ثمة تصوّر مكرّر تتناقله إدارات الولايات المتحدة الأميركية المتعاقبة، حول “إرهابٍ” ما يهدد البلاد من الخارج. إلا أن فيلم “قنبلة مدينة أوكلاهوما: إرهاب أميركي” Oklahoma City Bombing: American Terror يقدم صورة مغايرة، من خلال إحياء ذكرى تفجير المبنى الفيدرالي في ولاية أوكلاهوما عام 1995، وهو أعنف عمل إرهابي داخلي في تاريخ الولايات المتحدة.
وإذا كان الفيلم لا يحمل الكثير مما يقال على المستوى الفني، إلا أن الواقعة نفسها، وبعد نحو ثلاثين عامًا على وقوعها، تفتح المجال للنقاش حول مفهوم الإرهاب نفسه أميركيًا. وعندما نقول “حول” ذلك الإرهاب فقد نعنيها فعلًا، ندور حولها على قدر تلاعب أمريكا باللغة والسياق في كل مرة، نحاول ترويضها لفهمها بأقل قدر ممكن من التعقيد الذي تصنعه أمريكا لتصعيب ذلك.
أمريكا التي لا تكتفي بالمشاركة في قتل الآخرين فقط، في غزة، فلسطين، أو في سوريا أو العراق أو اليمن أو غيرهم، بل ستقدم قصصًا حزينة عن مآسي جنودها بعد كل قتل.
فيلم “إرهاب أميركي” هو من نوعية الخطابات التي يتصدّر فيها الحديث عن الأموات سبيلًا لفهم كيف يعيش الآخرون. يستبدل الموت موقعه مع الحياة لإدراك السياق الواسع.
يقدم المخرج غريغ تيلمان نظرته للحدث في شريط سينمائي تسجيلي أتاحته منصة “نتفليكس” للعرض في الذكرى السنوية للتفجير (19 أبريل/ نيسان الماضي)، فيعيد طرح تساؤلات حول البديهيات التي يتناقلها “الرجل الأبيض” اليوم بخصوص منبع الإرهاب أو حتى أفكاره الآتية من خارج أميركا.
يقف ذلك الخطاب التسجيلي القصير (ساعة تقريبًا) في مواجهة شرائط سينمائية تأسست من اللحظة الأولى، يقبع في جوهر خطاباتها الإشارة إلى العصابات الأميركية التي تأسست البلاد كلها من خلالها، إذ يبدو تاريخها عمومًا رحلة مضنية من التجميل والتعديل المستمر بين ما حدث فعلًا وأوهام تجميل ما حدث.
يفتح الفيلم كذلك نقاشًا واسعًا حول دور الفن اليوم، كيف نوصّف الحقائق بموضوعية فنية وغير فنية، من داخل الإمبراطورية الأكثر إنتاجًا واستهلاكًا للسينما في العالم.
تعيش أميركا، كما غيرها، لحظات مفصلية في تاريخها، لا تنجو السينما فيها من السجالات السياسية الحادة، فعلى سبيل المثال، قاطع المحافظون في الولايات المتحدة أخيرًا فيلم “بياض الثلج” Snow White لأن بطلته انتقدت الرئيس الحالي دونالد ترمب ودافعت عن فلسطين، في حين قاطعه مؤيدو فلسطين لأن بطلته الثانية إسرائيلية تدعم الإبادة.
ذكريات الألم والصدمة
قبل ثلاثين عامًا، في 19 أبريل، قُتل 168 شخصًا وأُصيب المئات في تفجير مدينة أوكلاهوما، اعتُبر ذلك أعنف هجوم إرهابي داخلي في تاريخ الولايات المتحدة. يُخلّد النصب التذكاري والمتحف الوطني لمدينة أوكلاهوما قصصهم ويُكرّمها “لتذكر وحشية الهجوم وتعاطف الرد عليه، للتعريف بالأشخاص المتأثرين والقتلى والناجين، مما يُساعد على إبقاء هذه القصة ذات صلة وحيوية”.
بشكلٍ عام، الهيمنة الأمريكية كانت تقتضي تباعًا التخلص من خطايا الماضي، المرهونة غالبًا بـ”إرهاب” الآخر، كل الآخر. تقف اليوم إمبراطورية شديدة القوة، على حساب إضعاف ذلك الآخر حولها، بالقدر الذي تستطيع الوصول إليه. لذلك، ستجد استباق اتهامات “الإرهاب” إلى ما هو غير أمريكي، وتتحول تلك الاتهامات إلى محطة دفاع أوليّة آمنة تجعل الآخر العربي وغير العربي في مساحة دفاع عن نفسه، حتى لو لم يفعل شيئًا، بدلًا من التفكير في صانع الإرهاب الحقيقي.
كل تلك المقدمة تعني ببساطة أن فهم سياقات وتأثير الإرهاب كمصطلح يتماس أهميته وجوديًا مع أمريكا. يشكّل مركزًا رئيسيًا في تفاعلاتها المختلفة، بطاقة تعتمد عليها كلما اقتضت الحاجة، ليس مجرد فهم مصطلح فلسفي عابر. فالوجود الأمريكي يعتمد على كونها أولًا متجاوزة لحدوث الإرهاب في الداخل، ثم اعتبارها المحارب الأول له في الخارج. بالتالي، يصبح وجود أي عنف أو إرهاب في الداخل مصدر رعب للسردية الأمريكية المعتادة، وربما من هنا تأتي أهمية الحديث المباشر وغير المباشر عن حدث مثل تفجير أوكلاهوما، الذي يمثل إرهابًا داخليًا صنعه رجل أبيض.
لذلك، يبدو الفيلم مهمًا لأكثر من سياق، عربي أولًا، وعالمي بالضرورة.
اتُهم في التفجير تيموثي ماكفي، وهو جندي سابق في الجيش الأميركي، عاش مناهضًا للحكومة، خدم في حرب الخليج الأولى، وحُكم عليه بالإعدام وأُعدم بالحقنة المميتة في 11 يونيو/ حزيران 2001.
يعرض الفيلم مقابلات مع جهات إنفاذ القانون المنخرطة في القضية، بالإضافة إلى ضحايا الهجوم. كما يستمع المشاهدون إلى صوت ماكفي طوال الفيلم الوثائقي، مُقتبسًا من مقتطفات من حوالي 60 ساعة من مقابلات أجراها الصحافي لو ميشيل معه أثناء وجوده في سجن فيدرالي في كولورادو.
كان ماكفي واحدًا من عدة متطرفين استلهموا رواية “مذكرات تيرنر” لوليم لوثر بيرس (1978)، وهي رواية يفجر فيها بطلها مقر مكتب التحقيقات الفيدرالي باستخدام شاحنة تحمل متفجرات مماثلة لتلك التي استخدمها ماكفي في تفجير أوكلاهوما.
لتنفيذ ذلك التفجير، عمل ماكفي مع تيري نيكولز ومايكل فورتييه، اللذين خدما معه في الجيش، تحديدًا خلال القتال في حرب الخليج الأولى. الثلاثة أبناء لعقلية الجيش الأميركي، الذي يقضي أبناؤه سنوات طويلة في القتال المستمر، قبل أن يكتبوا أفكارًا متطرفة وعنصرية في كثير من الأحيان، تدفعهم إلى العنف احتجاجًا على ما يعتبرونه تخليًا من المؤسسة السياسية والعسكرية عنهم.
لا يصل الفيلم إلى هدفه دون مرور عابر، لكنه بدا كاشفًا لمحاولة فهمه عربيًا على الأقل. فيظهر في لقطات سريعة عدد من الأشخاص الذين يتشكّكون في احتمالية تورط “شرق أوسطي” بالتفجير. إحداهن تقول للشرطة إنها رأت سيدة محجبة، وآخر يخبر الشرطة أن يضيّقوا نطاق البحث بالشك في كل الشرق أوسطيين في المنطقة. والجميع في الداخل يتفق على استبعاد أن يكون الجاني الهارب رجلًا أبيض. يمر ذلك عابرًا رغم ثِقله وعدم فهمه تمامًا.
المهم أنه بعد الكثير من الشكوك في شخص ماكفي، الذي وُصف بأنه محدود الذكاء، يعود الفيلم ليتحدث مع الأشخاص الذين تعاملوا معه في العدالة الجنائية، مثل السجان الذي أخذ بصماته، وشرطي دورية الطرق السريعة الذي أوقفه في نقطة تفتيش مرورية منفصلة بعد حوالي ساعة من التفجير، عن اللحظات التي أدت إلى اعتقاله.
أثناء احتجاز ماكفي، كان مكتب التحقيقات الفيدرالي يجمع الأدلة التي تربطه بمسرح الجريمة، بما في ذلك قطعة من الشاحنة التي فجّرت المبنى. كانت القطعة تحمل رقمًا سمح للشرطة بتتبع السيارة إلى ورشة إليوت لتصليح السيارات في “جانكشن سيتي”، بولاية كانساس.
كان ماكفي جزءًا من حركة متطرفة أمريكية ثار غضبها من غارة فاشلة لمكتب التحقيقات الفيدرالي في واكو، تكساس، والتي أسفرت عن مقتل 76 شخصًا في 19 أبريل/ نيسان 1993. وكان تنفيذ تفجير مدينة أوكلاهوما في التاريخ نفسه بعد عامين عملاً انتقاميًا من الحكومة الفيدرالية. قال ماكفي لميشيل من السجن: “بدأت واكو هذه الحرب. نأمل أن تُنهيها أوكلاهوما”.
دوائر مغلقة عدمية
ترفض إحدى السيدات اللاتي مات طفلها في التفجير فكرة إعدام القاتل. وربما منها يمكن النظر أكثر في إبراز إعدامه الذي خلق إيحاءً كاذبًا، فيما يبدو، بأن أميركا بذلك قتلت إرهابها الداخلي. تمامًا مثل التعليقات الإنجليزية على الفيلم في مواقع التواصل وتقييمات الأفلام؛ عدد كبير من تلك التعليقات يتهامس عن الناجين، وقصص الإلهام التي حدثت، والقوة التي جعلت الجميع يتعايش، بينما المرور عابرًا أمام السبب والسياق. هكذا، وربما في كل مرة، يبدو المجتمع الأمريكي عصيًا على الفهم نسبيًا، بالنسبة إلى عربي مثلي على الأقل. يمكن أن يُمرّر ما يقرر هو أن يمرره، وأن يُبرز أتفه مشكلة لإقناع العالم بأنها مشكلة الجميع.
الفيلم يغطس سحيقًا في تفاصيل القبض على القاتل، والدمار الذي احتوته البلاد بثبات، والدعم الذي قدمه الناس لبعضهم البعض. ولا يقف أبدًا – ولو لمرة واحدة – أمام السياقات التي تسببت في خلق ذلك الإرهابي، والتي بدت على صلة مباشرة بالسياسات التي اختلفت حروبًا في الخليج وغيرها بالطبع، وباتت قاعدة منطقية للشطط والجنون الداخلي.
بدا الإرهاب في الخارج والداخل رهينًا بتساؤل: من تسبب في كل تلك الحروب التي لم تسفر عن شيء؟ ربما فيلم يتساءل بشكل غير مباشر لكنه لصيق بالبيت الأبيض، الذي يحدد مصائر الأموات والأحياء على السواء. بدلًا من العيش في دوائر مغلقة من التكرار، في السينما والحياة، ربما على أمريكا ذاتها عدم الاستمرار في ما يتسبب في الإرهاب، بالداخل والخارج.
في كل حديث عن المنطقة العربية المأزومة هنا والآن، يصبح ذلك مدخلًا مثاليًا إلى فهم الإمبراطورية الأقوى. إذ تصبح تلك الإشارات إلى الإرهاب “الشرق أوسطي” وحده مدخلًا لفهم الجرأة الأمريكية المستمرة. ستجد ادعاء وجود ذلك الإرهاب العام في العراق، كما في سوريا واليمن وغيرهم، في قائمة لا يمكن حصرها تمامًا. هذا الإرهاب – وفق أمريكا – عربي المنشأ عالمي التأثير، وهو نتاج ظرف تاريخي يجعله متأصلًا في تلك المنطقة وحدها، باختلاف دولها. ويؤمّن قطاع كبير من المجتمع الأمريكي على تلك الفرضية غير المحددة السياقات كمسلّمة، سواء تمظهر ذلك “الإرهاب” في أحداث فردية مفاجئة داخل أميركا أو خارجها.
اليوم، رغم كل ذلك، تقف الإمبراطورية بكامل قوتها، متناسيةً أي احتمال للنتائج الداخلية لما تفعله. تنتصر بحكومة يمينية متطرفة تقف في مواجهة العالم كله تقريبًا، أحيانًا بالقوة، وأحيانًا أخرى بالاستحقاق غير المفهوم. إنها لحظة فارقة قد تعيد تخيّل وقوع إرهاب حقيقي، سواء من الداخل أو الخارج. وربما، بدلًا من التفكير في حدث قديم راح ضحيته أبرياء، قد تصبح تلك السياسات سببًا لحدوث أعمال مشابهة، لو لم تتغير المعادلة، كما يتمنى كل عاقل.