات حركة حماس على طاولة واحدة وجها لوجه، في محاولة للتوصل إلى اتفاق تهدئة يُفضي بحلحلة الأزمة في القطاع، وأخيرًا الملف اليمني مع الحوثيين، فرغم تصنيفها كمنظمة إرهابية إلا أن الأمريكان لم يجدوا حرجًا على الإطلاق في التفاوض مع الحوثي بشكل فردي، والتوصل إلى اتفاق أولي بشأن التهدئة، يتضمن وقف استهداف السفن الأمريكية في البحر الأحمر مقابل وقف القصف الأمريكي المتكرر ضد اليمن.
🔹 حذّر مسؤولون أمريكيون من أن إقدام #إسرائيل على ضرب منشآت نووية في #إيران سيمثل "قطيعة صارخة" مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
🔹 وشدد المسؤولون في حديث لشبكة "سي إن إن" الأمريكية على أن "ضرب إسرائيل لمنشآت نووية إيرانية قد ينذر بصراع إقليمي أوسع في الشرق الأوسط".
🔹 وكانت… pic.twitter.com/UN43ravIcC
— Erem News – إرم نيوز (@EremNews) May 20, 2025
ومن ثم فالحديث عن طلاق بين واشنطن وتل أبيب، تتخلى به الأولى عن الثانية تحت أي سبب أو دوافع، حديث أقرب للأحلام الوهمية، إذ يفتقد في جذوره للموضوعية بشتى مساراتها، فالعلاقات بينهما استثنائية، ذات بنية مختلفة، قائمة على مصالح متلاحمة، وأهداف تتجاوز -بسنوات ضوئية- النظرة السياسة والاقتصادية والأمنية المحدودة.
وعليه فإن الخلاف الحالي أقرب لتباين في الرؤى بشأن سبل تحقيق الأهداف وليس الأهداف ذاتها، فهي أزمة ثقة وتآكل نسبي في جدران المصداقية بين شخصيتين نرجسيتين، كل منهما يحاول توظيف المشهد للخروج بأكبر قدر من المكاسب الخاصة من وجهة نظره، يعزز مكانته ويكتب بها سطرًا جديدًا في سجلات الخالدين.
في الأخير.. فإن “إسرائيل” لا يمكنها بأي حال من الأحوال شنّ هجمات ضد المنشآت النووية الإيرانية بشكل فردي، وليس في مقدورها تحمل تبعات مثل هذا التصعيد، وفي السياق ذاته لا يمكنها تجاوز الخطوط الحمراء مع طهران بمعزل عن الجانب الأمريكي، وعليه فإن نتنياهو لا يجرؤ أن يبُادر من تلقاء نفسه بالتفكير في هذه الخطوة دون الحصول على إذن وضوء أخضر أمريكي، بصرف النظر عن طبيعة هذا الضوء ومصدره.