ترجمة وتحرير: نون بوست
لأكثر من شهرين، منعت الحكومة الإسرائيلية دخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غَزَّة. وفي يوم الإثنين، سمحت بعبور عدد من الشاحنات المحملة بأغذية للأطفال ومواد ضرورية أخرى، ثم أعلنت يوم الثلاثاء أنها أدخلت ثلاثاً وتسعين شاحنة إضافية. (إلا أن الأمم المتحدة أفادت بأن أياً من شاحنات الثلاثاء لم يصل إلى وجهته. في حين تُقدّر المنظمات الإنسانية، التي تحذّر من مجاعة وشيكة، أن ما لا يقل عن 500 شاحنة يوميًا ضرورية لتلبية الاحتياجات الأساسية).
وأعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن هذا التدفق المحدود من المساعدات، واصفًا إيّاه بأنه “الحد الأدنى”، ومشيرًا إلى أن السماح به جاء استجابة لضغوط من “أصدقاء” في الخارج قالوا له: “لا يمكننا تقبّل مشاهد الجوع الجماعي. لا يمكننا تحمل ذلك. لن نستطيع الاستمرار في دعمكم”.
وأضاف نتنياهو: “يجب ألا نصل إلى مرحلة المجاعة — لا من الناحية الواقعية، ولا من الناحية الدبلوماسية”. وفي الوقت نفسه، أعلن عن تصعيد كبير مرتقب في العمليات العسكرية.
شيرا إيفرون، مديرة الابحاث وزميلة أولى في منتدى السياسات الإسرائيلية — وهو مركز أبحاث أميركي يدعم حل الدولتين — تقيم في إسرائيل، وكانت سابقًا باحثة في مؤسسة راند وقدّمت استشارات للأمم المتحدة بشأن الأوضاع الإنسانية في قطاع غَزَّة. كما خدمت في صفوف الاحتياط ضمن وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق (كوغات)، وهي الجهة المسؤولة عن إدارة السياسة المدنية في غَزَّة والضفة الغربية، والتي تتهمها منظمات إنسانية بعرقلة إيصال الغذاء الكافي إلى سكّان القطاع. (وتتبع كوغات لوزارة الدفاع الإسرائيلية).
رغبت في التحدث إلى إيفرون نظرًا لإلمامها العميق بسياسات الحكومة الإسرائيلية، ولمعرفة أسباب قلقها المتزايد من النقص الحاد في الغذاء والإمدادات داخل غَزَّة. تحدثنا يوم الأحد مع انطلاق المرحلة الجديدة من الحرب، وتابعنا الحديث باختصار يوم الثلاثاء.
تناولنا خلال الحوار عدداً من القضايا، من بينها تقييمها للوضع الصحي المتدهور في القطاع، والخلافات داخل البيروقراطية الإسرائيلية، والأهداف الحقيقية لنتنياهو.
ما مدى تدهور أوضاع الغذاء والمساعدات في غَزَّة حاليًا؟ وكيف يُقارن ذلك بمراحل سابقة من الحرب؟
أعتقد أن الوضع كارثي بكل المقاييس. لقد مضى نحو ثمانين يومًا دون دخول أي مساعدات إنسانية. وخلال وقف إطلاق النار الذي دام اثنين وأربعين يومًا، دخلت كميات كبيرة نسبيًا من المساعدات، لكنها لم تكن كافية لتلبية احتياجات السكان. نحن نتحدث عن مواد غذائية جافة، وأطعمة قابلة للتلف، ووقود ضروري لتشغيل كل شيء تقريبًا. فالكهرباء في غَزَّة تعتمد إلى حدٍّ كبير على المولدات، ما يجعل الوقود أمرًا حيويًا لتشغيل أنظمة تنقية المياه، والمستشفيات، ومحطات معالجة الصرف الصحي، ومرافق النظافة، وغيرها.
ولا تقتصر الحاجة على الغذاء فحسب، بل تشمل أيضًا الأدوية ومستلزمات النظافة الشخصية. وغالبًا ما ينصبّ التركيز على الغذاء، لكنه ليس وحده ما يهدد حياة السكان. في الأسابيع الأولى من الحرب، لم تدخل أي مساعدات، وبدأت الأزمة تتفاقم منذ ذلك الحين. ومع أن غَزَّة عانت سابقًا من قيود مشددة على دخول السلع وحركتها، إلا أن هناك كان قدرًا من الاكتفاء الذاتي، من إنتاج محلي وتصنيع غذائي وزراعة. أما اليوم، فبات معظم السكان يعتمدون بالكامل على المساعدات الإنسانية، مع انعدام شبه تام للإنتاج الغذائي الذاتي.
وبعد وقف إطلاق النار، شعر الناس بشيء من التخفيف المؤقت، وإن كان مشوبًا بالمعاناة، فكثيرون اضطروا للتعافي من الإصابات أو النزوح، والبحث عن جثامين أحبّائهم. لكنه كان بمثابة استراحة قصيرة وسط الكارثة. أما في الأسابيع الثمانية الماضية، فعادت المأساة لتشتدّ من جديد؛ حيث أسمع من موظفين في منظمات دولية أنهم باتوا يوزّعون الطعام على موظفيهم بوجبة واحدة في اليوم.
ويُظهر ارتفاع أسعار الغذاء في غَزَّة حجم الأزمة، فالمواد القابلة للتلف تُباع بأسعار باهظة، وهناك نقص حاد في قطع الغيار اللازمة لأنظمة تنقية المياه، إذ تُصنَّف كمواد “ثنائية الاستخدام”، أي أنها قد تُستخدم لأغراض مدنية أو عسكرية. كذلك، لا تصل الأدوية الأساسية إلى المحتاجين؛ باختصار، الوضع مأساوي للغاية.
أفادت صحيفة ذا تايمز الأسبوع الماضي بأن عددًا من المسؤولين في المؤسسة العسكرية والأمنية في “إسرائيل” توصّلوا، بشكل غير معلن، إلى نفس الاستنتاجات التي طالما حذّرت منها المنظمات الإنسانية والعاملون في الإغاثة بشأن الوضع الكارثي للمساعدات في غَزَّة. وأنت معروف بأن لك قنوات اتصال داخل الحكومة الإسرائيلية.
في السابق، كان هناك جدل حول حجم المساعدات التي سُمح بإدخالها فعليًا، كما أُثيرت تساؤلات حول ما إذا كانت أعداد الجوعى مبالغًا فيها. برأيك، هل بات الجميع الآن، على الأقل في الخفاء، يستندون إلى نفس الفرضيات؟
أعتقد أن هناك دائمًا فجوة في التقييمات بين المجتمع الإنساني والجيش الإسرائيلي، وهو أمر مؤسف. فالعقلية الإسرائيلية تميل إلى اعتبار تحذيرات المجتمع الإنساني مبالغًا فيها، وأنها كثيرًا ما تُطلق دون أن تتحقق على الأرض. لذا، عندما انهار وقف إطلاق النار وأعلن الجيش أنه لن يُسمح بإدخال المساعدات، حذّر المجتمع الإنساني قائلًا: “في غضون أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع، ستصبح الحاجة إلى استئناف المساعدات ملحّة”. غير أن السياسيين تبنّوا موقفًا متشددًا، قائلين إن هناك وقتًا أطول من ذلك. في المقابل، أبدى بعض المهنيين في هيئة “كوغات” وجهات أخرى قدرًا أكبر من المسؤولية، وقدّروا أن الحاجة الماسة للمساعدات الغذائية ستبدأ بعد 60 إلى 90 يومًا، وهذا بالضبط ما نعيشه الآن.
عدد غير قليل من المسؤولين داخل المؤسسة الإسرائيلية أجروا تقييمات دقيقة، اعتمدوا فيها على عدد الشاحنات التي دخلت، ومتوسط احتياج الفرد من السعرات الحرارية، وتوصّلوا إلى نتائج اختلفت عن الرواية الرسمية.
وبلغنا الآن الخط الأحمر الذي لطالما حذّر منه هؤلاء في الكواليس. لم يعد أحد يجادل في أننا تخطيناه. حتى داخل الجيش الإسرائيلي، أبلغ بعض المسؤولين قادتهم السياسيين بأن الأرقام الحالية تقتضي إدخال المساعدات فورًا. ولهذا ليس من المستغرب أن نسمع الآن عن تحرّكات لإدخالها. هذا التحوّل مردّه جزئيًا إلى مواقف صريحة من شخصيات أمريكية مثل ماركو روبيو، ودونالد ترامب، وستيف ويتكوف، الذين أوضحوا أنهم لن يسمحوا بوقوع كارثة إنسانية في ظل قيادتهم. وكان لهذا الموقف تأثير كبير في “إسرائيل”، لا سيما عندما يصدر عن ترامب نفسه، ما فتح المجال أمام الأوروبيين لتصعيد ضغوطهم أيضًا. فالأمر لم يعد مقتصرًا على الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية، رغم أننا في الواقع نواجه كارثة مكتملة الأركان بكل المقاييس.
عندما بدأ المجتمع الإنساني بإطلاق تحذيراته بعيد انتهاء وقف إطلاق النار، كان بعض المسؤولين الإسرائيليين يزعمون أن الإمدادات المتوفرة تكفي لفترة أطول، قد تمتد بين أربعة إلى ستة أشهر. لكنك تقولين إن التقديرات الداخلية كانت تشير سرًّا إلى أن الوقت المتاح أقل بكثير، وأننا الآن بلغنا فعليًا تلك النقطة الحرجة؟ وهل يمكن القول إن الجميع، على الأقل في الكواليس، باتوا يدركون أنه إذا لم تُستأنف المساعدات بسرعة، فسنواجه كارثة إنسانية واسعة النطاق؟
أعتقد أن هناك من يدرك ذلك؛ فداخل الجيش الإسرائيلي، وُجدت تقييمات مختلفة. فالمعاناة من سوء التغذية لا تنحصر في صور الأطفال النحيلين كما قد يتخيل البعض؛ إنها مشكلة أعمق، وغالبًا ما لا تكون مرئية بالعين المجرّدة. المنظمات الإنسانية تؤكد أن السكان يعانون من سوء تغذية حاد، وأن هذا سيترك آثارًا صحية دائمة على المدى الطويل.
واجهت هذه التحذيرات رفضًا واسعًا من قبل سياسيين إسرائيليين ووسائل إعلام محلية، يروّجون لفكرة أن الوضع ليس بهذا السوء. ما كنت أحاول التأكد منه — وأعتقد أن تقرير ذا تايمز ساهم جزئيًا في توضيحه — هو ما إذا كان هناك اتفاق فعلي بين عدد من المسؤولين العسكريين الإسرائيليين والجهات المعنية بالمساعدات لغَزَّة على أن الوضع كارثي حقًا.
لست واثقة من وجود “اتفاق واسع”، لأن السردية المطروحة للرأي العام الإسرائيلي هي أننا نرسل مساعدات إنسانية إلى غَزَّة، بينما لا يزال هناك أسرى لدى حركة حماس. إنها مسألة شديدة الحساسية سياسيًا، وهناك سياسيون يخاطبون جمهورهم الذي يرفض دخول أي مساعدات إلى غَزَّة، وهذا يتعارض بوضوح مع المصالح الدبلوماسية لـ”إسرائيل”. المهنيون داخل الجيش يدركون تمامًا أين يقف السياسيون، لكن التحدي الحقيقي هو كيفية عرض هذه الوقائع بلغة مفهومة ومقنعة لهؤلاء السياسيين. فـ”كوغات” لا تملك صلاحية فتح المعابر، فهذا قرار سياسي بحت.
هذا يفتح الباب أمام تساؤل جوهري: هل يملك الساسة القدرة أو حتى الرغبة في الاقتناع بالوقائع على الأرض؟
كغيرهم من الساسة في أنحاء العالم، ثمة عوامل متعددة قد تدفعهم إلى الاقتناع. من اللافت أن نسمع ماركو روبيو يتحدث عن الوضع، وأن يُدلي ويتكوف بتصريح، وحتى ترامب أشار الأسبوع الماضي، خلال وجوده في الخليج، إلى أن هناك من يتضوّر جوعًا في غَزَّة. مثل هذه التصريحات تُعد أدوات مؤثرة لدفع الساسة الإسرائيليين إلى الانخراط في الخطة، كما أن هناك تقارير مهنية تؤكد أن المساعدات باتت ضرورة ملحّة.
ما رأيكِ في خطة المساعدات الجديدة التي تحدّث عنها الجانب الإسرائيلي والأميركي؟ وهل يمكنك أن توضح طبيعة هذه الخطة، ولماذا يرفضها العاملون في المجال الإنساني؟
عند الإعلان الأول عن الخطة، كانت تقوم على إنشاء عدد محدود من مراكز التوزيع داخل غَزَّة، دون أن تشمل كافة المناطق. وخُصص لكل مركز أن يخدم نحو ثلاثمائة ألف نسمة. وكان من المقرر أن يتوجّه ممثل عن كل أسرة في وقت وتاريخ محددين، لتسلّم حصة العائلة من المساعدات لفترة أسبوع أو حسبما يُقرَّر. وقد أُنيط تنفيذ الخطة بجهة تُعرف باسم “مؤسسة غَزَّة الإنسانية”، تتولى توفير الطرود وتجهيزها.
ومنذ الإعلان عنها قبل أسبوعين، واجهت الخطة انتقادات شديدة، أبرزها رفض شبه جماعي من الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية، فأوّل ما طُعن به في الخطة أنها تخالف المبادئ الأساسية للعمل الإنساني، التي تنصّ على إيصال المساعدات إلى المستفيدين، لا أن يُطلب من المستفيدين التوجّه للحصول عليها. فهناك فئات هشّة كذوي الإعاقة، والنساء الحوامل، وكبار السن، والأطفال، لا يستطيعون قطع المسافات الطويلة، فضلًا عن أن الطرود ثقيلة ولا توجد وسائط نقل متاحة.
كذلك، أشار الكتيب التعريفي الأول للمؤسسة إلى أن المساعدات ستُقدَّم في المرحلة الأولى لـ1.2 مليون شخص فقط. فماذا عن أكثر من 800 ألف إنسان آخر؟ لا توجد آلية تضمن التوزيع العادل على مختلف مناطق غَزَّة، خصوصًا في شمال القطاع. علمًا أن غَزَّة تعتمد بشكل شبه كامل على المساعدات، وثمة حاجة ماسّة لدعم المستشفيات والمطابخ المجتمعية. فعندما يحصل الناس على معكرونة جافة، أين يمكنهم طهوها؟ في ظل غياب المنازل الصالحة للسكن، تصبح المطابخ المجتمعية ضرورة لا بد منها.
الخطة الأصلية افتقرت إلى هذه المقوّمات الأساسية. وقد برّرها القائمون عليها بأنها تهدف إلى منع حركة “حماس” من الاستفادة من المساعدات. فالتصوّر يقوم على أن توجّه الناس إلى مواقع خاضعة للرقابة سيحول دون وصول المساعدات إلى الحركة. ولكن، ما الذي يمنع “حماس” من فرض ضرائب على المساعدات بعد توزيعها أو الاستيلاء عليها؟ لقد شهدنا أمثلة مشابهة في العراق واليمن، حيث عمدت جماعات مسلّحة إلى التلاعب بالمساعدات. فليس من الضروري أن تُسرق شاحنة كاملة، فالتنظيمات مثل “حماس” تتعلّم وتتأقلم بسرعة، وقد تجد طرقًا للسيطرة على المساعدات بعد وصولها إلى السكان.
الخطة تفترض ظروفًا مثالية، أقرب إلى بيئة تجريبية. لكن ماذا لو قيل إن “سبعة آلاف” شخص سيأتون في يوم ما، فجاء سبعون ألفًا؟ الناس ليس لديهم ما يشغلهم، ماذا سيكون التصرف في تلك اللحظة؟ هناك خشية حقيقية من حدوث تدافع وفوضى.
الأمم المتحدة، التي كانت الأشدّ اعتراضًا، صرّحت بأنها “لن تكون طرفًا في هذه اللعبة”. وقبل أسبوع، أصدرت “مؤسسة غَزَّة الإنسانية” وثيقة من صفحتين طالبت فيها إسرائيل بمعالجة الثغرات وفتح مراكز توزيع في شمال القطاع. نحن الآن في مرحلة لا تزال فيها آلية التنفيذ قيد التشكيل. وربما تلوح فرصة لإسرائيل للتراجع عن موقفها المتصلّب، وللمجتمع الإنساني لإظهار بعض المرونة.
هل هناك سبب يمنع إسرائيل من العودة إلى الطريقة التقليدية في إدارة المساعدات؛ عبر إدخال الشاحنات وتوزيعها على السكان، كما حدث خلال فترة وقف إطلاق النار؟ هل يعود ذلك إلى رفضهم التعاون مع المنظمات الإنسانية؟
لا، هذا احتمال وارد، لكن في عقلية الإسرائيليين، تقتصر مسؤوليتهم على تسهيل وصول المساعدات الإنسانية فقط. في مراحل الحرب الأولى، كان الموقف قائماً على فكرة: “نسمح بدخول الشاحنات، والأمم المتحدة غير كفوءة، فلا تلومونا”. وبرأيي، كان هذا النهج خاطئًا من الناحيتين الإنسانية والأمنية. فبالنسبة لإسرائيل، هذا النموذج سمح أيضًا لحماس باستغلال المساعدات. وتسعى إسرائيل بشكل مشروع إلى إيجاد سبل لقطع التمويل عن حماس، وترى أن النموذج القديم لا يعالج هذه المشكلة بشكل كافٍ.
لكنكِ ذكرتِ سابقًا أن حماس يمكنها استغلال المساعدات أيضًا ضمن النظام الجديد، أليس كذلك؟
نعم، هذا تقييمي استنادًا إلى تجارب من أماكن أخرى. ربما يصبح الأمر أصعب قليلاً، وربما تقل قدرة حماس على الاستغلال، لكنني أعتقد أننا بحاجة إلى التركيز على تقليل استفادتها لأدنى حد، وضمان تقديم استجابة واسعة لصالح السكان. لا أرى بالضرورة أن الطريقة الجديدة ستجعل استيلاء حماس على المساعدات أكثر صعوبة، لكنها ستختلف.
في وقت مبكر من الحرب، قال نتنياهو إن ضمان وصول المساعدات إلى سكان غزة كان أمرًا أساسيًا لإنجاز المهمة العسكرية. ما الذي تعتقد أنه تغير عندما توقف دخول المساعدات؟
ما الذي تغير؟ كارثة. أحد التغيرات المهمة كان انتخاب إدارة جديدة في الولايات المتحدة. أعتقد أن نتنياهو وإسرائيل اتفقا على أن تقديم المساعدات يمنح إسرائيل شرعية للاستمرار في عملياتها العسكرية. وأظن أن التغيير في واشنطن دفع بعض الإسرائيليين إلى الاعتقاد بأن إسرائيل ستحصل على حرية كاملة لمواصلة القتال دون الحاجة إلى تبرير قضية المساعدات. وكان الافتراض أن إدارة ترامب لن تكترث. لكن التصريحات الأخيرة لمسؤولي ترامب تظهر أن هذا غير صحيح؛ فهم يهتمون فعليًا، ولا أعلم ما دوافعهم الحقيقية.
سألتُ عن سبب تغيير خطة المساعدات، فقلتَ إن الحكومة الإسرائيلية تريد اتباع مسار يمنع حماس من سرقة المساعدات بسهولة. ثم سألتُ لماذا بدا أن نتنياهو ينحرف عن زعمه، في بداية الحرب، بأن المساعدات مهمة لنجاح إسرائيل في متابعة الحرب، فقلتِ، باختصار، “حسنًا، يمكنهم الآن الإفلات بما يريدون لأن ترامب في السلطة”.
أعتقد أنهم كانوا يعتقدون ذلك؛ أن بإمكانهم الإفلات من العقاب.
يبدو أن هناك بعض التناقض بين الجوابين، أليس كذلك؟
لا، لا، لا. اسمع، المساعدات الإنسانية لغزة ليست أمرًا محبوبًا. حسنًا؟ إنها ليست أمرًا محبوبًا. لكن في الغالب، أدرك نتنياهو وآخرون في النظام أن المجتمع الدولي… حسنًا، لو كان الأمر متروكًا للإسرائيليين، فربما لن تصل أي مساعدات إلى غزة، إنها ليست أولوية. في العقلية الإسرائيلية، كل السكان متواطئون مع حماس، لكن استمرار تلقي الدعم من المجتمع الدولي كان في مصلحة إسرائيل. بالنسبة لنتنياهو، فإن السماح بدخول بعض المساعدات يُضفي الآن شرعية أكبر على الحرب واستمرار القتال، والرسالة الموجهة إلى حكومته اليمينية وقاعدته السياسية هي أنه مضطر إلى ذلك إذا أرادوا مواصلة الحرب، ولا يمكننا رفض طلب ترامب.
مع بداية الحرب، لم يُفتح باب المساعدات إلا بفضل الضغط الأمريكي، وكان هناك افتراض بأن إدارة ترامب لن تهتم كما فعلت إدارة بايدن. لا أعتقد أن إسرائيل قالت: “سنُجوع هؤلاء حتى الموت. لن نُقدم لهم أي مساعدة”. بل كانت أقرب إلى قول: “لدينا فرصة لإيجاد حل مختلف”. وقد أتيحت هذه الفرصة بفضل وجود ترامب في البيت الأبيض وليس بايدن. لو كان بايدن هو من فعل ذلك، لا أعتقد أنه كان سيُسمح لإسرائيل بالاستمرار لما يقرب من ثمانين يومًا دون تقديم أي مساعدة، لكن يبدو أن موقف ترامب قد تغير الآن.
كيف تغيرت آراؤكِ بشأن نوايا حكومة نتنياهو خلال العام والنصف الماضيين؟
هناك أشخاص في الحكومة أوضحوا نواياهم بوضوح منذ البداية، وكانت تلك النوايا هي إخلاء غزة من سكانها وطردهم، وإعادة المستوطنات اليهودية هناك. لم أظن قط أن هذه نية نتنياهو نفسه، ولا أعتقد أنها كذلك الآن، ولكن يبدو أن.. كيف أقول هذا بطريقة غير سيئة؟
حسنًا، فقط قولي الأمر كما تفكرين فيه.
لا، لا أستطيع. لا أستطيع. [تتوقف عن الكلام]. يبدو أن نتنياهو نفسه تعامل مع حماس كعنصرٍ ثمين، والسلطة الفلسطينية كعائق، وسعى جاهداً لخلق انقسام بينهما، لأن حماس مكّنت سياسةً إسرائيليةً لا تُسهم في إيجاد حلول دبلوماسية للقضية الفلسطينية. أعتقد أنه عندما حدث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، أصبح من الواضح تمامًا أن هذا لم يعد ممكنًا. إن فكرة هزيمة حماس، مهما كان معناها، أو التخلص من دورها، أمرٌ تُوليه إسرائيل اهتمامًا كبيرًا.
لكن مع طول أمد الحرب، يبدو أكثر فأكثر أن بقاء حماس في السلطة قد يخدم مصالح حكومة نتنياهو، لأن هذا يسمح له بعدم تشكيل لجنة تحقيق، وهو أمرٌ يُريده الجمهور الإسرائيلي، كما أنه ذريعةٌ لعدم الذهاب إلى انتخاباتٍ يُحتمل خسارتها. لذا أعتقد أنه من الصعب عليّ فصل أهداف الحرب عن إستراتيجية نتنياهو لتحقيق بقائه السياسي والشخصي.
ألا تعتقدين إذًا أن نتنياهو نفسه يحاول وضع خطة لتجويع سكان غزة، ولكن قد تكون هذه هي النتيجة النهائية؟ وهو يسعى جاهدًا ليرى ما يمكنه الإفلات منه لأسباب أخرى؟ ثم إن هناك من في حكومته من قد يرغب في التطهير العرقي أو غيره؟ ويريد حربًا أبدية؟
أعتقد أنك تخلط بين أمرين؛ أهداف الحرب كانت إعادة الرهائن وتفكيك حماس، هذه كانت أهداف الحرب. أنا أفصل النقاش حول المساعدات الغذائية، فالأمران غير مترابطين.
كنت أحاول توضيح نقطة منفصلة، قد لا تتفق معها، وهي ببساطة أنه إذا كنت في مكان تقود فيه حربًا أبدية، فستحدث أمور سيئة للغاية، وخاصة أن لديك مجموعة من المجانين في ائتلافك. أسمعك تقول إن نتنياهو لا يسعى لتجويع الناس عمدًا، ولا تعتقد أن هذه خطته بحد ذاتها، ولكن إذا كان يريد حربًا أبدية – ونحن نعرف الظروف في غزة – عندما تسعى وراء الغايات، قد ترغب في الحصول على الوسائل أيضًا.
لا أعلم، أعتقد أننا ربما نقترب من نقطة ينفد فيها الوقت. لكنني أعتقد أننا بحاجة إلى التمييز بين أهداف الحرب والتكتيكات المتعلقة بالمدنيين. قال نتنياهو نفسه شيئًا من قبيل: “إذا كان سكان غزة في مكان خالٍ من حماس، من وجهة نظري، فيمكنهم تناول آيس كريم بن آند جيري هناك”.
هذا أمر رهيب.
لا أعرف ما إذا كان يهتم بما يأكلونه أم لا.
لقد طرحت هذه المخاوف بشأن خطة المساعدات الجديدة. هل تشعرين بالقلق من أنه حتى لو تدفقت المساعدات إلى غزة في وقت قريب جدًا، فإننا سنستمر في مواجهة أزمة لفترة لا بأس بها من الوقت بسبب مشاكل التوزيع ومدى تأخرنا في الوصول؟ لقد كتبتِ نسخة من هذه النقطة خلال فترة وقف إطلاق النار، عندما كانت المساعدات تتدفق إلى غزة.
اسمع، الوضع في غزة سيء للغاية. بالكاد توجد منازل قائمة، والناس لا يأكلون جيدًا، ولا يعملون، وهناك صدمة وموت وعدد كبير من المعاقين. من الضروري أن تبدأ المساعدات بالدخول ولكنها بالكاد تكفي. سنكون في هذه المرحلة الإنسانية، ومن ثم التعافي الطارئ وكل هذه الأشياء. أعني أن الأمر يحتاج إلى أكثر بكثير من مجرد عدّ بعض الشاحنات. هناك حاجة لذلك، لا تفهمني بشكل خاطئ، ولكن من أجل تحقيق تحسن ملموس، نحتاج إلى أكثر من ذلك بكثير. أنا قلقة أيضاً بشأن ما تعنيه المساعدات القليلة جداً؛ فقد يؤدي ذلك إلى حدوث تدافع ونهب ومشاكل أخرى. لقد شاهدنا أم وابنتاها تُسحقان حتى الموت أثناء وقوفهما في طابور عند أحد المخابز. جميع من تحدثنا إليهم من غزة، الجميع يعيشون في وضع محاولة البقاء على قيد الحياة. أشعر بالتفاؤل لرؤية بعض المساعدات تدخل، لكنها قطرة في محيط، هذه كارثة إنسانية ستستغرق سنوات لتجاوزها.
المصدر: نيويوركر