أطلق جيش الاحتلال الإسرائيلي المرحلة “التمهيدية” من عملية عسكرية واسعة النطاق في قطاع غزة تحت مسمى “عربات جدعون“، في خطوة وصفها بأنها الأكثر “فعالية” لتحقيق ما يسميه “النصر المطلق”، وهو الهدف الذي يسعى إليه رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، منذ ما يزيد عن تسعة عشر شهرًا من حرب الإبادة المتواصلة ضد الشعب الفلسطيني.
عشية انطلاق العملية، عنونت صحيفة “إسرائيل هيوم” العبرية صفحتها الرئيسية بالقول: “لا انسحاب من غزة قبل القضاء على حماس وعودة الرهائن”، مشيرة إلى أن الحملة المرتقبة تختلف جذريًّا عن سابقاتها، من حيث النهج والنتائج المستهدفة، إذ تقوم على فرض وجود عسكري طويل الأمد داخل القطاع، إلى حين تفكيك بنية حركة “حماس” السياسية والعسكرية.
وعلى الرغم من أن هذه العملية تقدِّم نفسها كخطوة ميدانية محضة تستهدف ما تبقَّى من قدرات المقاومة وبنيتها التحتية، فإن جوهرها يتجاوز الأبعاد العسكرية التكتيكية، ليتموضع ضمن الرؤية الاستراتيجية الأوسع التي تبنَّاها اليمين الصهيوني المتطرف، تحت عنوان “خطة الحسم”، وهي العقيدة الصهيونية التي ترى في الحسم العسكري وسيلة نهائية لإخضاع الشعب الفلسطيني وكسر إرادته.
من التردد إلى “عربات جدعون”
مع تسلُّم إيال زامير مهامه بصفته رئيس جديد لأركان جيش الاحتلال الإسرائيلي، سارع إلى إنجاز خطة لتحديث البنية القيادية في هيئة الأركان، وإعادة تشكيل صفوف الضباط الرئيسيين.
ترافق هذا التحول مع إطلاق تقييم عملياتي شامل للعمليات العسكرية السابقة في قطاع غزة، ركز على رصد مكامن الفشل، والثغرات التي منعت الجيش من تحقيق “نتائج حاسمة” في جولات القتال الماضية، في مقابل خطط المقاومة الفلسطينية، سواءٌ على الصعيد الدفاعي أو الهجومي.
وفي ظل استئناف حرب الإبادة، بلوَر جيش الاحتلال أربعة سيناريوهات رئيسية لمواصلة الحرب على غزة، جرى تداولها في النقاشات الداخلية بين المؤسسة الأمنية والقيادة السياسية، وتحديدًا في إطار المجلس الوزاري المصغر (الكابينت)، حسب ما كشفته صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية.
يتمثل السيناريو الأول بالتوصل إلى اتفاق شامل لوقف إطلاق النار، يتضمن الإفراج عن جميع الأسرى مقابل انسحاب الجيش الإسرائيلي الكامل من القطاع، وضمانات دولية بألَّا يُستأنَف القتال.

وقد عُدَّ هذا السيناريو أقرب إلى شروط حركة “حماس”، ورُفض من قِبل القيادات الأمنية والسياسية الإسرائيلية التي عدَّته انتصارًا معنويًّا للحركة، وخطرًا استراتيجيًّا من شأنه تشجيع تكرار نموذج 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، لا سيما فيما يتعلق بتوظيف “الاختطاف” كأداة ضغط سياسي وأمني في المستقبل.
يقوم السيناريو الثاني على عقد صفقات تبادل متدرجة على مراحل، تتضمن وقفًا مؤقتًا لإطلاق النار يمتد لأسابيع أو أشهر، يُستغل في خلاله الوقت لإعادة رسم ملامح “اليوم التالي لحماس”، كما تسميه المؤسسة الأمنية.
ويُعَدُّ هذا السيناريو مفضلًا لدى بعض دوائر صنع القرار في “إسرائيل”، غير أن قيادة المقاومة، حسب التقديرات، ترفضه بشدة، وتصر على إنهاء كامل للحرب وانسحاب الجيش من القطاع كشرط لأية صفقة.
وأما السيناريو الثالث فيقوم على تعبئة واسعة لقوات الاحتياط، وتنفيذ هجوم بري شامل بمشاركة عدة فرق عسكرية، بهدف السيطرة على أغلب مناطق القطاع، وتطويق التجمعات السكانية، وتدمير البنية التحتية للمقاومة، وعلى رأسها شبكات الأنفاق.
ومع أن هذا الخيار يحظى بدعم واضح من وزراء “الصهيونية الدينية” ضمن حكومة نتنياهو، إلا أن الجيش الإسرائيلي كان ينظر إليه بتحفظ، بسبب كلفته البشرية العالية، واحتمالات تعريض الأسرى للخطر، إلى جانب التبعات الدولية والقانونية المترتبة على تولي “إسرائيل” إدارة الشؤون المدنية في قطاع غزة.
وأما السيناريو الأخير، والذي كان الأكثر واقعية في نظر المؤسسة الأمنية، تمثل بالتصعيد التدريجي والمركَّز، عبر عمليات قضم محدودة ومستمرة، تُرفَق بتقييد إدخال المساعدات إلى القطاع، وفرض رقابة صارمة عليها، وذلك بهدف استنزاف المقاومة تدريجيًّا، وخلق ضغط شعبي داخلي على “حماس” من أجل القبول بصفقة تبادل أو تقديم تنازلات ميدانية.
في هذا السياق، أصر الجيش الإسرائيلي على إبقاء مسؤولية توزيع المساعدات في يد منظمات دولية أو أطراف خارجية، لتجنُّب استنزاف قواته في عمليات إدارة مدنية أو خدمية، ولتقليل الاحتكاك المباشر مع السكان.
وأظهرت التسريبات من داخل اجتماعات الكابينت جوًّا مشحونًا بسبب التباينات الحادة بين قادة الصهيونية الدينية الذين يطالِبون بتولي الاحتلال المسؤولية المباشرة عن إدارة غزة، بما يشمل توزيع المساعدات، وإعادة فرض حكم عسكري صريح، من جهة، والمؤسسة الأمنية التي تُحذر من هذا السيناريو وتُفضل مقاربات أكثر تدرجًا وأقل تكلفة من جهة أخرى.
في نهاية المطاف، حسم الكابينت الإسرائيلي قراره، وأقر في مطلع أيار/مايو 2025 إطلاق خطة “عربات جدعون”، التي تُمثِّل مزيجًا من سيناريوهَي الحسم والتصعيد التدريجي، بهدف تحقيق “حسم عسكري وسياسي” في غزة، بما يتماهى مع طروحات اليمين الصهيوني، ويخدم هدف نتنياهو في تحقيق “نصر معنوي” يعوِّض إخفاقات الحرب الممتدة.
على طريق الحسم
في 18 مايو/أيار 2025، أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي بدء مرحلة جديدة من حربه على قطاع غزة، عبر إطلاق العملية العسكرية التي تحمل اسم “عربات جدعون“، وتشمل تنفيذ هجمات برية في شمالي القطاع وجنوبيه بإسناد من سلاح الجو. جاء هذا الإعلان بعد إصدار الحكومة الإسرائيلية أوامر استدعاء لعشرات الآلاف من جنود الاحتياط، في مؤشر على الاستعداد لحرب واسعة ومعقَّدة.
وحسب “يديعوت أحرونوت”، تتضمن العملية ثلاث مراحل متتالية؛ بدأ أولها فعليًّا من خلال ضربات جوية مكثَّفة واقتحامات ميدانية محدودة في مناطق مختارة. تتبعها مرحلة ثانية، وتشمل توسيع العمل البري بالتوازي مع استمرار الضربات الجوية، ونقل أعداد كبيرة من السكان نحو “ملاجئ آمنة” في رفح، تحت ما يُسمى بخطة “الإخلاء الإنساني”. وأما المرحلة الثالثة، فتُتوَّج باقتحام بري واسع يهدف إلى احتلال تدريجي لأجزاء كبيرة من قطاع غزة، وترسيخ وجود عسكري طويل الأمد يسمح بتشكيل واقع جديد على الأرض.
وعلى الرغم مما يقدِّمه الخطاب الرسمي من شعارات حول “تحرير المختطفين” و”القضاء على حماس”، فإن الأهداف الحقيقية للعملية تتجاوز ذلك بكثير، وتتمحور حول فرض سيطرة عسكرية شاملة تُتيح لجيش الاحتلال إدارة حركة السكان في غزة عبر إنشاء مناطق عازلة أشبه بـ”الغيتوهات”، تقيِّد حركةَ المدنيين وتَمنح القواتِ الإسرائيليةَ حريةَ حركةٍ ميدانيةٍ في بقية أرجاء القطاع.
تسعى الخطة إلى خلق بنية هجينة من الإدارة العسكرية والتمويه المدني، عبر شركات ومنظمات إنسانية موالية، في تكرار لنموذج “الإدارة الأمنية” المطبَّق في الضفة الغربية.
كما تهدف العملية إلى إعادة ترسيم الخريطة السكانية للقطاع عبر تهجير منظم إلى الجنوب، ولا سيما إلى ما بعد محور “موراغ”، حيث تخطط “إسرائيل” إلى إنشاء منطقة إنسانية أولية تستوعب نحو 100,000 نازح، توسَّع تدريجيًّا.
تستهدف العمليةُ أيضًا تفكيك سلطة حركة “حماس”، وتدمير بنيتها التحتية التنظيمية والعسكرية، دون تقديم بديل وطني، بل بفرض فراغ أمني تتحكم به منظومة الاحتلال. كما تتضمن تصورًا لإدارة المساعدات الإنسانية ضمن خطة خاضعة بالكامل للسيطرة الإسرائيلية، بالتنسيق مع شركات أمريكية ومنظمات دولية مختارة، وفق شروط أمنية مشدَّدة، بحيث لا يُسمَح سوى لممثِّل واحد عن كل عائلة بالحصول على سلة غذائية أسبوعية تزن 70 كغم، بعد اجتيازه للفحص الأمني. وبهذا تتحول المساعدات إلى أداة إضافية لإعادة تشكيل التوزيع السكاني وهندسة المجتمع الفلسطيني قسرًا.
لا تقتصر العملية على بُعدها العسكري، بل تَحمِل اسمًا مستمدًّا من أسطورة دينية وتاريخية صهيونية. فـ”عربات جدعون” تعني بالعبرية “ميركافوت جدعون”، وتحمل دلالات توراتية تشير إلى شخصية جدعون التي وردت في سفر القضاة كمنقذ لبني إسرائيل من المديانيين. وفق الرواية التوراتية، قاد جدعون ثلاثمئة مقاتل فقط، وهزم جيشًا متطورًا وكبيرًا باستخدام خطة عسكرية ذكية وأدوات بسيطة، منها العربات.
كما استخدمت “إسرائيل” الاسم ذاته (“عملية جدعون“) في نكبة العام 1948 في عملية تهدف إلى احتلال منطقة بيسان وطرد سكانها، ما يوضح أن التسمية ليست اعتباطية، بل تستبطن نية استعمارية مبيَّتة لإعادة إنتاج النكبة من جديد، هذه المرة في غزة.
تسعى الخطة إلى خلق بنية هجينة من الإدارة العسكرية والتمويه المدني، عبر شركات ومنظمات إنسانية موالية أو خاضعة لشروط أمنية، في تكرار لنموذج “الإدارة الأمنية” المطبَّق في الضفة الغربية.
إن خطورة “عربات جدعون” لا تكمن فقط في تكلفتها البشرية على المدنيين، بل في كونها مشروعًا أمنيًّا سياسيًّا أيديولوجيًّا يسعى إلى تفكيك هوية الشعب الفلسطيني، وإعادة إنتاج مفاهيم السيطرة والشرعية عبر مزيج من التفوق العسكري والأسطورة الدينية، في تحدٍّ سافرٍ للقانون الدولي ومبادئ العدالة والكرامة الإنسانية.
من الإبادة إلى التصفية السياسية
في ما يتجاوز الاعتبارات العملياتية والتسميات ذات الطابع التوراتي، تُعدُّ العملية العسكرية المسماة “عربات جدعون” بمثابة الخطوة الختامية التي تهدف إلى تدمير ما تبقَّى من مظاهر الحياة في قطاع غزة، وترسيخ ما بات يُعرف بـ”نموذج رفح” بوصفه صيغةً شاملةً لمستقبل القطاع بأسره.
فمدينة رفح، التي مُسحت بشكل شبه كامل من الوجود، تحوَّلت إلى نموذج للمناطق العازلة الخالية من السكان، بعد أن تعرضت لتدمير منهجي غير مسبوق، وهو النموذج الذي تسعى “إسرائيل” إلى تكراره شمالًا.
هذا التدمير الذي تفاخر به بنيامين نتنياهو بوصفه جزءًا أصيلًا من استراتيجية الحرب، وأعاده وزير ماليته المتطرف بتسلئيل سموتريتش بوصفه “ضرورة وجودية”، ليس تدميرًا عشوائيًّا، بل خطة مقصودة تهدف إلى فصل الإنسان الفلسطيني عن أرضه، وتحويل غزة إلى بيئة غير صالحة للحياة، لا فيزيائيًّا ولا ديموغرافيًّا، تمهيدًا لإخراجها من معادلة الصراع.

بهذا المعنى، ليست “عربات جدعون” سوى أداة تنفيذية لخطة الحسم الصهيونية التي طالما روَّج لها سموتريتش، والتي تقوم على إنكار الوجود الفلسطيني من حيث المبدأ، والسعي إلى تصفيته عبر مزيج من القوة العسكرية والضغط السكاني والنفي السياسي والرمزي.
يقدِّم سموتريتش خطته كحلٍّ “واقعي واستراتيجي”، بزعم أنها تتجاوز كل الحلول المقترحة التي اكتفت بإدارة الصراع بدل حسمه. وفي جوهرها، ترتكز هذه الخطة على ثلاث مسارات: إما القبول بالهيمنة الصهيونية والعيش بشروطها، وإما الهجرة المنظَّمة والمحفَّز لها إلى الخارج، أو الخضوع للحسم العسكري الكامل.
وهو يروِّج لهجرة جماعية طوعية للفلسطينيين، عبر ما يسميه بـ”ممرات آمنة وحديثة”، تقدِّم لهم فرصةً لحياة جديدة في الدول الغربية أو العربية، في إعادة إحياء صريحة لفكرة “الترانسفير”، لكن بصيغة معولمة ومغلَّفة بدعاية “الرحيل الاختياري”.
وفي المقابل، يُصنَّف كل من يرفض هذه البدائل في خانة “العدو الذي يجب سحقه”، ويُمنَح جيش الاحتلال تفويضًا مفتوحًا باستخدام أقصى درجات العنف لتنفيذ المهمة.
ولا تقف هذه الرؤية عند حدود التنظير، بل تنسجم انسجامًا كاملًا مع السلوك العسكري الإسرائيلي على الأرض، والذي يستهدِف المدنيين والبنية التحتية والهوية الجمعية للشعب الفلسطيني، بوصفهم عناصر يجب تصفيتها أو تهجيرها أو تدجينها.
ليس ما يجري في غزة اليوم فقط تكرارًا لأدوات الاحتلال التقليدية، بل إنه إعادة صياغة للنكبة بأدوات جديدة، وتُشكِّل عملية “عربات جدعون” إعلانًا ميدانيًّا واضحًا لتحوُّل “إسرائيل” من نمط “الإدارة عن بُعد” إلى نمط الاحتلال المباشر والهيمنة المكانية، بما يخدم تصفية القضية الفلسطينية من جذورها.
وفي المجمل، فإن المشهد اليوم يكشف بوضوح أن ما تطبقه “إسرائيل” في غزة مشروع صهيوني مكتمل الأركان لتصفية الوجود الفلسطيني، لا مجرد حملة عسكرية أو جولة قتال مؤقتة، فخطة الحسم، التي تسير على قضبان “عربات جدعون”، ليست سوى تتويج لنهج اليمين الصهيوني الهادف إلى مغادرة المعالجات التقليدية عبر أدوات “إدارة الصراع” والانتقال إلى الإجهاز الكامل على مقومات الوجود الفلسطيني ووضع حد للصراع.
وهكذا، فإن الحرب القائمة ليست على الإنسان فحسب، بل على الذاكرة والهوية والمكان، وعلى الإمكانية نفسها بأن تبقَى غزة رافعةً للمشروع الوطني الفلسطيني. وما تسعى إليه “إسرائيل” اليوم هو حسم الصراع سياسيًّا وسكانيًّا مرةً واحدةً وللأبد، عبر تدمير غزة بوصفها فكرة، قبل أن تُدمَّر بوصفها جغرافيا.