منذ لحظة ولادة دولتي الهند وباكستان من رحم الاستعمار البريطاني، والعلاقة بينهما لم تخرج من دائرة الشك والتوجس، لتنتقل سريعًا إلى حروب دامية وصراعات جيوسياسية مفتوحة، ظلت كشمير عنوانها الأبرز، لكنها لم تكن وحدها. فالتاريخ المشترك بين البلدين تحكمه خطوط تقسيم لم تُرسم على خرائط الجغرافيا فحسب، بل على الهويات والانتماءات والولاءات، في عملية تفتيت عميقة للقارة الهندية، حافظت على الكتلة الهندوسية موحدة، فيما جزّأت الكتلة المسلمة إلى كيانات سياسية متباعدة ومتوترة.
نغوص في سلسلة من المقالات في جذور الصراع بين المسلمين والهندوس في شبه القارة الهندية، ويرصد كيف تحوّل التنوّع الديني والثقافي إلى صدام دموي بفعل تدخلات استعمارية وسياسات تفريق ممنهجة، ويعيد قراءة الصراعات الحديثة بمنطق الجذور، لا بعين الأحداث المعزولة.
كما يستعرض التحولات الإقليمية والدولية التي ساهمت في تأجيج الصراع أو تطويقه، من دعم إسرائيل للهند، إلى الاصطفاف الصيني خلف باكستان، وصولًا إلى التغيرات المناخية التي حوّلت المياه إلى سلاح استراتيجي بيد الطرفين. ويتوقف عند معضلة كشمير بوصفها بؤرة تفجر دائم، حيث تتقاطع العوامل التاريخية والدينية والنووية والمسلحة في مساحة جغرافية ضيقة، ما يجعل أي تصعيد فيها تهديدًا يتجاوز حدود الإقليم.
جذور الصراع الديني
مع وجود عشرات المجموعات العرقية، ونحو 15 لغة شائعة، و8 ديانات تُمارس على نطاق واسع، يُنظر إلى الهند على أنها بلد متنوع الأعراق والثقافات. ومع ذلك، تحوَّل هذا التنوع في كثير من الأحيان إلى صراعات طائفية امتدت لسنوات عديدة، متأثرًا بعوامل سياسية واجتماعية ودينية مختلفة.
لكن، هل تساءلت يومًا عن تاريخ الصراعات الدينية المستمرة بين الهندوس والمسلمين، التي كانت سمة مميزة لتاريخ الهند؟ وكيف تطوَّرت العلاقة بين المجتمعين على مر القرون، حتى أثَّرت على شكل وحجم شبه القارة الهندية حتى اليوم؟
في هذه السطور، نستعرض الأحداث والتحوّلات المهمة التي شكّلت ديناميكيات العلاقة المعقّدة، التي اتسمت بفترات من التعاون والصراع بين هذين المجتمعين، وامتدّت لقرون طويلة بلغت ذروتها الطائفية تحت وطأة الحكم البريطاني، وانتهت بتقسيم شبه القارة الهندية إلى دول على أسس دينية، ما زالت تلقي بظلالها على المجتمعات المسلمة التي تواجه تحدّيات مستمرة في ظل تصاعد القومية الهندوسية.
تعود أصول الصراع بين المسلمين والهندوس إلى القرنين السابع والثامن الميلاديين، عندما دخل الإسلام لأول مرة إلى ممالك الهند بعد ظهوره بفترة وجيزة في شبه الجزيرة العربية. في ذلك الوقت، أولًا عن طريق التبادلات التجارية والثقافية عبر المحيط الهندي، ثم عبر الإمبراطوريات الإسلامية المعروفة بالخلافة.
ومع تأسيس التجّار المسلمين لمراكزهم التجارية في شبه الجزيرة الهندية، وامتداد شبكات التجارة الإسلامية عبر أوراسيا، انتشر الدين معهم، ونما بسرعة في مناطق عديدة. ومع مرور الوقت، اعتنق بعض الهنود الإسلام، الأمر الذي اعتبره العديد من الهندوس تهديدًا لأسلوب حياتهم.
تاريخيًا، شهدت التفاعلات بين المسلمين والهندوس فترات من التعاون والتوفيق بين المعتقدات، وأخرى من التمييز الديني والتعصّب والعنف. وشكّلت هذه التفاعلات أنماطًا متباينة في شمال الهند وجنوبها، فبينما اتسمت العلاقات بالسلمية إلى حد كبير في جنوب الهند، وخاصة في كيرلا وتاميل نادو، حيث تعايش المجتمعان بانسجام، كان هناك تاريخ من الغزو والهيمنة في الشمال، حيث شكّل وصول الحكّام المسلمين تحوّلًا جذريًا، وجلب تأسيس الإمبراطوريات الإسلامية القوية التعاون والصراع في آنٍ واحد.
منذ القرن الثالث عشر وحتى القرن الثامن عشر، حكمت هذه القوى الإسلامية أجزاءً كبيرة من الهند. ففي أوائل القرن الثالث عشر، تأسست مملكة إسلامية تُسمّى سلطنة دلهي في الهند الحديثة، نتيجة للتوسع الإمبراطوري الإسلامي في شبه القارة الهندية، وامتدت على أجزاء واسعة من المنطقة لمدة 320 عامًا، وغطّت أجزاء من الهند وباكستان وبنغلاديش وبعض أجزاء جنوب نيبال.
في القرن السادس عشر، تأسست الإمبراطورية المغولية، التي شهدت الهند في عهدها فترة من الاستقرار والازدهار النسبيين. وعُرف المغول بتسامحهم الديني، حيث سُمح للهندوس فيها بتقلّد المناصب الحكومية والعسكرية العليا. وغالبًا ما يُذكر العصر المغولي بازدهاره الثقافي وعجائبه المعمارية، حيث شجّع الأباطرة – مثل الإمبراطور المغولي الثالث جلال الدين أكبر – سياسات شاملة، ورعوا الفنون والأدب بنشاط، مما أدّى إلى تبادل ثقافي غني، وازدهار الفن والثقافة الهندية. وأدّت هذه الفترة إلى ظهور عمارة رائعة، بما في ذلك تاج محل والحصن الأحمر (القلعة الحمراء) في دلهي القديمة.
وبينما عزّز المغول الانسجام الديني والتقدّم الثقافي، ودعموا العلماء والشعراء والفنانين الهندوس، مما سهّل تبادلًا ثقافيًا ديناميكيًا أثْرى التقاليد الإسلامية والهندوسية على حدّ سواء، لم تكن كل الأمور سلمية خلال تلك الفترة. حيث واجه بعض الحكّام المغول، وخاصّةً الإمبراطور أورنكزيب عالمكير، تحدّيات جمّة، وانتقادات لسياسات اعتُبرت غير متسامحة تجاه الهندوس، مما أدّى إلى توترات ومقاومة من المجتمعات الهندوسية، وخاصةً من جماعات مثل “راجبوت” التي حكمت القسم الأكبر من الولايات الأميرية في راجستان وسوراشترا إبّان حكم الراج البريطاني.
ومن منظور الثقافة الإسلامية، يتضمّن تاريخ العلاقات بين الهندوس والمسلمين في الهند فترات من التعايش السلمي والتعاون الثقافي، حيث انخرطت العديد من المجتمعات الإسلامية تاريخيًا في ممارسات دينية وثقافية مشتركة مع الهندوس، وكثيرًا ما تُعتبر النزاعات التي نشأت انحرافًا عن مبادئ السلام والتعايش التي تؤكد عليها التعاليم الإسلامية.
وبينما تعايش المسلمون والهندوس بسلام في أجزاء عديدة من الهند لفترة طويلة، كانت هناك صراعات اقتصادية واجتماعية وعسكرية في ذلك العصر، غالبًا ما كانت تدور حول السيطرة السياسية والأراضي أكثر من كونها خلافات دينية بحتة. ولم ينتهِ هذا الصراع مع نهاية العصور الوسطى (من القرن الخامس حتى القرن الخامس عشر الميلادي)، بل زادت الفترة الاستعمارية البريطانية خلال القرنين الثامن عشر والعشرين من تعقيد العلاقات بين الهندوس والمسلمين.
بذور التقسيم التي زرعها البريطانيون
قبل الاستعمار البريطاني، كانت شبه القارة الهندية عبارة عن خليط من الممالك الإقليمية المعروفة باسم “الولايات الأميرية”، التي يسكنها الهندوس والمسلمون والسيخ والبوذيون والمسيحيون والفرس. وكان لكل ولاية أميرية تقاليدها وخلفياتها الطائفية وقياداتها الخاصة.
ابتداءً من القرن السادس عشر، استعمرت سلسلة من القوى الأوروبية الهند بمستوطنات تجارية ساحلية، وبحلول منتصف القرن الثامن عشر، برزت شركة الهند الشرقية الإنجليزية (أصبحت فيما بعد شركة الهند الشرقية البريطانية) كقوة استعمارية رئيسية في الهند، تملك جيشًا من أوروبيين يخدم معهم بعض الهنود، يحتل البلاد، ويجبي الضرائب، ويرتكب المذابح. وكانت بمثابة سلطة ذات سيادة نيابة عن التاج البريطاني.

وعندما وصل البريطانيون إلى الهند، وجدوا السياق الممهَّد اللازم لاستراتيجيتهم “فرّق تسد”، فقد كان هناك صدع جاهز للاستغلال، وقد استغلوه بالفعل.
حكم البريطانيون بعض المقاطعات بشكل مباشر، وحكموا بشكل غير مباشر الولايات الأميرية التي ضمّت أكثر من 60 مليون نسمة في عام 1901. وفي ظل الحكم غير المباشر، ظلّت الولايات الأميرية ذات سيادة تحت سيطرة ملوك محليين يتمتعون بحكم ذاتي واسع، لكنهم قدّموا تنازلات سياسية ومالية للبريطانيين.
في القرن التاسع عشر، بدأ البريطانيون بتصنيف الهنود حسب هويتهم الدينية، وكان ذلك تبسيطًا صارخًا للمجتمعات في الهند، فقد اعتبروا الهندوس أغلبيّة، وجميع الطوائف الدينية الأخرى أقليات مهمّشة. وكان المسلمون أكبر أقلية، واعتُبر السيخ جزءًا من المجتمع الهندوسي.
لعبة “فرّق تسد” البريطانية
خلال حرب الاستقلال الهندية الأولى في شمال ووسط الهند عام 1857، التي شهدت اتحاد الجنود والمدنيين المسلمين والهندوس للقتال معًا ضد الحكم البريطاني، أُصيب البريطانيون بالذعر لرؤية الهندوس والمسلمين يقاتلون جنبًا إلى جنب وتحت قيادة بعضهم البعض ضد القمع الأجنبي. وتعهدوا ألّا يتكرر هذا، وكتب اللورد ماونتستيوارت إلفينستون، الذي أصبح لاحقًا حاكمًا لبومباي (مومباي حاليًا): “فرّق تسد كانت قاعدة رومانية قديمة، وستكون لنا”.
وتأجّجت ثورة الهند عام 1857، التي يُطلق عليها البريطانيون عادةً اسم “التمرد الهندي” أو “تمرد السيبوي”، بسبب مجموعة من المظالم، بما في ذلك الاستغلال الاقتصادي، والتمييز الاجتماعي والديني، والقمع السياسي. وفي حين أن التمرد لم يكن قائمًا فقط على التوترات الدينية بين الهندوس والمسلمين، ولم تكن الانفصالية والكراهية بين الهندوس والمسلمين مشكلة، إلا أن هذه التوترات لعبت دورًا في تأجيج الصراع.
وفي القرن العشرين، بلغ هذا الصراع ذروته بين المجتمعين، وعمّقت السياسات الاستعمارية اللاحقة الانقسام. ففي ذلك الوقت، كان معظم الهنود الهندوس يعيشون في الأجزاء الوسطى والشرقية من المستعمرة، وكان معظمهم فلاحين وعمالًا. وكان الهنود المسلمون يعيشون في الغالب في الغرب، وكان عدد كبير منهم ينتمي إلى الطبقة العليا في المجتمع.

لكن مع نمو الفكر الديمقراطي بين الطبقات الفقيرة والدنيا، التي كانت تضم نسبة كبيرة من الهندوس، شعر العديد من الهنود المسلمين بالقلق، وشكّلوا الرابطة الإسلامية أو رابطة مسلمي عموم الهند، وهي منظمة سياسية أُنشئت عام 1906، للدفاع عن المسلمين في الهند، وحماية حقوقهم المدنية ضد القوة المتنامية للطبقة الهندوسية العاملة، وتحقيق الحكم الذاتي لمسلمي الهند، ثم من أجل إقامة دولة قومية مستقلة للمسلمين الهنود.
في غضون ذلك، عمل المؤتمر الوطني الهندي – وهو منظمة وحزب سياسي تأسس عام 1885، وأصبح في الأساس تحت سيطرة الهندوس بحلول ثلاثينيات القرن العشرين – على ضمان استقلالية أكبر عن الحكم البريطاني لشبه القارة الهندية. في حين ضمّ المؤتمر الوطني الهندي بعض الأعضاء الذين كانوا أيضًا أعضاءً في الرابطة الإسلامية.
وبرعاية بريطانية صريحة، وُضعت سياسة منهجية لإثارة الانقسام بين الهنود الذين مُنحوا حق الانتخاب المقيّد على مضض. وكثيرًا ما يُستشهد بالسياسات البريطانية العديدة التي عزّزت العنف بين الهندوس والمسلمين، مثل قرار عام 1909 بإنشاء نظام الدوائر الانتخابية الطائفية المنفصلة في الانتخابات المحلية، ليتمكن المسلمون والهندوس من التصويت لمرشّحين من هويتهم الدينية، مما زاد من تفاقم الانقسام بين المجتمعين الهندوسي والمسلم.
هذا بالإضافة إلى الدور البريطاني في تقسيم الهند على أسس دينية عام 1947، الذي أدّى إلى انتشار العنف الطائفي والنزوح، وشكّل نقطة تحوّل أسفرت عن عواقب وخيمة على كل من الهندوس والمسلمين، مما خلق انعدام ثقة دائم بين المجتمعين. وفي ذلك دليل على هذه السياسة الرامية إلى زرع بذور الانقسام وانعدام الثقة بين الطوائف التي كانت متعايشة سابقًا، ومنع حركة قومية موحّدة قد تُطيح بالبريطانيين.
دولتان تفصل بينهما حدود دينية
بدأ القرن العشرون بعقود من الحركة المناهضة للاستعمار عبر شبه القارة الهندية، حيث سعى الهنود للاستقلال عن بريطانيا. في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وتحت وطأة ضغوط مالية هائلة، رضخ البريطانيون أخيرًا، لكنهم كانوا مولعين برسم الحدود على خرائط الدول الأخرى، فقد فعلوا ذلك في الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى، وكرّروه في شبه القارة الهندية.
تباينت آراء القادة السياسيين الهنود حول شكل الهند المستقلة، فقد مثّل مهاتما غاندي وجواهر لال نهرو الأغلبية الهندوسية، وأرادا الهند موحّدة، في حين اعتقد السياسي الهندي المسلم محمد علي جناح، الذي قاد الأقلية المسلمة، أن الخلافات التي أحدثها الاستعمار عميقة جدًا بحيث لا يمكن إصلاحها، ودافع عن تقسيم الهند إلى دولتين، بحيث يكون للمسلمين وطن يُسمّى باكستان، التي تأسست قبل عيد استقلال الهند بيوم.
في أعقاب أعمال الشغب التي اندلعت عامي 1946 و1947، سارع البريطانيون إلى الانسحاب، وخطّطوا لاستقلال الهند سرًا. وفي يونيو/ حزيران 1947، أعلن نائب الملك البريطاني أن الهند ستحصل على استقلالها بحلول أغسطس/ آب، وستُقسَّم إلى الهند الهندوسية وباكستان الإسلامية، لكنه لم يُقدّم شرحًا يُذكر لكيفية حدوث ذلك بالضبط.
باستخدام خرائط قديمة، وأرقام تعداد سكاني غير دقيقة، ومعرفة محدودة بالأرض، رسمت لجنة الحدود، التي أنشأها الحاكم العام البريطاني آنذاك اللورد لويس مونتباتن، في غضون 5 أسابيع فقط، حدودًا تقسّم 3 مقاطعات (البنغال والبنجاب وآسام) خاضعة للحكم البريطاني المباشر، إلى دولتين جديدتين تحدّدهما مناطق ذات أغلبيّة هندوسية ومسلمة.

أُسندت مهمة التقسيم إلى السير سيريل رادكليف، وهو محامٍ لم يزر الهند من قبل، ولم يكن يعرف شيئًا عن تاريخها أو مجتمعها أو تقاليدها. لكنه تمكّن من زيارة بعض أجزاء من الأراضي المستعمرة قبل أن يقرّر مصيرها، وهو يتصبّب عرقًا بغزارة في حرٍّ غير مألوف، ورسم خرائطه عبر الأنهار والغابات والمزارع ومسارات السكك الحديدية، مقسّمًا المقاطعات والمناطق والقرى والمنازل والعائلات، ثم فرّ هاربًا إلى بريطانيا، ولم يعد إلى الهند أبدًا.
أخذت الحدود في الاعتبار أماكن الأغلبيّة الهندوسيّة والمسلمة، بالإضافة إلى عوامل مثل الموقع ونِسَب السكان. لذلك، إذا كانت المنطقة ذات الأغلبيّة الهندوسيّة تجاور منطقة ذات أغلبيّة هندوسيّة أخرى، فسيتم ضمّها إلى الهند. لكن إذا تجاورت منطقة ذات أغلبيّة هندوسيّة مناطق ذات أغلبيّة مسلمة، فقد تصبح جزءًا من باكستان.
عند الاستقلال عن الإمبراطورية البريطانية، رُسّمت الدولتان على أساس حدود دينية ثبت أنها أقل وضوحًا بكثير مما توقّعه المسؤولون. فعلى عكس المناطق شبه القارية الأخرى، لم تكن هناك أي ديانة سائدة في مقاطعتي البنغال في الشرق والبنجاب في الغرب، بل كانت هناك جماعات من أديان مختلفة تعايشت جنبًا إلى جنب، مما جعل تحديد الحدود الوطنية الجديدة أمرًا صعبًا، واضطرت الولايات الأميرية الواقعة على الحدود إلى اختيار أيّ الدول الجديدة ستنضم إليها، فخسرت سيادتها في هذه العملية.
وبينما كانت لجنة الحدود تعمل على الخريطة الجديدة، بدأت المجتمعات الدينية المختلطة تدافعًا يائسًا استمر شهورًا عبر الحدود المرسومة حديثًا للعيش مع بني هويّتها. وغادر ملايين الهندوس والسيخ المقيمين في باكستان إلى مناطق ظنّوا أنهم سيكونون فيها جزءًا من الأغلبيّة الدينية، بينما فرّ المسلمون المقيمون في الهند من قراهم التي عاشت فيها عائلاتهم لقرون. وأُفرغت مدن لاهور ودلهي وكالكوتا ودكا وكراتشي من سكانها القدامى، واكتظّت باللاجئين.
عَبَر أكثر من 14 مليون شخص في كلا الاتجاهين، مما أدّى إلى ما يُعتبر عمومًا أكبر هجرة جماعية في تاريخ البشرية. ويتفاوت عدد القتلى بشكل كبير، لكن يُعتقد أن أكثر من حوالي مليوني شخص لقوا حتفهم في موجات العنف التي صاحبت الخطوط التي كان البريطانيون سيرسمونها عبر وطنهم على عجل. ويُقدّر المؤرخون أن 15 مليون شخص قد نزحوا، ونُهبت المنازل وأُحرقت، ودُمّرت ونُهبت ممتلكات لا تُحصى.
ولم تُكشف الخريطة الجديدة إلا في 17 أغسطس/ آب 1947، أي بعد يومين من الاستقلال، إيذانًا بحلّ الحكم البريطاني. وأصبحت مقاطعتا البنجاب والبنغال باكستان الشرقية والغربية المنفصلتين جغرافيًا، وأصبح باقي الهند ذا أغلبيّة هندوسيّة، وكانت تُعرف آنذاك باسم اتحاد الهند أو دومينيون الهند.

كانت الأزمة عميقة بشكل خاص، لأن الكثيرين وجدوا أنفسهم على الجانب الخطأ من الحدود. على سبيل المثال، كانت مقاطعتا مرشد آباد ومالدا البنغاليتان ذات أغلبيّة مسلمة، لذا توقّع الجميع أن تصبحا جزءًا من باكستان، لكن بدلًا من ذلك، اتضح أنهما جزء من الهند، حتى بعد أن رفع البعض الأعلام الباكستانية. أما مدينة خولنا ذات الأغلبيّة الهندوسيّة، فقد أصبحت الآن باكستان (وأصبحت بنغلاديش عام 1971).
وعلى جانبي الحدود، استخدمت الأغلبيّة العنف لطرد الأقليّة، وكانت أعمال العنف الطائفي وعمليات القتل لأسباب دينية وحشية بشكل خاص في البنجاب، التي كانت مقسّمة إلى غرب مسلم وشرق هندوسي وسيخي. وانتشر العنف الطائفي في السنوات التي تلت ذلك، وبدرجة أقل حتى يومنا هذا.
وبهذا، نجحت استراتيجية “فرّق تسد”، التي فاقمت الانقسامات الدينية، وأجّجت التوترات الطائفية بشكل مبالغ فيه. وضمنت السياسة التي صُمّمت لتكريس الحكم البريطاني في الهند، استحالة بقاء الهند الموحّدة بدون البريطانيين، فكان مصيرها دولتين، ثم عدّة أجزاء داخل الدولة الواحدة.
تقسيم المقسَّم
في نقاشات تقسيم إرث الإمبراطورية البريطانية، غالبًا ما يُغفَل أن التقسيم لم يكن تقسيمًا واحدًا، بل تقسيمات متعددة استهدفت بشكل خاص المناطق ذات الأغلبيّة المسلمة، وأبقت على الأغلبيّة الهندوسيّة في كتلة واحدة، حيث ينتشرون اليوم في جميع الولايات الهندية، ويمثلون 81.3٪ (837 مليون نسمة) من مجموع الشعب الهندي، مقابل حوالي 15٪ للمسلمين، ويسيطرون على جميع مناحي الحياة السياسية والاقتصادية منذ استقلال الهند عن بريطانيا.
وبدا من ذلك أن دوافع الصراع لم تكمن في النزاعات التاريخية فحسب، بل في الآثار العملية التي نتجت عن استقلال الهند. ففي ظل فراغ السلطة الذي خلفته القوات البريطانية، اندلعت أعمال عنف مع انقلاب الطوائف الدينية على بعضها البعض، وأصبح التطهير العرقي قوة تُستخدم لخلق أغلبيّة سكانية في المناطق التي كان من المقرّر رسم حدودها.
عندما غادر البريطانيون الهند عام 1947، وبدأ تقسيم الأراضي، تصاعدت هذه التوترات نفسها من خلاف حول تقسيم الأصول بعد التقسيم إلى صراع مرير حول مستقبل الولايات الأميرية المتنازع عليها مثل حيدر أباد وجوناغاد وكشمير، إلى صراعٍ على مياه الري المحدودة والثمينة.
وتجاوزت المشاكل التي خلّفها التقسيم هذه التداعيات المميتة المباشرة بكثير، وأصبحت العديد من العائلات التي انتقلت مؤقتًا نازحة بشكل دائم، وظلّ النزاع على الحدود قائمًا.
في عام 1947، كان لباكستان جناحان شرقي وغربي بعيدان عن بعضهما، ومحاطان بالكامل بالأراضي الهندية. وكانت المناطق ذات أغلبيّة مسلمة، وكان عدد سكانها 65 مليون نسمة في شرق باكستان، و58 مليون نسمة في غرب باكستان، ومساحتها حوالي 148 ألف كيلومتر مربع و882 ألف كيلومتر مربع على التوالي، وكان يفصل بينهما مساحة الهند الشاسعة وحوالي 1000 ميل.
وبعد الاستقلال مباشرة، بدأت الخلافات بين باكستان الشرقية والغربية، وتدخلت الهند لصالح الشرق، مستغلة هذا الوضع لصالحها، وبدأت في تفتيت الكتلة المسلمة بتقديم الدعم الدبلوماسي والسياسي والاقتصادي واللوجستي لشعب شرق باكستان، حتى هُزمت باكستان الغربية. وبعد جيل من الاستقلال عن بريطانيا، انفصلت باكستان الشرقية، وأصبحت دولة بنغلاديش الجديدة بعد حرب شاملة استمرت أسبوعين في عام 1971، وشهدت مواجهة مباشرة بين الجيش الهندي والباكستاني.
ولم تكن هذه المواجهة الوحيدة، ففي غضون بضعة أشهر فقط من رسم الحدود، قرر هاري سينغ، الحاكم الهندوسي لإقليم جامو وكشمير ذي الأغلبيّة المسلمة، الانضمام إلى الهند. عند هذه النقطة، كانت باكستان تعتبر كشمير امتدادًا طبيعيًا لأكثريتها المسلمة، أما الهند فكانت تجدها تابعة لسلطتها، بدليل اعتراف الحكام بتبعيته لها.
منذ ذلك الحين، نشأ الخلاف بشأن تبعية كشمير، وبلغ حدّ دفع البلدين إلى مواجهة مسلّحة، قبل أن يتدخل مجلس الأمن الدولي، الذي أقرّ منح الكشميريين حق تقرير المصير. وهو القرار الذي كان من المقرّر أن يُحسم باستفتاء عام للأغلبيّة المسلمة، لكن لم يُجرَ هذا الاستفتاء حتى اليوم، لتخوض الهند وباكستان 3 حروب على خلفية قضية كشمير.
بعد حوالي 78 عامًا، لا يزال التصعيد – الذي بدأ بحدود رُسمت باستعجال – في كشمير مستمرًا، ولا تزال آثار التقسيم واضحة في شبه القارة الهندية، في تشكيلاتها السياسية الجديدة، وفي ذكريات العائلات المنقسمة، وفي التوتر الذي تحوّل إلى غضب وكراهية بين الجارتين.

في كل من الهند وباكستان، ساهم سفك الدماء في تحديد الهويّة الوطنية الجديدة، وبدت فكرة تعايش الهندوس والمسلمين معًا بسلام، كما كان الحال لقرون (وإن لم يكن دائمًا)، ضربًا من العبث بالنسبة للكثيرين، خاصة مع وجود ترسانة نووية مرعبة بحوزة البلدين.
لذلك، أصبح من الشائع مؤخرًا ربط الحكم البريطاني بأعمال الشغب الطائفية الحديثة، وإلقاء اللوم في الصراع الحالي بين الهند وباكستان، وبشكل أعم، في أصول الصراع الديني في الهند بين المسلمين والهندوس، على الإرث السلبي للاستعمار البريطاني في الهند في القرن التاسع عشر.
وعلى حدّ تعبير عضو البرلمان الهندي شاشي ثارور، كان خلق وإدامة العداء بين الهندوس والمسلمين الإنجاز الأكثر أهمية للسياسة الإمبريالية البريطانية. فقد عمل المشروع الاستعماري “فرّق تسد” على تأجيج العداءات الدينية لتسهيل استمرار الحكم الإمبريالي، وبلغ ذروته المأساوية في عام 1947.
ويذهب البعض إلى أبعد من ذلك، مجادلين بأن الهويّات الدينية ذاتها للمسلمين والهندوس في شبه القارة الهندية قد صاغها البريطانيون من خلال آليات مثل أول تعداد علمي للسكان عام 1871. وبالتالي، فإن الصراع اللاحق بين هاتين المجموعتين كان نتيجة لهذه السياسة.
بعبارة أخرى، فإن معظم المشاكل الجيوسياسية والإثنيّة والدينية المعاصرة في جنوب آسيا، بما في ذلك صراع كشمير، وتقسيم الهند البريطانية، والصراع الطائفي بين الهندوس والمسلمين، هي نتيجة للتأثير الغربي.
منذ ذلك الحين، وقعت العديد من حالات العنف الطائفي التي استهدفت المسلمين في الهند المستقلة، وغالبًا ما ترتبط هذه الحالات بالحركات السياسية التي تؤكد على القومية الهندوسيّة التي تصاعدت منذ ثمانينيّات القرن الماضي، وعادت معها أعمال العنف الديني لتصبح سمة متكررة في السياسة الهندية.
وفي كثير من الأحيان، يلجأ الساسة الهنود إلى استخدام الخطاب المعادي للمسلمين لكسب الدعم. وقد تزامن صعود الأحزاب السياسية المتحالفة مع أيديولوجية الهندوتفا (الشكل السائد للقومية الهندوسيّة في الهند)، والتي استخدمت أحيانًا خطابًا معاديًا للمسلمين لكسب الدعم، مع تزايد العنف ضد الأقليّات المسلمة، وتركيز على المسلمين كعنصر أجنبي يجب تطهيره من المجتمع الهندي، مما يعكس التوترات الاجتماعية والسياسية النابعة من العداء الديني الذي أورثته السياسات البريطانية.